توازنات “مستحيلة”: سورية بين نفوذ الخارج وتفكك الداخل

وسط مشهدٍ سوريٍّ مضطرب، تقف قيادة الرئيس أحمد الشرع على مفترق طرقٍ حاسم، يتداخل فيه ما هو داخليٌّ بما هو خارجيٌّ، وتتقاطع فيه تحذيرات الحلفاء مع ضغوط الواقع المتفجر ع الأرض. فبعد أشهرٍ قليلة من إطاحته بنظام الأسد، يبدو أن الزخم الذي حمله إلى السلطة بدأ بالتآكل سريعاً، في ظل تصاعد التوترات الطائفية والقبلية، وتراجع الأمل بمرحلة انتقاليةٍ مستقرة

دعوة المبعوث الأميركي إلى سورية، توماس برّاك، الشرع إلى “تغييرٍ سريع” وتبنّي نهجٍ أكثر شمولاً، لا تنفصل عن تقييمٍ واضح: فالشرع يفقد الزخم والدعم الذي رافق صعوده، ويبدو الآن رهينة إخفاقات الداخل وانقسامات الحلفاء. تصريحاته التي بدت حادةً وغير دبلوماسية -“إن لم أفعل، سأفقد طاقة الكون التي كانت تقف ورائي”- تعكس قلقاً أميركياً متنامياً من أن سورية قد تنزلق مجدداً إلى فراغٍ سياسيٍّ خطير، لا يوجد بديلٌ جاهزٌ لملئه

أحداث السويداء الأخيرة جاءت لتكشف عن هشاشة المعادلة التي تعهد بها الشرع، حين وعد بحماية الأقليات واحتواء المكونات الاجتماعية في إطارٍ وطنيٍّ جامع. لكنها في الواقع، أظهرت العكس: انزلاقاً إلى العنف الأهلي، وتوظيفاً للبنى التقليدية من طوائف وعشائر كمصدر “شرعيةٍ اضطراريةٍ”، في غياب مؤسسات دولةٍ قادرةٍ على الضبط والحماية. أما الرواية الرسمية التي تتنصل من مسؤولية قوات النظام عن انتهاكات السويداء، وتحيلها إلى عناصر منتحلةٍ أو تدخلاتٍ أجنبية، فهي تعكس مأزقاً عميقاً في بناء الثقة

التقرير الذي أعدته لجنة تقصي الحقائق حول أحداث اللاذقية زاد الصورة تعقيداً، إذ أظهر -بحسب ما تسرب- وجود نمطٍ من الإفلات من العقاب، وعن تداخلٍ بين الجماعات المسلحة المحلية والأجهزة الأمنية، ما يعكس انقسام السلطة على الأرض، وتآكلاً لمركزية القرار. لا يمكن لقائد يسعى لترسيخ “شرعيةٍ جديدة” أن ينجح وسط شبكةٍ من الفاعلين المحليين غير المنضبطين، وحساباتٍ إقليميةٍ تتعارض مع منطق بناء الدولة

في هذا السياق، تبدو دعوة برّاك إلى التماسك الوطني وبناء حكمٍ شامل أكثر من مجرد نصيحةٍ دبلوماسيةٍ عابرة. إنها إنذارٌ مبكر، موجّهٌ إلى القيادة السورية الجديدة بأن الفرصة التي وفّرتها لحظة ما بعد الأسد لن تطول. فمع تراجع الخطاب الجامع، وبروز هوياتٍ متصارعة، وانقسام الدعم الإقليمي والدولي، فإن الانهيار ليس سيناريو مستحيلاً 

ورغم تأكيد برّاك أن الولايات المتحدة لا تفرض شكلاً سياسياً معيناً، فإن رسالته واضحة: أي مسارٍ لا يقود إلى الشمول والاستقرار والعدالة، سيفتح أبواب الفوضى، وسيعيد التجربة السورية إلى دائرة العنف المفتوح، وربما إلى نماذج أكثر سوءاً من ليبيا وأفغانستان، كما حذّر صراح

دعوة المبعوث الأميركي باراك للشرع إلى ‘تغيير سريع’ تعكس قلقاً متنامياً من انزلاق سوريا إلى فراغ سياسي خطير، خاصة مع تراجع الزخم الذي حمله إلى السلطة

إن ما يواجهه الرئيس أحمد الشرع اليوم لا يقتصر على اختبارٍ للقدرة القيادية أو على إعادة ترتيب أوراق الحكم، بل هو امتحانٌ وجوديٌّ لمفهوم الدولة ذاته في سورية ما بعد الاستبداد. فالإرث الثقيل الذي خلّفه نظام الأسد لا يقتصر على أنقاض مؤسساتٍ منهارة، بل يمتد إلى شروخٍ في النسيج الاجتماعي، وانهيارٍ في مفهوم المواطنة، وتفككٍ في البنية الوطنية لصالح هوياتٍ فرعيةٍ متناحرة. إن الشرع، وهو يواجه ضغوطاً داخليةً من مراكز قوى دينيةٍ وعشائرية، وخارجيةً من حلفاء قلقين وأعداء متربصين، مطالبٌ بأن يتجاوز دور “القائد المنتصر”، ليتحوّل إلى مهندس عقدٍ اجتماعيٍّ جديد، يؤسس لسورية لا تُدار بالغلبة، بل تُبنى بالتوا

الشرع يقف اليوم بين مطرقة المطالب الدولية المتزايدة بالإصلاح والانفتاح، وسندان البنى الاجتماعية المتفككة والصراعات المحلية المتأججة. ما لم يتخذ خطواتٍ جريئةً لتجاوز هذه الثنائية القاتلة، فإن نظامه لن يكون استثناءً في سجل الانهيارات السورية المتتال

المشكلة التي تهدد مستقبله ليست في ضعف الإنجاز، بل في غياب الرؤية. فإن أي محاولة لترميم الشرعية بدون شراكةٍ سياسيةٍ حقيقيةٍ ستبقى هشة، وأي تهاونٍ في كبح جماح القوى المتطرفة -سواء كانت دينيةً أو قبليةً- سيعيد البلاد إلى مربع الفوضى. إن التحدي الحقيقي ليس في الحفاظ على السلطة فحسب، بل في إعادة تعريفها، بوصفها أداةً لخدمة مجتمعٍ تعدديٍّ، منهك، لكنه لم يفقد بعد رغبته في وطنٍ جامع. الشرع الآن أمام لحظةٍ فارقة: فإما أن يبني مشروع دولة، أو يضاف اسمه إلى قائمة الزعامات العابرة في تاريخ سورية المنكوب

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *