بقيتْ عشرات الأسئلة الجوهريَّة التي تتعلَّق بالهويَّة السُّوريَّة غائبةً مغيَّبةً عن أذهان العامَّة ومستثناة من أطروحات معظم المثقفين حتَّى نشوب الحرب باعتبار أنَّ الهويَّة “العربيَّة الاشتراكيَّة الإسلاميَّة” تعتبر الصِّفة الدُّستوريَّة لسوريا “البعثيَّة العَلمانيَّة!” ونقاش هذه الهوية المعقدة قد يفضي إلى اتهامات خطيرة كخدش الشُّعور القومي وتثبيط عزيمة الأمَّة وتهديد السِّلم الأهلي …إلخ.
وعلى الرَّغم أن “الدُّستور الجديد” لم يأتِ بجديد فيما يتعلق بهويَّة المجتمع السُّوري “العربيَّة الإسلاميَّة” إلَّا أنَّ أحداً لم يعد يأبه بالدُّستور أو ما يشير إليه كما لم تعد السُّلطة بمؤسَّساتها المهترئة قادرةً على ضبط القوالب وصهر العقول في أفران الحزب.
وحيث لم تكن هذه “الهويَّة الدُّستوريَّة” المعلَّبة بإشراف المؤسَّسات الدِّينيَّة والتَّربويَّة والأمنيَّة تعكس الصُّورة الحقيقيَّة لمجتمع متعدد الأعراق والأديان ومنفتح على تيارات فكريَّة متباينة وكثيرة كان من الطَّبيعي أن تتصدَّع مع تصدُّع سلطة تلك المؤسَّسات نفسها. ومع ارتفاع صوت البنادق وازدياد عمق الخنادق سال مفهوم الهويَّة وتسرَّب من بين أصابعِ كلّ من يحاول القبض عليه وكأن هويَّة المجتمع السُّوري كانت زئبقاً محتجزاً في زجاجةٍ كسرتها الحرب.
القوميَّة الاشتراكيَّة
لنتفق أن قضية التَّعامل مع هويَّة المجتمع ونحتها تعتبر من أبرز اهتمامات الحاكم الجديد من باب أن وجود هويَّة واضحة المعالم منحوتة بأيدي حزبية ماهرة يعني تجنُّب الدُّخول في نزاعات داخليَّة مع التَّيارات الفكريَّة والقوميَّة والدّينيَّة المتباينة وتحويل مجرى الولاءات الفرعية باتجاه ولاء واحد هو الولاء للحزب والقائد؛ هذا ما جعل معظم الأنظمة العربيَّة تركب موجة القوميَّة وتتسلَّح بشعاراتها بعد نكبة العام 1948، وعندما كان الفلاحون والعمَّال يشكِّلون نسبة كبيرة في العالم العربي عموماً كانت الاشتراكيَّة هي الرَّديف المناسب للقوميَّة العربيَّة، هذه التَّجربة التي شهدتها “مصر النَّاصرية” وعاشتها “سوريا البعثيَّة” والعراق وليبيا حتَّى فترة قريبة، فكانت القوميَّة العربيَّة هي السَّرج الذي سهَّل الركوب فوق ظهر الشَّعب والاشتراكيَّة هي المهماز الذي سارت به القافلة.
تزامن مشروع الهويَّة العربيَّة الاشتراكيَّة مع حملة إلغاءٍ وإقصاءٍ شعواء لم تبدأ باستئصال الأحزاب السِّياسيَّة ولم تنتهِ بانكماش الحياة الثقافيَّة وانخفاض أعداد المطبوعات ودور السِّينما والمسارح وتحويل ما تبقى من منابر ثقافية إلى منابر حزبية ليصبح “التَّطبيل” شعار جميع الكيانات المسؤولة عن التَّأثير بالرأي العام اعتباراً من نشوء الوحدة بين سوريا ومصر وحتى انطلاق شرارة الحرب عام 2011.
وقد تمكَّن حزب البعث في سوريا من إنشاء سلسلة مترابطة الحلقات عملت على مدى عقود لرسم ملامح مجتمع عربي اشتراكي لا مكان فيه لأي تيارات فكرية أخرى ولا مكان فيه بطبيعة الحال للتيارات القوميَّة الأخرى أو للتيارات الدِّينية التَّوافقية منها والمتعصِّبة.
أمَّة عربية واحدة!
على جدران المؤسسات الحكومية وأسوارها كتبت شعارات الاشتراكيَّة والقوميَّة العربيَّة، على غرار (اليد المنتجة هي اليد العليا في دولة البعث)، و (أمَّة عربيَّة واحدة ذات رسالة خالدة) وغيرها من الشِّعارات الرَّنانة التي على الرَّغم من تأثيرها القوي في عاطفة السُّوريين في السِّتينات والسَّبعينات إلا أنَّها بدأت تفقد معناها مع مرور الزَّمن وأيقن معظم النَّاس أنَّها شعارات ساذجة لا طائل منها، لكن الاعتراض عليها باهظ الثمن، وقد أجل المجتمع دفع الثمن سنوات طويلة مع فائدة تراكميَّة.
فمنذ وصول الأسد الأب إلى السُّلطة خطَّط الحزب للتَّعامل مع الجيل الجديد وزرع تلك الشِّعارات القوميَّة الاشتراكيَّة في أذهانهم منذ الولادة وحتَّى الموت من خلال تحويل المدارس لمعسكرات حزبية هدفها خلق انتماء وولاء أعمى للحزب وتمسك بمبادئ القوميَّة الاشتراكيَّة من باب أن لا بديل لها ولا منافسة تذكر وترسيخ أنَّ القيادة أوسع نظراً.
الأطفال الذين ردَّدوا شعارات القوميَّة العربيَّة لم يكونوا كلهم عرباً! ولدى العرب منهم أفكار مبهمة عن الأكراد والأرمن والتركمان…إلخ. غالباً ما تظل مبهمة حتَّى مرحلة عمريَّة متأخرة. لذلك لم يكن من المضحك أن يردد الكوردي شعار (أمَّة عربيَّة واحدة)!.
انهيار القومية الاشتراكية
هكذا إذاً، جمع الحزب الحاكم في سوريا الخيوط الاجتماعية وربطها معاً في عقدة مستحيلة الحل معتمداً على إخصاء جميع المنصَّات التي من شأنها أن تقدِّم رؤية مغايرة لرؤية “الأخ الكبير” وحزبه، فلا نقابات مستقلَّة ولا أحزاب سياسيَّة حقيقيَّة ولا جمعيات أهليَّة، لكنَّ هذه البنية أخذت تتصدع تدريجياً بعد وفاة الرئيس حافظ الأسد.
فخلال السنوات العشر التي سبقت الحرب بدا أن الحزب يتخبط في محاولته إدراك معطيات المرحلة الجديدة، فتراجعت السُّلطة عن عسكرة المدارس وتقلَّصت سلطة الفِرق الحزبية نسبياً كما بدأ التَّنازل عن المبادئ الاشتراكية من خلال رفع الدعم جزئياً وتعزيز القطاع الخاص على حساب القطاع العام ما أتاح الفرصة للصوص جدد معظمهم أبناء اللصوص القدماء، ولا يمكن التنبؤ إلى أين كانت ستسير الأمور لو لم تكن الحرب.
ومما ساهم أيضاً في تفكيك هذه المنظومة القوميَّة الاشتراكيَّة قبل الحرب هو انهيار مشروع القوميَّة العربيَّة نفسه بانسحاب أقطابه الرئيسية من الشَّراكة غير الفعالة أصلاً ونشوء تحالفات جديدة بين سوريا ودول غير عربيَّة جعلت من الشِّعارات القوميَّة أكثر سذاجة فضلاً عن تخوين الدول العربية ووضعها على النقيض من محور الممانعة والمقاومة ما جعل الشِّعار الشهير (وحدة حرية اشتراكية) مجرد كلمات يرددها طلاب المدارس، ولا ضرورة للحديث عن الحرية هنا.
فيما بقيت الضرورة ملحَّة لجعل القائد “قبلة وطنية” كل من يرفضها خائن، وتلح على الذاكرة عند هذه النقطة الشخصيات المصابة بمتلازمة المتنبي كافور، كالمغنية أصالة التي غنت (حماك الله يا أسدُ فداك الروح والولد….إلخ) والمخرج الممثل المسرحي همام حوت الذي سخر مسرحه لتمسيح الجوخ وقرع الطبول للرَّئيس الشَّاب “بشار الأسد” في حينها، وغيرهم من الشَّخصيات العامَّة التي نقلت البندقية من كتفٍ إلى آخر وكأنَّها لم تساهم في تشويه وعي جيلٍ بأكمله.
سوريا علمانية إسلامية
من البديهي أن اعتبار الإسلام مصدراً رئيسياً للتشريع في دستور عام 1973 لم يكن إلا من باب المجاملة والمسايرة، فلا يمكن القول أنَّ سوريا البعثية دولة إسلامية أو أن لحزب البعث الحاكم توجهاً إسلاميا، بل كل ما كان يرمي إليه هو تجنُّب المواجهة مع تيار الإسلام السِّياسي على الأقل ريثما يحكم قبضته على الحكم، وعندما شكًل الإسلام السِّياسي خطراً على السُّلطة والمجتمع كان الرَّد قاسياً من خلال أحداث حركة الإخوان المسلمين في حماة عام 1982.
ومع تشديد القبضة الأمنية على الإسلاميين باختلاف درجاتهم في سُلَّم التَّطرف أبرمت السُّلطة صفقة مع مجموعة من رجال الدِّين حصلت من خلالها على مباركة دينيَّة مقابل امتيازات شخصيَّة وبعض الامتيازات العامَّة من باب سدِّ الذَّرائع كبناء عددٍ كبيرٍ من المساجد ومعاهد الشَّريعة وتحفيظ القرآن، وقد تجددت هذه السِّياسة مع بدء الحرب من خلال افتتاح قناة دينيَّة رسمية وتأسيس مجموعة من المنشآت الدينيَّة الجديدة والاعتماد على رجال الدِّين المحسوبين على السُّلطة لاستمالة المتسربين من الإسلام المتطرِّف نحو الإسلام المعتدل الذي يتزعمه مشايخ السُّلطة الجدد.
كما بدأ التَّرويج لفكرة سوريا العَلمانيَّة بالتزامن مع التَّرويج للإسلام السُّوري المعتدل، هذا “التخبيص” الرسمي بملامح الهويَّة السًّوريَّة لم يكن سذاجةً أو غباءً بل محاولة ذكية لتشتيت السُّوريين ليغنيّ كلٌّ منهم على ليلاه تحت جناح السُّلطة، ومهما كان توجهه سيجد نفسه محشوراً في زاوية من زوايا الحزب تدلف عليه مزاريبه.
بناء على تلك الاستراتيجية العجيبة لا يمكن القول إن المجتمع السُّوري كان في يوم من الأيَّام مجتمعاً إسلاميّاً خالصاً وإن استطاعت التَّنظيمات الإسلاميَّة المسموحة والممنوعة اجتذاب فئات اجتماعيَّة عريضة، كما لا يمكن الادِّعاء أنَّه مجتمع عَلماني لأن الإقصاء ثقافة راسخة عند السُّوريين ورثوها عن السُّلطة كما أنَّ السُّلطة الدِّينيَّة العرفية لم تتأثر بكلِّ هذه الانقلابات والشقلبات وبقيت ذات سطوة لا يستهان بها فيما لم تعمل أي جهة رسميَّة أو غير رسميَّة على مواجهة هذه السَّطوة.
من جهة أخرى لا يمكن إيجاد ما يدل على علمانية الدَّولة أو المجتمع في سوريا، فالغالبيَّة المسلِمة وإن كانت لا تضطهد الأقليات اضطهاداً صارخاً لكنها لا تعترف بهم إلَّا بوصفهم أقليات يمكن التضحيَّة بهم، كما اعتبرت الدَّساتير البعثية الإسلام مصدراً رئيسياً للتشريع -مع نزع أل التعريف-وحددت دين رئيس الجمهورية وهذا يلغي بالضرورة المادة التي تنص على المساواة في الحقوق والواجبات بين جميع المواطنين ما دام هناك من لا يحق له أن يترشح لمنصب الرئيس لاعتبارات دينية! فضلاً عن عشرات النقاط التي تجعل من صفة العلمانية في سوريا فكاهةً مريرة.
الحرب وتفتيت الهويَّة السُّورية
إذا كانت الحكومة السُّوريَّة قد تعاطت مع الأزمة التي تواجهها بأسلوبها المعهود لكن بنطاق أوسع فالمعارضة السِّياسيَّة والمسلَّحة لم تأتِ بجديد، إقصاء وتغييب ومصادرة للآراء وخطاب تفريقي وابتزاز عاطفي ولعب على الأوتار الرَّنانة المشدودة جميعاً إلى الجهل والقطيعية.
وبما أنَّ الفجوات والشُّقوق التي اعترضت طريق السُّلطة خلال فترة الاستقرار محشوَّة جميعها بعجينة الدِّيناميت كان من الطبيعي أن تنهار جميع الرَّوابط التي قد تجمع بين الفئات الاجتماعية في سوريا بمجرد أن تفقد السلطة زمام المبادرة وتتحول لمصارع في حلبة يجلِدُ ويُجلَدُ، ولم تكن التنظيمات المسلحة أو المعارضة السِّياسية أكثر أمانة ووطنية في التعامل مع فتات المجتمع السُّوري الواقع بين حجري طاحونة.
فقد عملت المعارضة على الاستفادة من جميع الفروق الطائفية والمناطقية بين مؤيدي السُّلطة ومعارضيها من العامَّة لتمتين المتاريس وكسب النقاط وتوسيع قاعدتها الشعبيَّة مستغلة مظلومية الناس، كما أنشأت المعارضة في مناطقها أجهزة أمنية لا تقل بطشاً عن أجهزة الدولة تلاحق معارضي المعارضة وتفتك بهم، وبشكل تدريجي اكتسبت المعارضة هوية إسلامية متطرفة رغماً عن أنف المعارضين المعتدلين أو المعارضين للمشروع الإسلامي وللدولة في آنٍ معاً والذين وجدوا أنفسهم منفيين ومرفوضين لا صدى لكلماتهم، أو مخصصين للتعامل مع المجتمع الدولي بوصفهم من نفس جلدة الغرب “العلماني الكافر!”.
ومع تطور جغرافيا الحرب تجدد “الحلم الكوردي” بإنشاء دولة مستقلة، وعلى هامش هذا الحلم أحلام كثيرة أقل أهمية لفئات أخرى لا يمكن التنبؤ بمصيرها، فما يحدث اليوم من استهداف للأكراد السوريين من قبل الجيش التركي والجيش السُّوري الحرّ بمباركة من السُّلطة ومن الروس والأمريكيين لا يمكن النَّظر إليه إلَّا باعتباره طعنة جديدة في ظهر الهويَّة الوطنيَّة السُّوريَّة وإراقة لدماء السُّوريين بأيدي سوريَّة.
حالياً يمكن القول أنَّ لكلِّ عشرة أشخاص في سوريا انتماءهم الخاص الذي يميزهم كبصمة الإبهام، والمحزن أنَّه حتَّى تاريخه لا وجود لمحاولة جادَّة أو فعَّالة لوضع أسس جديدة لمجتمع جديد تجمعه هويَّة وطنيَّة قائمة على احترام الآخر مهما كان عرقه أو طائفته أو توجهه السِّياسي، فجميع الحلول المطروحة تنتهي إلى اجتثاث أو سحق فئة أو أكثر من فئات المجتمع، فضلاً عن كون المؤسَّسات الرَّسميَّة والأهليَّة المعنيَّة بإعادة تكوين هويَّةٍ وطنيَّةٍ جامعة كلُّها مخصيَّة ومعطلَّة، هذا يعني أن التَّقسيم إن لم يحدث على أرض الواقع حتَّى الآن إلَّا أنَّه وقع على مستوى الهوية.