منظومة الدولة القانونية هي المنظومة المعمول بها عالميا في هذا العصر , هذه المنظومة ليست قومية بشكل خاص , أي أنه من الممكن أن يتكون مجتمع الدولة من عدة قوميات, أو أن يكون لعدة دول قومية واحدة , كذلك الأمر بالنسبة لمفهوم الأمة , يمكن لمجتمع الدولة الواحدة أن يتضمن عدة أمم , ويمكن لأمة واحدة أن تتوزع على عدة دول, مفهوم الدولة بالصيغة القانونية الدولية هو المفهوم ذو الاولوية مقارنة مع مفهوم القومية-الدولة أو مفهوم الأمة -الدولة, الدولة بصيغتها القانونية العالمية هي كيان غير مجرثم بالقومية , التي تمثل الطريق الأقصر للعنصرية والشوفينية , والغير مجرثم بمفهوم الأمة المطاط والهلامي الخداعي , فالدولة هي مشروع سياسي ذو اطار خياري طوعي يرتكز على قناعة انتمائية , الدولة بشكل مختصر هي ترجمة لعقد اجتماعي أي “اتفاقية ” بين الناس , كل انسان يستطيع الانضمام الى هذه الاتفاقية , وذلك بغض النظر عن انتمائه الثانوي ..الديني … القومي …العرقي الاثني ..الخ .
هناك العديد من المشاريع بخصوص اي دولة ,بالنسبة لسوريا يمكن اعتبار المشروع السوري القومي الاجتماعي نظريا من أكثر المشاريع قابلية للتصور , لكن حتى الانشغال بهذا المشروع الآن أصبح عمليا نوعا من العبث , فقبل توحيد الدول يجب اقامتها , لاوجود لدول في سوريا الكبرى باستثناء اسرائيل , فلا سوريا بقيت دولة , ولا لبنان أصبحت دولة ولا دولة في العراق والأمر مشابه في بقية الكيانات الناطقة بالعربية , التي سعى العروبيون الاخوان الى اقامة دولة عربية جامعة منها , دون أن يدركوا أن توحيد الدول يتطلب وجود هذه الدول سلفا , واقامة الدولة يفترض وجود مجتمع , لا وجود لمجتمعات بالمعنى العلمي لهذه الكلمة في الكيانات العربية العشائرية القبيلية الدينية ,مفهوم مجتمع الدولة مختلف جدا عن مفهوم الطائفة أو الشعب او القبيلة او العائلة الخ .
لقسم من سكان سوريا هوية عربية أو هوية أممية دينية عابرة للحدود او هويات ثانوية أخرى , حديثا استيقظت الهوية العثمانية, بعد أن قدم الاخونجي اردوغان نفسه كخليفة أو سلطان , الهوية الثانوية مثل الهوية الدينية مختلفة بشدة عن الهوية الوطنية , هنا استبدل البعض الهوية الوطنية بالهوية الدينية او العرقية او العشائرية او غيرهم , وبذلك فقد هؤلاء الهوية الوطنية المجتمعية , وتحولوا الى اتباع لكيانات تعتبر اوطانا وهمية , مثل “وطن” الخلافة , أو وطن الدولة العربية من المحيط الى الخليج الخ , مواطنون أوطان وهمية لا وجود لها , المواطن في سوريا هو ” سوري” كالمواطن الأمريكي او البريطاني او الألماني بالنسبة لأمريكا أو بريطانيا أو المانيا , المواطن السوري هو ” سوري ” وليس عربي او فينيقي أو عثماني أو قريشي أو فرنسي او غير ذلك !, لايجوز استبدال هوية بأخرى خاصة استبدال هوية ثانوية بهوية أولية ,ولا علاقة للهوية الأولية السورية بالهويات الثانوية كالهوية الدينية أو العشائرية او غيرهم من الهويات الثانوية .
لكي لانغرق بالأوهام كما غرق الغير , يجب وضع المشاريع التوهمية في مكانها الثانوي المناسب , لحسن الحظ وبالرغم من الانتكاسات والالتباسات وضمور الوعي الاجتماعي الوطني لم تتحول سوريا لحد الآن الى وهم , بالرغم من كثرة توهمات البعض , سوريا وغيرها من دول هذه المنطقة كانوا من صنع سايكس ـ بيكو ,وسايكس -بيكو هو من قدم للسوريين “وطنا”, لم يقدم آل عثمان بالرغم من احتلال دام ٤٠٠ سنة للسوريين وطنا ,ولم يقدم آل قريش بالرغم من احتلال دام ١٠٠٠ عام للسوريين وطنا , الولاية التابعة للسلطان او الخليفة ليست وطن , انما مستعمرة قبيحة , لكونها بنظر الخلفاء والسلاطين غنيمة حروب الفتوحات !.
يشكر مشروع سايكس -بيكو لأنه خلق للسوريين دولة قانونية حسب العرف الدولي وباعتراف دولي بها وبحدود جغرافية شرعية دوليا , لايتعارض هذا الترتيب المرحلي مع اعتبار سوريا الصغرى جزءا من سوريا الكبرى ,ولا تمثل اقامة دولة سوريا الكبرى هدفا خلاصيا للسوريين, تستطيع سوريا الحالية أن تبقى كما هي الآن , أو أن تتغير الى شكل أفضل , في ظروف يمكنها تحقيق الأفضل,وللأفضل اشكالا مختلفة قد تكون متعاكسة , والأمثلة على التعاكس كثيرة في هذا العالم , ففي الوقت الذي يقام به الاتحاد الأوروبي ينفصل جنوب السودان عن شماله , وقبل ذلك انفصلت باكستان عن الهند , ثم انفصلت بنغلا دش عن باكستان, وولدت ثلاثة دول من رحم يوغوسلافيا والأمثلة على الانفصالات أكثر من الأمثلة عن الوحدات , لذا فان مستقبل سوريا يبقى كغيرها مفتوحا على كل الاحتمالات , مثل تجزأة او وحدة فيدرالية او اندماج مع غيرها أو حتى بقاء سوريا كما هي او زوال سوريا كمشروع دولة قبل التحول الى دولة , من يستطيع القول ان لبنان سيبقى كما كان ؟
اقامة دولة بحدود جديدة ليس بالأمر السهل في هذا العصر,ولكنه ليس بالأمر المستحيل, لقد اتفقت الدول الأوروبية ,على أن الحدود التي رسمت بينها بعد الحرب العالمية الثانية نهائية,لكن الظروف فرضت الغاء هذه الحدود لاقامة الاتحاد الأوروبي ,بعد الحرب العالمية الأولى تمت اقامة دولة سوريا من قبل الحلفاء (سايكس -بيكو) , ورسمت لها حدودا تم الاعتراف بها دوليا ,وكان بامكان سوريا أن تبقى كما وجدت قبل قرن من الزمن ,الا أن بقاء سوريا كما وجدت قبل قرن من الزمن ليس بالأمر الحتمي الممكن المؤكد, انما يخضع لظروف قاهرة ومتغيرة .