سمير صادق,عثمان لي :
نظرة تأملية على النظم العربية , مثل النظام السوداني قبل الأخير , الذي أتى على ظهر دبابة وأسس نظاما شموليا تيوقراطيا , الغى الأحزاب السياسية واقام منظومة الشريعة , البشير كان نظاما استعدى كل العالم , من الجيران شمالا وجنوبا الى عموم المجتمع الدولي ,الى أن تفجرت في وجهه الأزمات والكوارث والانقسامات والمذابح والمطاردة من قبل محكمة الجنايات الدولية ,بالرغم من ذلك حكم عشرات السنين ولم يكن بالامكان ترحيله الى بيته أو الى السجن أو الى القبر ,الا بعد عقود من الزمن الدموي الفاسد , الآن ستستقبله محكمة الجنايات الدولية بدون مليارته .لقد كان لدى الأنظمة العربية قدرا ليس بالقليل من امكانيات المناورة خارجيا وداخليا , وفي هذا المجال كانت هناك بعض التنازلات من قبل الأنظمة , التنازل الوحيد الذي لم يكن ممكنا , كان فراق كرسي الحكم والتفريط بالسلطة , لقد كان هناك استعدادا لبيع الوطن أو تدميره أو الفتك بالشعب الخ , الا السلطة !!,
يؤكد الواقع أن حالة العديد من مجتمعات العرب , التي توفرت لديها شروط الثورة ,استصعبت التغيير من الداخل , أي من خلال ثورات وانتفاضات داخلية , فالأنظمة مستأسدة وعنيفة ولا وجود في قاموس العرب والسلطات العربية لما يسمى تنازل طوعي تحت أي ظرف او في أي حالة كانت , لربما تيمنا بالتراث والممارسات التي سادت طوال ١٥ قرنا , التغير كان بانقلاب عسكري أو تدخل خارجي مسلح أو اغتيال الخليفة ,مثل ثلاثة ارباع الخلفاء الراشدين , أو على يد الخارج كما حدث في العراق وليبيا , بالرغم من تطور العالم , بقيت معظم النظم العربية التيوقراطية أو الديكتاتورية العسكرية مستعصية على التغيير بطرق سلمية , راوغت النظم لفقت واحتالت على سبيل المثال من خلال انتخابات شكلية أطلق عليها زورا اسم “أعراس ” الديموقراطية , أتت هذه الأعراس بنتائج رسمية مفجعة وصادمة مثل انتخاب عبد الناصر او حافظ الأسد أو صدام حسين ب ٩٩,٩٩ ٪ من الأصوات , بذللك قتلت الشفافية والاستقامة , وتم تأبين وجنازة الحقيقة والصدق وتحولت المناسبة الانتخابية الى شرشحة ومأتم وتهريجية لايعرف هذا العصر أو حتى التاريخ عموما شبيها لها .
ماهي أسباب استعصاء معظم الأنظمة العربية على آليات التغيير الداخلية , التي تنصاع لها أغلبية دول العالم , كالتظاهر أو التمرد أو العصيان المدني أو الانتخابات الشفافة ؟ أحد أهم الأسباب العديدة كانت ثقافة الطاعة , فطاعة السلطان أو الوالي ضرورة أو فرض , وقد جاء في توصيف هذه الحالة عن لسان عبد الرحمن الكواكبي ان ” الشعوب هم قوة المستبد , عليهم يصول ويجول , يأسرهم فيتهللون لشوكته , ويغصب أموالهم فيحمدونه على ابقاء الحياة , ويهينهم فيثنون على رفعته , ويغري بعضهم على البعض فيفتخرون بسياسته , واذا أسرف في أموالهم يقولون كريما , واذا قتل منهم ولم يمثل يقولون رحيما ,يسوقهم الى خطر الموت فيطيعونه” ثم هناك النصوص” يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم …الخ ثم ” مَن أطاعني فقد أطاع الله , ومَن يعصِني فقد عصى الله ومن يطع الأمير فقد أطاعني , ومَن يعصي الأمير فقد عصاني (كتاب الامارة ) , هناك العشرات من الأوامر والدعوات لطاعة السلطان ,ولا لزوم لذكر المزيد .
عموما تقوم الطاعة على ” التكليف ” لا على الحقوق, وهي اشبه بنظام عسكري مؤسس على الانصياع التام وعدم الاعتراض والنقد والتغيير , الطاعة عمياء في طبيعتها , تلغي عقل المطيع وتحذف ارادته التي تحتلها عندئذ ارادة الاستبداد , وبالتالي يتم اختذال العقل , الذي لامهمة له اي عاطل عن العمل في ظل الاستبداد , اختزال العقل يعود بالمخلوق البشري الى حالته الحيوانية , التي تتمثل بممارسته لغرائزه والحفاظ على وجوده الفيزيائي , الذي تضمنه قناة الهضم, انه مخلوق المعلف الذي يتحول الى مايشبه القناة , حيث يدخل العلف من جهة وتخرج الفضلات من جهة أخرى, سمي لذلك مخلوق الشرج والفرج .. يأكل وينكح , انه مخلوق طفيلي غريزي قطيعي, مصيره العدم والاندثار ولو بعد حين ,
لكي يستتب أمر دولة السلطة , يحب تشييئ الانسان , وذلك لتمكين الطغيان من البطش والفتك به , التشييئ يبخس الانسان ليصبح بقيمة الشيئ التافه الرخيص, خسارة انسان تحت التعذيب مثلا كخسارة الشيئ , وقيمة الأنسان تتدنى الى اقل من قيمة الرصاصة التي تخترق رأسه.
من أهم ميزات الطغاة العرب , كانت ميزة التوحش والحيونة مع انعدام أي سقف أخلاقي , الفتك بالبشر ضرورة أمنية توجب رجم المعارض المتمرد, كالضرورة الأخلاقية في استسهال رجم الزانية , لذلك يتردد البعض في تعريض حياتهم للخطر من أجل وطن ليس بالوطن, من أجل سجن كبير,من أجل حديقة حيوانات بحجم الوطن ,الانسان متهم ولاديا, أي فورا بعد ولادته, وعليه في ماتبقى من حياته عبادة سلطان الأرض المتاله والتملق له الى جانب تفاخره بممارسة الانصياع والطاعة , لذلك يمكن القول ان الانسان يولد ويموت في نفس اللحظة .
هناك خللا كبيرا في ادراك العموم لمفهوم الدولة والسلطة , أصلا وجدت الدولة لتبقى , أما السلطة فوجدت لتزول , تمثل بؤس الحال في العكس , السلطة وجدت لتبقى , بينما لامانع من زوال الدولة , حتى ولو بقيت السلطة بدون دولة , السلطة وجدت لخدمة الدولة , بينما يعتبر العموم البائس ان الدولة وجدت لخدمة السلطة , كالمعتقد الذي وجد لخدمة الانسان , بينما العموم يعتبر الانسان خادما للمعتقد ,السلطة تابعة للدولة , بينما يعتبر العموم الدولة تابعة للسلطة ,انها دولة السلطة وليست سلطة الدولة , نتيجة لهذا الالتباس تعتبر اي محاولة لاقتلاع السلطة بمثابة محاولة لاقتلاع الدولة , فالسلطة تعتبر نفسها دولة , هناك اذن تماهي بين الدولة والسلطة وعدم ادراك الفروق بين الدولة والسلطة , كما كان الحال طوال ١٤٠٠ سنة دولة سلطة , والأمر لم يتغير حتى الآن .