نيسرين عبود:
قامت الدولة السورية قبل حوالي مئة عام على أسس المجتمع الأبوي التقليدي , الممثل لمزيج من القومية والمذهبية اضافة الى العشائرية والعائلية , قيام دولة على هذا الاساس يترافق عادة مع نوع من الهشاشة التي تقود الى الانفراط وبالتالي انتهاء وجود هذه الدولة .
الدولة الأبوية أميرية أو خلافية ….الخ ,هناك الأمير أو ولي الأمر أو الخليفة , الذي بيده الحل والربط كما هو الحال في الأسرة البطريركية الأبوبة , حيث على رب الأسرة أن يكون ربا يحد مسلكية الأسرة اقتصاديا واجتماعيا , ورب الأسرة في الدولة هو أب الجميع وراعي الرعية ومنقذ الجميع , وبما أنه بتلك الميزات فلا بد من الامتثال لأوامره مهما كانت , أي أنه بذلك عبارة عن ديكتاتور شرعي , وما على الرعية الا تبجيله وامتداحه لخدماته ومكرماته وخيره , حيث أنه لايمثل الشر بأي حالة كانت , انه الخير المطلق والحاكم الحق , لذلك فهو غير معرض للنقد …انه الله على الأرض .
للدولة الأبوية تمظهرات عدة لاتستقيم مع علم الاجتماع السياسي باستثناء الاسم , فالهياكل الحزبية الحديثة تستثمر وفق عقلية أبوية قديمة قدم التاريخ العربي الاسلامي , فرئيس الجمهورية هو الخليفة الآمر الناهي وبيده السلطة الزمنية كاملة, هو رأس الهرم ومرضه على سبيل المثال يمثل مرض الهرم من قاعدته الى قمته ,
لاوجود للمؤسسات في النظام الابوي , تلك المؤسسات التي تدير أمور الدولة في حالة غياب القمة مرضيا أو لسبب آخر , والامثلة التي سأقدمها ستبرهن عن ذلك , لقد أصيب الرئيس حافظ الاسد بالمرض , وهكذا تشكلت عند من يعتبر نفسه وريثا أي عند أخيه رفعت الأسد قناعة بأن الارث قاب قوسين أو ادنى .
الرئيس المريض كان بكامل وعيه وبعد تعافيه من المرض شرع فورا بترتيب صفقة تتضمن خروج الوريث قسرا الى المنفى مع كل مايرغب به من مال , ويقال بأن المبلغ الذي احتوته حقائب الوريث تجاوزت ثلاثة مليارات دولار , ولأن هذا المبلغ الزهيد غير متوفر في بيت المال , كان من الضروري استدانته من القذافي الذي لم يتوان عن مساعدة زميله في الرئاسة , وهكذا حمل رفعت الأسد الأموال ورحل .
كيف يمكن فهم وتقييم هذه الصفقة , التي تمت بعد أن دفع كل فرد سوري لرفعت الأسد حوالي مئة ألف ليرة سورية , هل يمكن فهم ذلك في أطار أي مفهوم سياسي أو قانوني , وهل يستقيم ذلك في اطار أي عقد اجتماعي أو وجود دولة بالمعنى الحقيقي للكلمة.
لايستقيم ذلك الا مع منظومة الدولة الأبوية , التي لاتأبه لشيئ الا لارادة رأسها , وهكذا استزف رفعت الأسد بصفقة واحدة مايعادل نصف ميزانية البلاد , هنا ولسمح القارئ لي بسؤال بسيط , هل توظيف هذه الأموال في تنمية البلاد أسوء من اعطائها لرفعت الأسد ؟
لقد تعرفنا في ثمانينات القرن الماضي على العنف الأصولي , وقصة حماه كانت على درجة كبيرة من الدلالات , لقد أظهرت هذه الحادثة وجود خلل في بنية المجتمع السوري الذي لم يتطور كما يجب عليه أن يتطور , تطور المجتمع لم يصل الى حد تقبل هذا المجتمع لعقد اجتماعي يضع سوريا على طريق التقدم والازهار ,
من الخطوات التي رأتها قمة الهرم ضرورية كانت خطوة اقامة مئات من مدارس تحفيظ القرآن عانم 1985 وذلك ارتاكسا لحوادث حماه وتعلما من درس حماه , وقد كلفت لرئاسة السورية آنذاك الشيخ عبد الله علوش والد زهران علوش بمهمة انشاء هذه المدارس على أساس المذهب الحتبلي , كلفة التأسيس كانت بالنهاية من حظ المواطن السوري , شكليا كانت الكلفة على الرئيس , الا أنه في المجتمع الأبوي لافرق بين جيب الاب وجيوب الأولاد !
السؤال الذي طرحه العديد من السوريين بخصوص مدارس تحفيظ القرآن كان عن الهف من هذه المدارس وعن قيمتها التربوية والعلمية , وهل كثرة هذه المدارس دليل على تكاثر معالم التقدم , وهل اقامة هذه المدارس من مصلحة الوطن السوري ؟ وما هي علاقة اقامة هذه المدارس مع مصلحة الأب راعي الرعية ؟؟؟؟
بما أن الدولة الأبوية تقليدية ودينية عشائرية اضافة الى ذلك , فانه من المتوقع وجود العديد من أوجه التقاطع بين مصلحة الرأس وبين رؤوس المؤسسات الدينية , فالتناقض بين المصالح كان في حماه , والتقاطع مع المصالح كان في بعد حماه , واقامة مدارس تحفيظ القرآن كان نوعا من البرطلة للمؤسسة الدينية الاصولية السلفية , وماذا عن مصلحة الوطن ؟؟؟
تتميز الدولة الأبوية بشكل عام بوجود شعارات فضفاضة تفرزها قريحة رأس الهرم , ولا مساءلة عن نسبة الانجاز من هذه الشعارات , الشعارات بحد ذاتها , حتى بدون انجاز , تمثل حكمة الحاكمية وذلك كالحكم الالهية , وهل سأل الله يوما ما عن نسبة الانجاز لشعاراته ؟