الأستاذ الكرّ ونزار قباني…

بقلم: خطيب بدلة

كاريكاتير الفنان أكرم رسلان  المعتقل منذ سنتين  بسبب  هذه الصورة, نضم صوتنا الى  أصوات ١٢٠ رسام كاريكاتوري  عالمي طالبوا باطلاق سراحه , الحرية لسوريا وشعبها !

أذكر، حينما كنت أؤدي الخدمة الإلزامية في إحدى المدارس العسكرية بالمنطقة الوسطى، أن صادفتنا مناسبةٌ تاريخية كبرى، وهي الذكرى الثامنة لقيام الحركة التصحيحية المجيدة، وقد جيء بالطبل والمزمار إلى الساحة الرئيسية التي أمضى الجنودُ بضعة أيام وهم يزينونها بصور القائد التاريخي البطل حافظ الأسد، وأعلام الجهورية العربية السورية، وأعلام البعث العربي الاشتراكي، وصور تحكي عن بطولات الجيش العربي السوري الباسل حينما خاض حرب تشرين التحريرية، دون الإشارة إلى أننا خسرنا، في هذه الحرب، أرضاً عربية سورية جديدة غير التي تنازلنا عنها سنة 1967

وبينما كنا نحن المجندين نجري الإحماءات اللازمة للنزول إلى ساحة الدبكة، منتظرين لعلعة صوت الطبل وترغلة المزمار، إذ صاح ضابط كبيرٌ بنا أن ننتبه فانتبهنا. قال

– أنتم المجندين غير المتطوعين. هل يوجد بينكم أحدٌ من خريجي الأدب العربي؟

فرفع صديقنا عبد المجيد يده، باعتباره خريجاً. 

فقال له الضابط: هل تحفظ قصيدة توجيهية كَيّسة؟

ارتبك عبد المجيد من وقع المفاجأة وقال له: نعم سيدي، أحفظ.

فقال له: تعال إلى المنصة بسرعة.

وحينما أصبح عبد المجيد وجهاً لوجه مع الميكروفون انطلق يلقي قصيدة نزار قباني التي ألقاها في أعقاب حرب تشرين (أكتوبر) 1973:

أتراها تحبني ميسونُ

أم توهمتُ والنساء ظنونُ

كم رسول أرسلته لأبيها

ذبحته تحت النقاب العيونُ

يا ابنةَ العم والهوى أمويٌّ

كيف أخفي الهوى وكيف أبينُ

فجأة، غام وجه الضابط، واضطربت أحوالُه، وتقدم من عبد المجيد يريد إسكاته، بل تهيأ لنا أنه سيصفعه!.. ويبدو أن الطبال انتبه إلى أن ثمة مشكلة وشيكة الحدوث، فنقر على طبله نقرات متتالية، التقطها الضابط فأوعز له أن يبدأ، ففعل، وترغل المزمار، وتَدَفَّق العساكر إلى الأمام بمرح شديد، مخالفين نظام “الصف العسكري”، وفي طريقهم دفعوا عبد المجيد، فانكفأ إلى الأمام، وأوقع الميكروفون على الأرض، وامتدت الأيدي إلى الجيوب لتخرج السبحات والمناديل، ودخلنا جميعاً في حالة دبكة عفوية، قوامها القيام والانحناء والتمايل و(النَخّ) المفاجئ، وتناول أحد المتحمسين عصا طويلة (نبود) وشرع يُلَعِّبُها على أصابعه، واستمر يفتلها برشاقة وهو ينثني حتى أصبح مستلقياً على قفاه، والنبود يبرم في الهواء! 

وأما نحن أبناء مهجع (الرقباء أولين) الجامعيين المجندين، فقد دخل الرعب إلى قلوبنا بسبب ما جرى لزميلنا عبد المجيد، وأثناء انخراطنا بالدبكة أخذنا نمشط المكان بأبصارنا بحثاً عنه، ولكنه اختفى بطريقة (فص ملح وذاب).. وهذا ما أثار خوفنا، وخشيتنا من أن يُلحق به ذلك الضابط الأذى. 

وزاد في خوفنا أكثر أن عبد المجيد لم يكن بيننا حينما عدنا إلى المهجع بعد انتهاء الدبكة، وجلسنا نتباحث في الاحتمالات المختلفة التي تحيط بموضوعه، وكان أخطرها الاحتمال الذي عرضه مدرسُ الكيمياء مصطفى الذي قال إن الضابط قد يمسك على عبد المجيد عبارة (الهوى أمويٌّ)، ويتهمه بأنه سعى إلى بث الروح الطائفية (السنية)!

مضى الليل بطوله ولم يأت عبد المجيد.. وفي الصباح حضر. كان شعره حليقاً، وعيناه منتفختين من كثرة السهر والإرهاق. 

تكاثرنا عليه، وبدأنا نُزاحم عليه الأسئلة والاستفسارات، ونعرض عليه مخاوفنا والاحتمالات التي وضعناها بخصوص غيابه.. ولما تمكن من إسكاتنا قال:

– لا لا لا. الموضوع أبسط من ذلك بكثير. فالضابط، بعد أن أفرغ جام غيظه علي، وأرسلني إلى الحلاق ليجز شعري، واحتجازي في غرفة التوقيف، وبعدما تعشى في مكان إقامته، وأخذ كأسين من عرق الريان، وروق، خطرتُ أنا بباله، فاستدعاني، وقال لي:

– ولاه. هل تعلم أنك كر؟

قلت: لا والله. ولكن يجوز أن أكون كراً وما عندي خبر.. ولكن ما هو دليلك؟

قال: يا كر.. أنا طلبت منك قصيدة توجيهية عن بطولات السيد الرئيس حافظ الأسد.. قمت حكيت لي عن بنت عمك الجحشة هاي شو اسمها؟ ميسون.

قلت: يا سيدي، هذه ليست بنت عمي. فصاحب القصيدة هو نزار..

قاطعني: مين نزار ولاه كر؟ قصدك نزار قباني؟

قلت: نعم.

قال: على راسي والله. نزار قباني هو سيد مين كتب شعر غزل بالنسوان. ولكن هذا الشعر مو هون مكانه. نحن عم نحتفل.

قلت: القصيدة ليست غزلية سيدي. إنها تتكلم عن حرب تشرين.

قال: العمى لو كان صحيح. اقرا لي اياها لأشوف.

فلما قرأتها له أمر بإطلاق سراحي وأعطاني إجازة لمدة أسبوع! 

ضحكنا فأضاف: أي نعم. وهو الآن جالس يتدرب على قصيدة نزار يريد أن يلقيها بنفسه في أول احتفال قادم!

 

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *