أتعرفون..! لا أريد أن أعيد ما قيل عن افتقاد محكمة أمن الدولة العليا للشرعية القانونية، عداكم عن أية شرعية أخرى. وإن كانت تروس أحكامها “باسم الشعب العربي في سورية”! أو بأي ترويسة أخرى! وكل محكمة لا تتبع وزارة العدل وتخضع للقانون المدني السوري هي محكمة غير قانونية بالضرورة. بل كل قانون يتعارض مع الدستور، ومع المواطنة، ومع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.. هو غير قانوني حتى إن وقف شعر رأس فقهاء التبرير والمماحكة القانونية!
لكن، أريد فقط أن أتساءل عن “أهداف ثورة الثامن من آذار” التي حكمت تلك المحكمة على الكثيرين أحكاماً مبرمة غير قابلة للطعن ولا للاستئناف وتخضع فقط لمصادقة الحاكم العرفي (نعم.. الحاكم العرفي في سورية!)، حكمت على الكثيرين بتهمة “مناهضة أهداف ثورة الثامن من آذار”! وآخرهم الطالبين محمد عرب ومهند الدبس الذين احتجا، بالاعتصام أمام مكتب رئيس الجامعة وليس في ساحة عامة أو أمام السفارة الأمريكية التي تبدو كقلعة حصينة في قلب دمشق، على قرار الحكومة بإيقاف التزام الدولة بتعيين المهندسين الخريجين! ولدتُ، للأسف، في الثاني من شهر آذار لعام 1965. وببساطة الأغبياء يعني هذا أنني لم أعش يوماً واحداً خارج (ثورة الثامن من آذار)! ولا أعرف ثورة أخرى من أين نوع كانت! ولم أمض لحظة واحدة من حياتي، التي امتدت أربعين عاماً حتى الآن، خارج السيطرة المطلقة لقانون الطوارئ الذي يسيطر على كل تفاصيل حياتي ليل نهار! ودأبت طوال اثني عشر عاماً متواصلة من الدراسة في المدارس السورية على ترديد (أهداف ثورة الثامن من آذار) صباح كل يوم دراسي. تحت طائلة المسائلة والفصل والطرد والملاحقة والاعتقال..! ودأبت طوال بضع سنين كنت فيها مواطناً صالحاً، أي عضواً في حزب البعث العربي الاشتراكي قبل أن يتم فصلي لإثارتي الشغب بطرحي أسئلة لا يريدون طرحها، دأبت على ترديد شعار الحزب في افتتاح كل اجتماع. الأمر ذاته الذي حدث معي في اتحاد شبيبة الثورة. ويبدو أنني لم أفهم أبداً ما هي (أهداف ثورة الثامن من آذار)! بل يبدو أن هذه أيضاً (حمّالة أوجه)! فما علمونا إياه هو أنها (الوحدة والحرية والاشتراكية)! وهناك كتب كثيرة، وأعداد هائلة من مجلة المناضل وجريدة المسيرة، ونشرات حزبية وشبيبية و.. لا تعد تشرح هذه الأهداف! ومع ذلك، ليس هناك كلمة واحدة تقول، أو تشير، أو تلمح، أو حتى تسمح بالاستنتاج أن احتجاج بضعة طلاب أمام مكتب رئيس الجامعة التي يدرسون فيها يتعارض مع هذه الأهداف! خاصة مع ذلك الهدف المسمى (الحرية)! ولا يعنينا الآن ما الذي تبقى من هذه الأهداف، خاصة الهدف الأخير: الاشتراكية! ما يعنينا فقط هو: ألم تتفتق عبقرية محكمة أمن الدولة العليا، والقائمين عليها عن تهمة أخرى أقل مثاراً للسخرية؟! تحت هذه التهمة حكمت محكمة أمن الدولة العليا في العقود الماضية (ودائماً مع الأشغال الشاقة والتجريد من الحقوق المدنية)، خاصة في العقدين الأخيرين، أناساً كثيرين ينتمون إلى أحزاب وتنظيمات شيوعية وقومية وإسلامية، وأشخاص مستقلين لا ينتمون إلى أي حزب أو منظمة أو حركة.. أشخاص أكاديميون ومحافظون ومتحررون و.. أليس غريباً هذا! أن يجتمع كل هؤلاء تحت تهمة واحدة هي (معارضة أهداف ثورة الثامن من آذار)! في الحقيقة لا أريد أن أقول إن استمرار قانون الطوارئ والأحكام العرفية هو عار ما بعده عار! ولا أن محكمة أمن الدولة هي محكمة يجب أن تلغى رسمياً وقانونياً وتلغى معها كل أحكامها وآثار أحكامها.. اليوم قبل الغد! ولا أن قانون الطوارئ ومحكمة أمن الدولة العليا وجميع القوانين الاستثنائية عاجزة بالمطلق عن إيقاف تقدم الحياة..! ولا أن هذا الحكم بالذات، على الطالبين محمد عرب ومهند الدبس يثير حنقاً يضغط على صدر كل مواطن..! ما أريد أن أقوله الآن هو فقط: جدوا تهمة أخرى أيها السادة! تهمة تليق بمقامكم! وتليق أيضاً بواقع الحال! تهمة تثير شيئاً آخر غير قهقهة صاخبة مليئة بالدموع!