دمشق من الداخل:بيروت زمن الحرب , وتحسب لمواجهة طويلة

تختلف دمشق في عصر الأزمة عما كانت عليه من قبل. تبدو وكأنها انتقلت من مرحلة تلقي الصدمة الى مرحلة التعايش معها، لتكتسب شيئا فشيئا، مع تنامي التجربة والخبرة بعضا من ملامح شخصية بيروت، أيام الحرب الأهلية.
وإذا كان «الشبح الأمني» بات من زوار العاصمة السورية مع تكاثر الحوادث المتنقلة، من تفجيرات واغتيالات، إلا أن الضيف الآخر الذي يمكن رصد آثاره بوضوح هو ذاك الحراك السياسي، غير المألوف، الآخذ في التنامي والاتساع، منذ بداية الأزمة.
لقد كُسرت الحواجز النفسية وخرجت السياسة من «القمقم»، ليتوزع السوريون بين موال ومعارض، على وقع نقاشات محمومة، تخلت عن «كواتم الصوت»، فاستعاد خصوم النظام من عامة الناس «حنجرتهم»، ولم يعد بعضهم على سبيل المثال يجد أي حرج في الترويج لأفكاره «الثورية»، بصوت مرتفع وعابر للسقوف، خلال ارتشاف فنجان قهوة… على مقربة من أحد مراكز المخابرات.
في الشكل، تنتشر المكعبات الإسمنتية حول مقرات أجهزة الأمن والمخابرات، في ما يشبه «مربعات أمنية» مصغرة، وعلى الطرق تظهر حواجز ثابتة وطيارة تدقق في الهويات، الى جانب الدوريات غير المرئية والتي يختفي عناصرها خلف الزجاج الداكن لسياراتهم، أما التفجيرات الناتجة عن سيارات مفخخة او عبوات ناسفة فإنها تكاد تصبح اعتيادية، الى الحد الذي يجعل تأثيرها محصورا في أمكنة حدوثها، بينما تستمر الحياة طبيعة في الأنحاء الأخرى، ليلا نهارا.
أما في المضمون، فإن النقاشات المحتدمة في العاصمة السورية، على مستويات حزبية وشعبية، تُبين ان هناك وجهات نظر عدة لفهم ما يجري، يمكن التوقف عند اثنتين بارزتين منها:
وجهة النظر الأولى، يعبر عنها أنصار «المعارضة العقلانية» التي تبدو أكثر واقعية من «الفروع الأخرى»، ما يفسر بقاء العاصمة نسبيا خارج إطار المواجهات الدموية الواسعة. يؤكد الناشطون في هذه المعارضة انهم مع تغيير النظام ورحيل بشار الأسد، لكن بطريقة سلمية وديموقراطية، من دون عنف وإراقة دماء، مشددين في هذا المجال على وجود فارق جوهري بين «تغيير» النظام، كما ينادون هم، وبين «إسقاطه» كما يحاول الآخرون.
وإذ يعتبر هؤلاء ان النظام السوري لم يعد قابلا للإصلاح، يُقرون بأن مناخا جديدا قد ساد بعد بدء الاحتجاجات، وأن ما يقولونه الآن بصوت مرتفع كانوا لا يتجرأون على البوح به لأنفسهم في السابق، على ان اللافت للانتباه هو انتقادهم لما يسمونه «الأحقاد الشخصية لبعض القيادات اللبنانية على بشار الأسد»، مشيرين الى ان هذه الأحقاد تستفزهم الى حد كبير، برغم انهم من أشد المعارضين للأسد.
ويعتقد هذا الفريق من المعارضين المقيمين في دمشق، انه يمكن فرز اتجاهات الشعب السوري في الوقت الحاضر كالآتي:
– ثلث مع النظام والأسد لاسباب مصلحية او لاعتبارات فئوية او لخوف من المستقبل المجهول.
– ثلث مع المعارضة بكل أشكالها، بما فيها تلك المسلحة.
– ثلث محايد وصامت، لا يمكن احتسابه هنا او هناك، وهذا الجزء من الشعب لم يتحرك بعد ولم يقل كلمته الأخيرة حتى الآن، وربما يكون هو القادر في نهاية المطاف على حسم الأمور متى حدد وجهة سيره وخياره النهائي.
ويُحمّل «الدمشقيون» من ذوي النَفَس المعارض الأسد المسؤولية عن الوصول الى المأزق الحالي، معتبرين ان الأسد خيّب الآمال، نتيجة عجزه عن مواجهة محيطه الفاسد او عدم رغبته في ذلك، ما أفسح المجال امام استئثار مجموعة من المتنفذين وأصحاب السطوة بمقدرات البلد، «فيما تُرك لأجهزة المخابرات والأمن أن تُطبق على أنفاس المواطنين الذين باتوا يتطلعون الى استعادة كرامتهم، قبل كل شيء».
ويرى هؤلاء ان التظاهرات المؤيدة للنظام ليست عفوية، بل ان غالبية المشاركين فيها هم من موظفي القطاع العام الذين يدركون انهم سيفقدون أعمالهم إذا لم يلبوا الدعوات الى التظاهر، كما ان المرتبطين بشبكات المصالح والنفوذ والمنتفعين منها يستميتون في دعم النظام دفاعا عن مكتسباتهم، «أما الانتخابات النيابية فهي تصبح في هذا السياق مجرد مزحة ثقيلة، لان الظروف الراهنة لا تسمح بإجراء انتخابات حرة ونزيهة، وما يهم السوريين في هذه اللحظة هو استعادة كرامتهم وحريتهم، وليس اختيار نواب لن يكونوا سوى بيادق فوق رقعة شطرنج السلطة».
في المقابل، يملك «الموالون الدمشقيون» وجهة نظر أخرى، ما تزال تملك قدرة واسعة على الاستقطاب، وفق ما يظهر من خلال التفاعل مع الشارع والأوساط السياسية. يؤكد أنصار الموالاة ان النظام دُفع الى الزاوية الضيقة، ولم يعد أمامه من خيار سوى المواجهة بأشكالها المختلفة، سواء ارتضى ذلك ام لا، تماما كما حصل في حرب تموز حين لم يكن امام «حزب الله» من سبيل سوى خوض الحرب المفروضة عليه، بمعزل عن النتيجة المحتملة وعن موازين القوى القائمة.
ويضيف المتحمسون للنظام: لقد وجدنا ان ظهرنا الى الحائط ولا بديل عن خوض معركة حياة او موت، ليس للنظام ولكن للدولة التي أصبح وجودها واستمرارها على المحك. وللمناسبة، نحن ندرك ان المواجهة قد تطول، بأنماط مختلفة، ولذا فإننا نُعد أنفسنا لكل الاحتمالات وأسوأ السيناريوهات، بما فيها فرضية ان تستمر الأزمة حتى العام 2015 وربما أكثر.
ويعتبر «الموالون الدمشقيون» ان الخطر الداهم يتجاوز النظام بذاته ليطال سوريا التي يراد تفتيتها وتحويلها الى محميات طائفية ومذهبية، ويروي مسؤول كبير في إحدى مؤسسات حزب البعث انه فوجئ ذات يوم بابنته تسأله معاتبة بعد عودتها من المدرسة: لماذا أخفيت عني انتمائي المذهبي، ومن أكون، كل هذا الوقت؟ فأجابها بأنه لم يتعمد طمس هويتها، ولكن لم تكن هناك حاجة لإبرازها والتعامل مع الآخرين من خلالها.. ويضيف: بعدما بلغت عوارض الأزمة منزلي الذي يُفترض ان لديه ما يكفي من الحصانة والمناعة، أيقنت ان المطلوب إيقاظ العصبيات الضيقة لدى السوريين وإغراقهم في الفوضى، على حساب مبدأ المواطنة.
يعترف المتحمسون للموالاة بأن النظام ارتكب أخطاء ولكنهم يشددون على ان تصحيحها لا يكون بارتكاب الخطايا. بالنسبة إليهم، الأوطان والدول ليست حقول تجارب، وبالتالي هم يعتقدون ان نظاما منخرطا في مشروع إصلاحي، له ما له وعليه ما عليه، هو أفضل بألف مرة من الرهان على معارضات مشتتة، لا تحمل مشروعا واحدا وواضحا، وكل منها يغني على ليلاه.
ويدعو أصحاب هذا الطرح الى مقاربة الانتخابات التشريعية بواقعية، على قاعدة انه إذا كانت الظروف الحالية غير ملائمة لإجراء أفضل انتخابات ممكنة، فالأكيد ان حصولها يبقى افضل من عدمه، ولا بأس في اعتبارها بمثابة تمرين على السلوك الديموقراطي والتعددية السياسة، في ضوء الدستور الجديد، ذلك ان حزب البعث بحاجة الى حصص تدريبية للتكيف مع الواقع الجديد حيث لن يكون قائد الدولة والمجمتع بعد اليوم، والأحزاب الناشئة بحاجة الى هذا الاختبار الانتخابي حتى تكتسب الخبرة.

 

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *