أحمد فايز الغوار:
– تتفاقم الأزمة الوطنية في سوريا منذ حوالي السنة، ولا تلوح، في المدى المنظور، بارقة أمل في الوصول الى حلّ لها. البلاد تعيش حالة أقرب ما تكون لحالة الحرب، بل أصعب مما كانت عليه أيام الحروب التي عرفتها في الماضي. فالجيش ينتشر على مساحة الوطن وفي المدن ويقيم الحواجز على الطرق العامة بين المدن والبلدات والقرى، والعنف المضاد لعنف السلطة آخذ في الاتساع. يرتبط التفاقم بجملة شروط وظروف، في مقدمتها إصرار النظام منذ البداية، وحتى الآن، على رفض الاعتراف بوجود أزمة وطنية، ليس الاحتجاج الشعبي سوى التعبير عنها. فإذا كان منشأ الأزمة بنية النظام، فإن نموها مرتبط بالسياسات القائمة على إلغاء الحريات والنفي الواقعي لمبدأ المواطنة وتغييب سيادة القانون، وبالسياسات الاجتماعية الاقتصادية، التي ترافقت مع الانتشار الوبائي للفساد وأدت، خلال ممارستها في العقود الأربعة الماضية، وخصوصا منذ العام 2000، إلى استيلاء القلة على ثروات أسطورية متأتية من نهب المجتمع والمال العام، وإلى إفقار فئات واسعة من المواطنين ونمو البطالة وانعدام الأمل لدى الشباب في حياة كريمة ومستقبل آمن. لكنه يتعلق أيضا بتجاهل حقيقة أنّ حل أزمة بهذا العمق والتعقد هو شأن من صلب السياسة، لا بدّ أن يتأسس على إدراك فوات النظام وغربته عن المجتمع، وضرورة الانتقال إلى نظام جديد يؤمن مستوى معقولا من المشاركة السياسية الحرة للمواطنين، ويلبي الحاجات الاجتماعية المحتجزة بالقوة للأغلبية، وينال رضى الناس. ويتعلق أخيرا بواقع أنّ الحل الأمني الذي سارت عليه السلطة منذ بداية الأحداث، لم يدفع بالأزمة إلا نحو المزيد من التفاقم، وحال ولا يزال يحول دون الوصول الى حلول مقبولة من المجتمع ومن الأطراف الداخلية المشتبكة بالأزمة.
لم يكن من الممكن، إذاً، جمع الحل الأمني والحل السياسي في وقت واحد وعلى صعيد واحد. بل لم يكن التلويح بالحل السياسي إلا لتغطية الحل الأمني. لقد نسبت السلطة الأزمة لمؤامرة خارجية، ولم تستطع، بالأحرى لم ترد الفصل بينها وبين المؤامرة التي حولتها إلى مشجب علقت عليه كل ما يجري. حتى المؤامرة، المفترض توقعها من أطراف مختلفة معادية للبلاد أو للنظام قبل انفجار الأحداث، أو بعد انفجارها وتوفر شروط مناسبة لها، لم تُستوعَب أبعادها، فجرى تضخيم البعد المتعلق بالنظام، وإهمال أو تجاهل الأبعاد المتعلقة بسوريا الكيان والدولة والدور والموقع الاستراتيجي. لقد حجبت الشجرة رؤية الغابة التي تقع وراءها. ولو كان تقدير الأوضاع صحيحا وسليما، لتصرفت السلطة بطريقة أخرى وبذلت الجهود الجدية للتعامل الصحيح مع الانتفاضة الشعبية، بتلبية مطالبها المشروعة التي اقتصرت في البداية على إصلاح النظام، والحيلولة، بالتالي، بين المتآمرين الواقعيين والمفترضين، والاستفادة من الجو الذي خلقه عنف السلطة. ما جرى في الواقع هو العكس. وما اتخذ من تدابير أو خطوات تحت عنوان الإصلاح، كان إما متأخرا، وبالتالي قليل الفاعلية أو عديمها، أو شكليا أدّى إلى الضد من هدفه المعلن. فكأن السلطة توفر للمتآمرين، الذين تعلنهم أعداء لها، أجواء ملائمة للمضي في التآمر وظروفا مناسبة تغريهم بإمكانية النجاح.
2- على أرض الواقع، يلاحظ الانزياح التدريجي، من الحراك السلمي إلى اللجوء إلى استخدام السلاح. ثم اتساع رقعة المواجهات المسلحة، وتواترها وازدياد شدتها، وانتقال المسلحين الى تطوير أساليبهم في نوع من حرب العصابات، بما في ذلك الانتقال إلى الهجوم على حواجز الجيش، ونصب الكمائن الموجهة ضدّ أفراد أو مجموعات من الجيش أو رجال الأمن، لكن خصوصا في السيطرة على مناطق واسعة في الريف، وعلى بعض الأحياء الداخلية لبعض المدن والبلدات والقرى في الليل وأحيانا في النهار، ولمدد زمنية مختلفة تمتدّ لأسابيع. يضاف الى ذلك، حصول اغتيالات عديدة في مدن مختلفة، وتفجيرات، نسب بعضها لـ”القاعدة”، تناولت مراكز أمنية وجرى تخريب مؤسسات عامة (أنابيب نقل النفط والغاز والسكة الحديدية). في المحصلة، المبادرة باستخدام العنف، لم تبق وقفا على النظام، الذي، بمواجهة ذلك، زاد في زجّ القوات المسلحة في الأحداث، وأخذت الممارسة ترتدي طابعا حربيا يتجلى بحصار المدن وتطويق الأحياء وقصفها وتهديم البيوت فوق رؤوس ساكنيها، كما جرى مؤخراً في بعض أحياء حمص.
الاتجاه من أسلوب الحراك الاحتجاجي السلمي، الذي هو الضمانة الأكيدة للتغيير، إلى العمل المسلح لا يعني تضييق قاعدة الحراك فقط، بل ربما دفعه للتقهقر، عدا أن العمل المسلح يحتاج الى المال والسلاح. بذلك تنتقل قضية التغيير الديموقراطي الجذري من الحراك الشعبي السلمي إلى العمل المسلح الضيّق بالضرورة، ومن الداخل السوري إلى الخارج الغربي والخليجي، وتخضع، بالتالي، لإعادة صياغة موافقة لأهداف هذا الخارج وتصوراته. وبدلا من أن تكون القضية ممسوكة بالأيدي السورية، يضع الآخرون أيديهم عليها، وهي الأقوى.
يشير السياق الذي يسير فيه الوضع العام، وخصوصا في جوانب السياسة والأمن والاقتصاد، إلى المخاطر التي تواجه البلاد والمجتمع. الممارسة الواسعة للعنف طوال هذه المدة، وما رافقها من اختلال الأمن، والغلاء الحاد والمفاجئ، ترفع التوتر بين الناس، وتنشر في دوائر ليست قليلة مزاجاً طائفياً، لم تألفه البلاد، ولم يتعود عليه أهلها، مما يشكل أرضية مناسبة لاستمرار الصراع الداخلي ونموه ويهدد بدخول البلاد أتون الحرب الأهلية.
3- إيغال النظام في ممارسة العنف المنفلت من الضوابط والوضع المضطرب في البلاد خلال الأشهر المنصرمة سمح لقوى خارجية، بالتدخل المباشر وغير المباشر في الأحداث، تدخل واسع امتدّ من الحرب الإعلامية إلى الحرب الاقتصادية والسياسية وإلى أمور أخرى، وأصبح “للمسألة السورية” أبعاد إقليمية خطرة، ثم أبعاد دولية بعد ذلك. وتحت ذريعة الدفاع عن حقوق الإنسان، والغيرة على الشعب السوري، شن حلف من الدول الغربية الكبرى ودول الخليج نوعا من الحرب، يذكّر بشبيهه خلال الأشهر التي سبقت العدوان على العراق في ما سمّي بحرب تحرير الكويت. وبتواتر لافت للنظر، استخدمت منابر المنظمات الدولية والإقليمية. فالجامعة العربية، وظفت وقتا طويلا وبذلت جهدا كبيرا لعلاج الأزمة. من حيث الظاهر أرادت بقراراتها ونشاطها، المساعدة في التوصل الى حل في الإطار العربي. في الواقع لم يكن هدف السعودية وقطر تحقيق تسوية مقبولة، بل منع حصولها، ونقل القضية إلى مجلس الأمن، عسى أن يصدر منه قرار شبيه بالقرار حول ليبيا، يمهد لتدخل الحلف الأطلسي (وتركيا عضو فيه)، مدعوما (بالأحرى مغطى) من قوات خليجية. من غير الواقعي عقد الآمال على الجامعة لإيجاد حلول معقولة للأزمة السورية. فهي، من جهة، منظمة دول يتحدد نشاطها بسياسات وأوزان هذه الدول، وهي حاليا واقعة تحت نفوذ السعودية ودول الخليج النفطية. ومن جهة أخرى، يكشف تاريخها، خصوصا في العقدين المنصرمين، الدور المشين الذي لعبته في تغطية العدوان الأميركي الأول على العراق العام 1991، ثم في تغطية الاحتلال الأميركي له العام 2003، وأخيرا وليس آخرا، في استجلاب تدخل حلف الناتو في ليبيا بذريعة حماية المدنيين.
لا جديد في الأمر إذاً، عندما تستخدمها دول الخليج بالاتفاق مع حلفائها الغربيين، وبالاستفادة من الأزمة السورية، للتمهيد لتغييرات كبيرة في الشرق الأوسط تلبي الأهداف المشتركة.
4- تأتي أهمية سوريا ليس من نظامها السياسي، ولا من سياسته تجاه الدول الغربية أو إسرائيل أو الدول العربية والإقليمية، والتي يقال فيها الكثير، وليس من بترولها الضئيل الكمية والمتجه للنفاد، بل من أهمية موقعها الجيوسياسي، ومن شعبها الذي حمل دائما مشعل العروبة، ولم يتزعزع ارتباطه بقضية فلسطين. لذلك احتل “الصراع على سوريا” حيّزا هامّا من تاريخ الشرق الأوسط في القرن العشرين. وبعد الحرب العالمية الثانية، مع ازدياد أهمية البترول، وفي سياق الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والغرب والاتحاد السوفياتي والكتلة الاشتراكية، ازدادت أهمية الموقع السوري.
في الوقت الحاضر تسنح فرصة ذهبية للإمساك بمصير هذا البلد. على هذا الهدف يتفق الغرب (وإسرائيل من ضمنه) ودول الخليج والسعودية على رأسها، ويتفقون أيضا على ضرورة ضرب إيران، وعلى قطع السلسلة الممتدة من طهران إلى بيروت في أضعف حلقاتها، وهي في الحاضر سوريا، ثم الإجهاز على الحلقات الأخرى بعد ذلك. لعل ما يجري هو أيضا حرب استباقية هدفها المباشر الكيان السوري لفرض وقائع على الأرض، قبل أن يتبلور تحالف عالمي تلوح بوادره في الأفق، من روسيا والصين ودول أخرى لمجابهة التحالف الغربي والحيلولة دون تحكم الولايات المتحدة بالعالم لعقود مقبلة. الأيام المقبلة ستكشف ما وراء هذا النشاط المحموم لدول لم تعرف عنها الغيرة على حياة البشر وحقوق الإنسان. كما ستكشف حماسة دول الخليج لنقل “القضية السورية” إلى مجلس الأمن، والتمهيد لتحالفات غربية – إقليمية لا يمكن تصور اقتصارها على استهداف نظام الحكم السوري وحده.
5- في الأيام الأولى للأحداث، بل حتى في الأسابيع الأولى لها، كان في قدرة النظام قيادة البلاد على طريق إصلاح سياسي حقيقي طالب به الديموقراطيون السوريون منذ أكثر من ثلاثة عقود، بعد العام 2000 ووضوح فوات النظام لدوائر أوسع من المواطنين ازدادت المطالبة بإصلاح سياسي ينقل البلاد باتجاه الديموقراطية. القمع كان رد النظام. فإصلاح من هذا النوع لم يكن مقبولا منه، وربما لم تتوفر القدرة على تحقيقه، لأنه يلحق الضرر بالقوى المسيطرة على النظام والمستفيدة منه. بالإضافة لذلك لم تتوافر قوى اجتماعية عريضة قادرة على تحقيقه. الإصلاح الاقتصادي والإداري طُرحا في حينه للتشويش على الإصلاح السياسي، ولم يُقيّض لأي منهما أن يتبلور في مشروع محدد. في الواقع مارس النظام سياسة اقتصادية ليبرالية، حسب وصفات البنك الدولي، أُطلق عليها اسم “اقتصاد السوق الاجتماعي”، أدت إلى تسريع التمايز الطبقي وزيادة غنى الأغنياء وإفقار مجموعات جيدة من المجتمع ونشر البطالة، خصوصا بين الشباب، وزيادة تهميش أغلب المناطق التي تحولت إلى مراكز للحراك الشعبي.
أشاحت السلطة السورية بوجهها عن المعاني العميقة الواجب استخلاصها من الثورتين التونسية والمصرية ومن انفجار الأحداث في اليمن والبحرين وليبيا. بل استعدّت لمواجهة الاحتجاج بالعنف. على أن الأشهر المنقضية كشفت عن عجزها عن هزيمة الحركة الشعبية، لكن أيضا عن عجز الحركة الشعبية عن كسر النظام أو إجباره على التسليم بمطالبها، ودخل الوضع حالة من الاستعصاء، بالأحرى نوعا من حرب الاستنزاف المترافقة مع تدهور في الأوضاع العامة، مما يرهق المجتمع والسلطة ويفسح في المجال لتدخل متزايد متنوع الأشكال من القوى الاقليمية والدولية، ويحمل الأخطار على تماسك البلاد ووحدتها وعلى الدولة نفسها. بل يكاد الاضطراب أن يصل إلى لبنان، وحالته قابلة للتفجر من أصغر الشرارات، وإلى العراق بما يهدد بتشظي الدولة العراقية الضعيفة التماسك منذ الاحتلال الأميركي، وربما يُوظف الوضع للتمهيد لحرب أوسع تشمل ايران ولن تكون منطقة الخليج بمنجاة من حريقها، حرب يزداد فيها الكلام عن قيام اسرائيل بالدور الرئيسي فيها، وليس من المستبعد مشاركة الولايات المتحدة، مباشرة أو بصورة غير مباشرة. فأمبركا التي تعاني أزمة اقتصادية شديدة، قد تجد في الحرب مخرجا لها من هذه الأزمة، برغم سنة الانتخابات الرئاسية التي يقال إنها تحول دون الذهاب إلى الحرب مؤقتا.
6 ـ مع استمرارالحل الأمني – الحربي، والعمل المسلح، وتدويل القضية ودخول أطراف كثيرة فيها يصبح الحل السياسي الداخلي، أي التسوية السياسية، صعباً جداً يقترب من الاستحالة. ورغم ذلك من الخطأ الاستسلام أمام هذا الواقع الصعب. لقد أهدر النظام فرصا كثيرة، خصوصاً في الأسابيع الأولى من انفجار الأزمة الوطنية، وكان بإمكانه استغلالها وتولي قيادة العملية التاريخية السلمية للتغيير. لكن السلطة، بنهجها الأمني، حوّلت نفسها من قوة رئيسية للحل إلى جزء هام من المشكلة المطلوب حلها. لقد فشل الحل الأمني، واتسعت الهوة بين المجتمع والنظام، وتزعزعت الثقة، ولم يعد من الممكن الوصول الى صيغة حل قادرة على تلبية مطالب الشعب بدون إعلان السلطة الالتزام بالحل السياسي، والاستعداد لتقديم التضحيات الملموسة القادرة على إحداث تغيير جدي في الرأي العام، وعلى إقناع الناس بأنّ التغيير نحو الديموقراطية قد بدأ. ومن واجب المعارضة، على اختلاف تشكيلاتها، الدفع نحو الحل السياسي السلمي، والابتعاد عن الطريق الذي سارت عليه المعارضة العراقية. الأيدي المعادية لشعبنا وبلادنا موجودة وفعالة في الأزمة، وهي لم ترد الخير لها في الماضي ولا تريده الآن ولن تريده مستقبلا. هذا لا يعني رفض الاستفادة من القوى والدول التي تساعد في تحقيق حل يلبي مطالب شعبنا وينقل بلادنا إلى النظام الديموقراطي، ويصون استقلالها ووحدتها. من هنا أهمية التعامل الصحيح مع الاستعداد الروسي للمساعدة في البحث عن تسوية والخروج من حالة الاستعصاء السائدة والحيلولة دون الغرق في حرب الاستنزاف. كما تنبغي الاستفادة من أي جهد صادق تبذله الدول والهيئات الراغبة بتقديم العون لتحقيق هذا الهدف. وكيفما سارت الأحداث، فالمارد الذي خرج من القمقم لا يمكن إعادته إليه، والنصر في النهاية للشعب.