ممدوح بيطار, جورج بنا :
ماهو السر في عودة مفردات تخص حقبة ماتت وطمرت تحت طبقات من الرماد والتراب , مفردات غريبة عن هذا العالم, تخص عالما آخر لم يعد موجودا ,وما هي الفائدة من نبش مفردة ميتة من القبر ؟؟وهل تعتمد أصالة الكلمة على قدمها وجمودها وتحولها الى مايشبه الآثار ؟ .
الكلمة والمفردة هي حامل الثقافة , ولايحمل الثقافة الميتة الا المفردة الميتة , والثقافة الميتة هي الثقافة التي تريد نسخ الماضي الميت والمميت, انه نوع من استحضار الموت والأموات , نوع يمثل حالة اخصاء ثقافي وتقهقر أمام تحديات الحاضر ومتطلبات المستقبل , نوع يمثل عودة “ميمونة” الى وضع ماضوي , تمكن الكذب والتزوير من طلائه بطلاء ابيض براق , وضع وظفته الحركات القومية في تلفيق أمجاد لم توجد أصلا , فالحركات القومية التي لم تحاول ولم تقتدر على صنع ماهو جيد وجديد , اتكأت على ماض , تم صنعه بالتزييف والتكاذب على الذات , وليس بالفعل والعمل والانجاز , حركات قومية استمدت قوتها من الأساطير والملاحم والتقديس , وتحويل كل ذلك الى نوع من المرجعية والى قاعدة وأسلوب .
نحن الآن بصدد مد ديني سلفي , يحاول كما حاولت الحركات القومية , اجترار الماضي بتطرف أعمق وعنف أشد وبربرية أعظم , وكأن احياء الميت ممكن عن طريق التمثيل بجثته بعد نبشه هيكلا عظميا من أعماق القبور .
فشلت الحركات القومية , حتى في تطفلها على الماضي الميت, وعلى توهم امجاده ومحاولة بعثهامن جديد , وستفشل الحركات الدينية السلفية في تطفلها على الماضي الميت ومحاولة تلبيس هيكله العظمي طبقة من اللحم والدم , محاولات يائسة وبائسة عدمية وعبثية , فالميت مات ومحاولة احيائه ليست الا تكريسا للجمود واعاقة للنهوض , مات الميت في عبثية وعدمية الحروب , وتيبس في صحراء الجهل والتأخر , والآن يحاولون تكريس تصحير المنطقة من جديد , للأسف لايمكن القول على أنهم فشلوا في كل شيئ , نجاحهم كان مدوي في استحضار الموت الى الحاضر وبذلك تم قتل المستقبل , فالموت لاينجب سوى الموت.
هل يقظة مفردات , كمفردة البيعة والشريعة والجهاد والاستشهاد في سبيل الله والولاية والوالي والعهد والعهدة والأمير والامارة والخلافة وغيرهم من مفردات الماضي , هي يقظة “أبجدية” فقط!, أو انها يقظة ثقافة فكر متكلس ومتيبس ومتجفف و متجيف في صحاري الحروب والجهل والعنف والتأخر , فكر ولد ميتا قبل عشرات القرون ولا يزال ميتا .
الأمر ليس أبجدي فقط , والكلام باستخدام تلك المفردات لايعبر عن افتتان بمفردات “أثرية” تكمن أصالتها في قدمها , وانما لهذه المفردات الجامدة وظيفة استحضار الجمود , وما هي دوافع استحضار الجمود الماضوي والعيش على اسقاطات ذلك الماضي الساقط ؟
لايحاول الانسان العودة الى الدفاتر القديمة الا في حالة الافلاس , وحالة العجز عن صياغة مشروعا مفيدا للحاضر والمستقبل , انه تعثر مستمر , والتعثر المستمر يتطلب التستر المستمر والبحث عن مبرر , باختصار يمكن القول بأن الدين والتقديس ورفض الاجتهاد هم من أهم القسريات المسببة للعجز والفشل والسقوط في اسقاطات الماضي , هناك ايضا المقدرة على التمويه والتستر والتكاذب وممارسة القدرية والاتكالية , لذلك تخصصت عبقريتهم في افتراض أعداء وتصور مؤامرة كمسبب للتعثر , الجمود العربي وجد ضالته في الغرب المتآمر , فالغرب عدو مثالي , ومثاليته تكمن في عدة نقاط .
النقطة الأولى هي كون الغرب مصدر الفكر العلماني والممارسة العلمانية, التي تنغص حياة الاخوان وتهددهم بحشر ثقافتهم الخرافية في الصوامع والجوامع , وعزلهم عن الشؤون المدنية وعن ادارة الدولة , هذا العزل مرفوض , لأنهم دين ودولة , تكمن النقطة الثانية في الشعور الفوقي على الغرب الكافر , اذ انهم بمقدسهم الديني أقرب الى مكان مرموق في الجنة من الكفرة , الله ميزهم بالأفضلية وصنفهم في مصنف خير أمة , وما هي ضرورة علمنتهم عندما يكونوا خير أمة ؟ ,الغرب اللئيم باستشراقه يريد وضعهم في مصنف أسوء أمة , لذلك فالغرب عدوهم اللدود , ثالث النقاط هو عدم ادراكهم لأبسط مفاهيم الحياة , فالغنى كان بالايمان الشكلي والتدين الشكلي ثم النفاق والتكاذب الذاتي , وليس بالمقدرة الحقيقية على اطعام الجياع , او ترميم حالة الخراب , أو احراز شيئا من التقدم .
لايدركون هول الخرافات وقصورها ورسوبها في أول وأبسط امتحانات الواقع , عجبا كيف يتمكن الغرب من اطعام شعوبه واطعام جياعهم وهو الكافر المرفوض من الله , هنا لابد من وجود “مؤامرة” تهدف الى سرقة خيراتهم واستغلالهم واشعال نار الحروب في ديارهم,الغرب ظالم ولا يستحق الا الرفض والكره والعداء!
يسبح الشرق العربي في بحر من الأوهام والخرافات والتكاذب , ووصل بأوهامه وخرافاته الى حالة متقدمة من الخراب , الاستمرار في النهج الحالي سيقود الى الخراب الكامل أي الاندثار , لايمكن انقاذ هذا الشرق الا بعكس المنهجيات التي كرست خرابه , أي بالموضوعية والعقلانية والعلمية الأرضية, وفي تبني ثقافة الحياة لا الموت , في الاجتهاد والابتعاد عن الجهاد والتقديس والتصنم وهراء اعادة الخلافة , في أنسنة الدين والابتعاد عن توحشه وفي العديد من المجالات الأخرى , التي سيتم التعرض لها في تتمة لهذا المقال .