لايمكن القول أن كل فكر قومي فاشل , فالفكر القومي الأوروبي كان المؤسس للعديد من الدول الأوروبية الناجحة , ونجح في كل المجالات , الى أن قضى على نفسه بخاتمة الحرب العالمية الثانية , ثم طور نفسه الى الأفضل , الذي تجلى بقيام بالاتحاد الأوروبي .
عاد نجاح الفكر القومي الأوروبي الى عدة عوامل , منها تعارضه مع المؤسسة الدينية , التي كانت ضعيفة , بعد تعرض الفكر التنويري لها , وتمكنه من شلها , تأسس الفكر القومي العربي على فكرة التخلص من العثمانية أي الاستقلال , وكان صراع هذا الفكر مع العثمانية وليس مع المؤسسة الدينية بالدرجة الأولى , فصل الفكر القومي الأوروبي الدين عن الدولة , بينما دمج الفكر القومي العربي الدين بالدولة حسب مقولة عفلق بشأن كون العروبة اسلام وكون الاسلام عروبة , نشأ الفكر القومي الأوربي في دول مستقلة , بينما ولد الفكر القومي العربي في مستعمرات عثمانية متأخرة كتـاخر العثمانية , لاننسى تأثير الوضع الاقتصادي , الذي كان في أوروبا صناعيا , وفي المنطقة العربية ماقبل زراعي .
استطاع الفكر القومي الأوروبي أن يتحول اشتراكيا لأنه كان صناعيا , هناك كانت طبقة صناعية عاملة فجرت الثورة الشيوعية بعد الحرب العالمية الأولى , لم يفهم القوميون العرب شيئا عن الاشتراكية عندما روجوا للاشتراكية العربية , ولم يعرفوا شيئا عن العلاقة بين تطور الفكر والبنية الاقتصادية , فالمجتمع الزراعي أو ماقبل الزراعي لايصلح لتطبيق الاشتراكية , ولا يمكن للفكر القومي التعصبي العنصري التعنتي والبعيد عن العلمية أن يتعايش مع الاشتراكية , أو في أسوء الحالات مع الشيوعية , جودة الفكر ليست ذاتية مجردة انما تطبيقية.
تعرف نظم الدول الأوروبية العديد من معالم الفكر الاشتراكي وحتى الشيوعي ,لأن الوضع الاقتصادي يتطلب ذلك , سيكون مصير تطبيق نفس الفكر في السعودية أو غيرها من الدول العربية الفشل , لأن الوضع الاقتصادي لايتطلب ذلك ولا يسمح بذلك , لا اشتركية في مجتمع ريعي لاينتج انما يستهلك !, ليس من المستغرب أن يفشل الفكر القومي في مجتمعات متواجدة سياسيا في مرحلة ما قبل الدولة , واقتصاديا في مرحلة ما قبل الزراعة , وفي دول الريع النفطي الاستهلاكية .
لاعجب في الفشل ولا عجب في ارتشاح الفكر القومي بالدينية المهيمنة والمتجذرة في الكيانات النفسية للشعوب , وبالنتيجة تحولت الحركات القومية الى مايشبه الأديان , الفكر القومي متقدم بدرجات على الفكر الطائفي الديني ,وعنصرية الفكر القومي مختلفة جدا عن عنصرية الفكر الديني , علاقة الفكر الديني مع العلم مختلفة جدا عن علاقة الفكر القومي بالعلم , لذا يتطلب اللحاق بالعالم المتقدم مبدأ ” القفز على المراحل ” , وكيف يمكن للمشلول أن يقفز ؟, لقد مارس الفكر الديني نوعا من التمنيع للوقاية من القفز , والتمنيع كان بشل الفكر القومي عن طريق ارتشاح شلل الفكر الديني به .
يبدو أن قدوم الفكر القومي العربي المنقول ولو جزئيا عن الفكر القومي الأوروبي كان مبكرا , لذلك كانت وفاته مبكرة , فلكل فكر دورا يلعبه ثم يأتي فكرا آخر ليحل محله , ولكل فكر وضعا يتمكن من التفاعل معه , وظروف تتحكم بفاعليته وتأثيراته , لكل فكر مدني صعوبات في بيئة المقدسات , المقدسات لاتحب الجديد من الأوضاع أو الجديد من الأفكار ,ومن الأفكار فكرة ” الوطن ” والهوية والانتماء , التي تم احتكارها من قبل المقدس الديني , الذي لايريد منافسا له , المقدس الديني هو وطن بدون حدود, كبديل عن الوطن بحدود, لا انتماء للوطن الجغرافي , انما للأمة الديموغرافية, عموما لا اعتراف بالمواطن حسب المعايير السائدة في العالم , انما بالمؤمن حسب المعايير التي بادت .
بالرغم من كون العلمانية تمثل مرحلة متطورة جدا مقارنة مع العشائرية القبلية الدينية , الا أن حظها في التمكن من التأثير على تطور هذه المجتمعات أوفر بدرجات من حظوظ الفكر القومي , استدخال مفاهيم علمانية في البيئة الدينية أسهل نسبيا من استدخال المفاهيم القومية, , فالعلمانية لاتنافس العقل الديني , لأنها ليست انتماءا فرديا انما منهجية اجتماعية , تستدعي الدين للمساعدة في تطوير المجتمع من خلال فضائه الروحي , وترحب بتحول الدين الى خاصة اجتماعية كما هو الحال في أوروبا , العلمانية لاتستعدي الدين , لابل توفر للدين أعظم الفرص لكي يتدبر أموره في فضائه المستقل , في حين تعمل العلمانية على تلبية متطلبات الأرض من ضمانات للحرية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية .
العقل الديني مدعو لملاقات العلمانية كشريك وليس كعدو , بدون تشنج أو انسداد أو استعلاء , ففي ظل العلمانية ينعم الدين في أوروبا وفي بقية المجتمعات العلمانية بالاحترام , ويمارس التأثير والفاعلية في فضائه , وبعد تحوله الى دين اجتماعي بالشراكة مع العلمانية , العلمانية انقذت الدين من الوقوع في مطبات الفساد والسياسة , ولم تكن سمعة المؤسسة الدينية في أوروبا أنظف وأنقى من سمعتها بعد شراكتها مع العلمانية , تأزم الدين وتعثر وتأخر الشعوب لم يكن على يد الفكر العلماني , انما بسبب عدم وجود العقل العلماني في الروؤس المؤمنة , سوف لن ينجلي التأزم والتعثر الا بواسطة العلمانية , التي ستكون المنقذة للدين من نفسه !