ميرا البيطار :
يرتكز العجز الحضاري العربي على العديد من الزوايا او الركائز , الركيزة الأولى كانت التوحيد , الذي ينتج التعصب والتفاخر والاعجاب بالذات والرأي والنرجسية , هذا التوحيد أو الوحدانية لصقت مبدئيا بالخالق , الا أنها سقطت على الأرض وتحولت الى منهج لتطبيقه في الحياة اليومية على الأرض وعلى المخلوق البشري , وذلك بالرغم من تعارض التوحيدية مع طبيعة البشر التعددية .
لاتعرف المجتمعات البشرية سوى التعددية ,التي تمثل التربة الخصبة والطبيعية للابداع والتطور والاثراء الانساني , حتى ضمن الطائفة هناك تعددية وضمن الحزب وضمن العائلة والأسرة أيضا , القضاء على التعددية غير ممكن عمليا , الا أنه ممكن تلفيقا وتزويرا , كما هو الحال مع الأب القائد الملهم, الذي يتبنى أفكاره وميوله ونزواته وعقليته حوالي ١٣٠٪ من بناته وأـبنائه , الذين يشكلون قطيع الشعب المطيع , مطيع تحت السوط والساطور وليس عن قناعة وادراك وفهم .
القضاء على التعددية بالقسر هو بمثابة قضاء على الوطن الجامع للمختلف والمتباين , والذي يريد الأب القائد تعليبه في علب بشكل معلبات متشابهة , لايميزها عن بعضها البعض الا تاريخ انتاجها , لاوجود لتجانس الا التجانس القسري الادعائي الكاذب , ولا يتمكن من تجاوز التعددية تزويرا وتزليفا الا الديكتاتورية السياسية أو الدينية أو شراكة الدينية مع السياسية , وهو الأمر المألوف في هذه المنطقة .
الركيزة الثانية , هي الماضوية , الماضوية تعني الانجذاب الى الماضي وأسسه ثم استحضار هذا الماضي لكي يدير الحاضر والمستقبل أيضا , الماضوية قوة جذب ذات دلالات عديدة , من أهمها الاعتراف الغير مباشر بالعجز عن صناعة حاضر ومستقبل أفضل , وللتستر على هذ العجز يجب تعظيم الماضي تبريرا للانجذاب اليه , وتضخيم الماضي بشكل يبرر عدم الضرورة للاضافة اليه , لاحاجة للجديد !!!! , فالماضي جيد وجديد باستمرار , أي هذه الشعوب تعيش التجديد من خلال القديم , والذي قد يبلغ من العمر يوما ما 5000 سنة وسيظل جديدا ماضويا وورائيا بالنسبة للحاضر , هذه هي فلسفة الجنون التي تبحث عن الجديد في الماضي .
الركيزة الثالثة والقاتلة , هي ركيزة المجتمع الأبوي والذكورية , مجتمع ببنية وكينونة معروفة في تمثيلها للقبيلة و حرصها على اقامة الهرمية المبنية على التسلط والخضوع الادماني المتعاكس , ليس مع الحداثة فقط , وانما مع طبيعة الاسان التواقة الى المساواة .
أصلا ليس للقبيلة أن تمثل أكثر من مرحلة في حياة بعض الشعوب , الا أن الجمود ألصق الشعوب على مرحلة لم تجد سبيلا للتحرر منها , فجذور القبلية تمتد الى الماضي السحيق , حيث فرضت البيئة على جماعة القبيلة تطبعا متناسبا مع ظروف الصحراء , التي لاتسمح بممارسة أي مهنة سوى مهنة الفزو والقتال للحصول على الغنائم , التي تعتاش القبيلة منها , الذكر هم الأنسب للغزوة لذلك تربع الذكر على كرسي القيادة , بانتقال منظومة الأسرة الأبوية الى الشعب أو بالأحرى الى الدولة ,جاء الأب الديكتاتور الممثل حقا للأب في الأسرة ولزعيم القبيلة مع وجود فوارق مهمة , فكلما ابتعد الأب الاعتباري عن عضوية الأسرة ضعف بنفس النسبة اهتمامه بها كأب الاسرة , وزادت بنفس النسبة غربته عنها وميله الى استغلال رمزيتها كما هو حال الديكتاتور , الذي يزعم زورا بأنه أب الجميع , اي أنه المستغل للجميع والمستبد بالجميع , كالذكر رب الأسرة المستبد بالجميع والمستغل للجميع خاصة الزوجة.
لقد ابتكر الدين الحنيف مفهوم “الأمة” كبديل عن مفهوم القبيلة , فالدين تشكل تباعا من عدة قبائل وبالرغم من استثنائية الحسب والنسب في قريش , وتنسيب الدين الى قريش حصرا , البديل عن القبائل كان “الأمة” الغازية كبديل عن القبيلة الغازية, ارتشحت هذه الأمة بالقيم البدوية , التي تضاربت مع مركزية السلطة في الخلافة , وأحد تمظهرات التضارب كانت الردة وحروب الردة التي لها من الأسباب أكثر من سبب رفض المركزية السلطوية, الايمان الديني لهذه القبائل كان شكلي , وما أن مات المصطفى حتى ظنت القبائل انه بامكانها التحرر , الذي وقف الخليفة الأول في وجهه وكانت المذابح , التي لولاها لما كان هناك دين حنيف كما ادعى القرضاوي .
لقد تم القضاء عسكريا على الردة بسيول من الدماء , الا أنه لم تتم ابادة المرتدين كما ابيدت قبيلة بني قريظة عن بكرة ابيها , لقد تم توحيد القبائل مجددا تحت راية الغزو الريعي, وتم تقسيم الغنائم بنسبة خمس الى أربعة أخماس , وتم فتح آفاق جديدة للحصول على غنائم الحرب في مصر وبلاد الشام وغيرهم من البلدان المفتوحة , وتم ابعاد المجاهدين عن مكة والمدينة , والله الحريص على رعيته ..سبحانه !!! لم ينس أمر شرعنة السرقات التي سميت غنائم حرب , فجأة نزلت الآية التي تضمنت الاقرار بأن ما يغنمه المؤمنون من أموال وأسلحة وأمتعة وعقارات ونحوها هي في الجملة ملكا لهم ” فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا ” وماذا تريد قبائل الغزو أكثر من ذلك الحلال الطيب لهم ؟؟.
الركيزة الرابعة , هي ركيزة المجتمع الرعوي أو العقل الرعوي الرديف تقريبا للعقل القبلي البدوي , فالعقل الرعوي هو عبارة عن منظومة قيمية أرتبطت بشروط تاريخية معينة , والعبرة في العقل الرعوي هي سهولة تسربه الى مفاصل الدولة , وسهولة التسرب كانت أكبر بدرجات من سهولة تسرب العقل البدوي , والدليل على ذلك ضغيان تسربات العقل الرعوي على تسربات العقل البدوي في كينونة الانسان العربي المعاصر الذي يجمع حقيقة بين العقل البدوي والعقل الرعوي بآن واحد .
العقل البدوي محلي ومختص أصلا في مرحلة ماقبل الدولة او القبيلة , أما العقل الرعوي فليس محليا ولا يرتبط بالصحراء , الا أنه يتشارك مع العقل البدوي في عرقلته لقيم الدولة والقانون , يرتبط العقل الرعوي بثنائية الأنسنة – التوحش , ثنائية النظام- الفوضى , ثنائية الأخلاق – الجلافة … الخ , اضافة لما تقدمه هذه الشعوب من مظاهر رعويتها , يمكن القول بأن العديد من النظم العالمية التي ولدت في عصر الحداثة كالنازية والفاشية هم عمليا حالات رعوية , كما هي حالة الجمهوريات والمملكات العربية .