نيلزا خوري :
وعندما يتخذ العاقل قراراً بأن يحوّل المماحكة والإسفاف إلى جثّة، فمهما يُنكأ بها ومنها، لن تُجرَح ولن تتألم، ومهما تُغَزّ، فلن تنزّ هذه الجثة لا قيحاً ولا صديداً ولا دماً..
وعندما تضغط بإصبعك على لحم ميْت، فلا ترى منه مقاومة ولا ردّ فعل، ستظنّ ذلك انتصاراً لك، لأن آثار أصابعك قد استباحت عجيناً غير مختمر، وشكّلته كما تريد، حتى أصبح صالحاً فقط، لعجنك انت
من لا يعرف بوسيدون فليقف، وهو يطالع وجهاً ” كالصخرة وكأنها وجه بحّار قديم”، وجهٌ قديم محارب يجلوه الموج، ورمح بوسيدون قد حرث البحر حرثاً، وقلَبَ باطنه ظاهراً، ووجهه رمْلاً و صَيداً، وبطنه ريحاً و زَبَداً، ولكنه لم يبقر برمحه بطن سمكة واحدة..
ماذا تعرف عن المحارب القديم الذي لبس طوعاً قناع الحديد( ومفتاحه في يديه) يتفرج كيف يجلس غير المستحق على العرش، وكان سجيناً وسجنه ملهاة لا يستطيع أحد أن يغلقها عليه..
محارب قديم لا يترك وراءه أشلاءه ولا دماه، بل ينضّدها في حبال مُرّة من الجَلَد، يلفها على عنقه كما تربط
نياشين الظَفر، ويمضي بها حتى صارت نياشينه أثقل منه.
من صادق جسده وصادق على جسده لايترك جسده خلفه
لا يتدرّع بالعصافير ليحمي بها ضآلته وضحالته، لا يأويها ليأخذ منها بدل أن يعطيها، لا يستر بها عورته، لا يشحذ على يناعتها ربيعاً من العيون والقلوب، لا يأسرها ويستحوذ على روحها ويحجبها قسراً و تعنتاً عن من زرع جناحيها ريشاً لأنه يخاف من صيرورة حياتها ، ويخاف أن تواجه نفسه خواءها.
المحارب القديم يسعى لأن تنثر عصافيره أعشاشها على قمم الأشجار ورؤوس الجبال والأشهاد و يُطلِقها لتمضي إلى مآل الطبيعة وأمومة الرحب الفسيح.
المحارب العتيق لا يستطيع حتى أن يوكل إلى غيره مهمة استلام جثته عنه بالإنابة بعد كل ميتة، فوحده قادر على التحقق من حدّة ملامحه التي تبقى نفسها بعد كل معركة، و أَوْلى معاركه وأعتى معاركه هي معاركه ضد نفسه فيثور على نفسه ليربيّ نفسه ويصقل نفسه قبل أن يصقل سيفه، دون أن يحتاج لمكافحة الشغب، لأنه يثير الشغب ويستفز العقول والصخور والوجوه لإخراج كل ماءاتها من بين الفجوج والفجاجة.
مقتلة المحارب القديم الحقيقية هي الرتابة والتعوّد، فلا يصبح المرء محارباً بالتقادم.
لا تُمتهن الحرب، لأن الحرب عندما تمتهن يُنتَهك المحارب، وعندما تتحول إلى عادة أو وظيفة ، تتآكل كما يأكل الملح والصدأ حديد الروح.
يركن المحارب القديم لاستراحة قصيرة من ذاكرة منهَكة، لكنه عندما يعود للحرب مجدداً، يوقن بأنه قد ولد ليكون محارباً وجذوة القتال والشغف تحرره من كل قيد، فلا يترك ملفاته مفتوحة ولا يترك قضاياه معلّقة ولا يترك دماءه تتناذر بينما يتفرّج عليها وهي تميع وهم يحاولون مسح آثارها بالماء عن حائط الحقيقة..
لا يعرفون أن رابطاً كرابط هذه الدماء لا يتحلل، ولا يفصل عن بلازماه، ولا يمكن أن تتحول كل كرياته إلى بيضاء هجومية، لأن رمح المحارب القديم دون ذلك كله.
هذا المحارب الذي لم يعتد أن يكون رمحه محايداً، لا يستطيع أن يوضع في صندوق دجال، ويدعي أن جسده قد شُطر إلى نصفين بسكين المهرج، ليرضى المتفرجون عن العرض فيصفقوا له ويتسلى المتكؤون على جدار نظرية يتبناها الجميع لكن أحداً منهم لا يعرف كيف يدافع عنها.
إن النسر وإن ادّعى، وإن تحامل وجامل، لا يستطيع أن يمثل دور الغراب لوقت طويل لكي ترضى عنه حديقة الحيوان، لا يستطيع أن ينكر بأنه لاحم ، وما من ضمانات تكفل بأنه سيعلّم فراخه كيف تقتات على أغصان الزيتون ويُنسيها بأن تحلم كيف تسبح وتغوص وتغطس في سماء مغزلية مضبوطة على حركة أجسادها الصغيرة وقياسها.
كيف يحدّث الطير الحرّ الواقع في الأسر بعضاً من فراخه عن الحلم والحرية وعيناه معصوبتان؟
كيف تكون القدوة إن لم ترفض ما لا يشبهها ولم تهجر مكاناً حيث لا تنتمي حتى ولو لم تجد مكاناً آخر تنتمي إليه؟
هذا المحارب بكل خصوصيته لا يمكن أن يحال إلى التقاعد، ولا يصلح ككيس ملاكمة ولا أُعدّ لتفريغ العُقد أو التعنيف وليس مُلكيّة تتباهى باقتنائها، فليس لأجل هذا يولد المحاربون، ولا يولدون ليُطلب منهم سحق حشرة ضارة.
المحارب الذي يواجه أعتى السيوف، لا يعرف أن يحصّل حقوقه بال”بلطجة”، بل يعلي شأو القانون لأنه وجه من وجوه العدالة.
وكما تُفصل السلطات لرفع شأن دولة عليّة، تُفصل كذلك المفاهيم والدلالات.
الأمومة والزوجية ليسا شأناً واحداً كما أن الحياة والموت ليسا شأناً واحدا ً.
الألم والجعجعة ليسا شيئاً واحداً.
استدرار التعاطف والتحامل على الجور ليسا شيئاً واحداً.
الترفع والاتضاع ليسا شيئاً واحداً.
الاستحواذ والمحبة ليسا شيئاً واحداً.
الطفل المُفسَد الباكي الذي يملأ الدنيا عويلاً في المتاجر لأنه يريد امتلاك لعبة لا تعني له شيئاً، بل يريدها ليحطمها، ليس كالطفل الكليم المألوم المسربل بالأوجاع على سرير جاف يحتمل بنبل وبكل قوة أشرس الخبائث، ويظل يرسم أنقى الابتسامات.
المحارب العتيق والغلام المدجج بالسلاح ليسا شيئاً واحداً.
المتفوه والمفوه ليسا شيئاً واحدا ً.
المتشدّق/ة المستحصل على النفوذ، المتجبّر بالنساء على السلطة، المستعين بالمحسوبية على الرتب، ربيب الحاشية، حاصد الامتيازات بكل طريقة، ما عدا طريقة المحاربين القدامى، هم ، و وجه الصخرة القديمة ليسا بالتأكيد، شيئاً واحداً.