ممدوح بيطار :
لم يؤثر التعليم القاصر في هذه البلاد ايجابيا على أمر التماهي بين السياسة والدين , لابل أمر هيمنة الدين على السياسة , أو امتلاء السياسة بالدين ,المواطن يدعي السياسة ويمارس الدين , لقد كانت ولا تزال السياسة اسم مستعار للدين .
فالدين هو حالة ايمانية تسليمية مؤسسة على التلقين وراثيا , يتوارثه الانسان من السلف الى الخلف تقليديا , ودون أي تمحيص عقلاني , من المسلمات الاجتماعية أن ينتمي المحروس تلقائيا الى دين الأب حارسه , أي أنه دينيا على سحنة ابيه , لذلك فانه من الممكن القول بأنه لاعلاقة للانتماء الديني بمفهوم الخيار العقلاني , ولا يجوز التحدث عن مفهوم “الخيار الديني” لأن هذا المفهوم يجمع بين ضديات لايمثل الود نوع العلاقة بينها , اذ لاخيار في الدين ولا وجود لدين الخيار , في الدين لاتوجد خيارات وفي الخيارات لاوجود للدين , لاعقل في الدين ولا دين في العقل , والأمر برمته مجانبة للدين والعقل صاحب الخيار على حد سواء.
يربط الدين الشخص بمرجعية مقدسة لاتمس ولا تدنس , مرجعية فوق بشرية , هي الألوهية المنفصلة عموما عن الانسان باستثناء صلتها مع البشر عن طريق الأنبياء والمرسلين ومساعديهم كجبريل , كنتيجة لهذا الربط ولهذه المرجعية الممثلة للحق والصواب والحقيقة المطلقة , يتحول الحق والحقيقة الى بضاعة مستوردة ومفروضة قسرا , هنا لامجال للانتاج الذاتي بما يخص هذه القيم ولا لزوم لتفعيل العقل كمعمل للفكر في البحث عن الحقيقة , ولا لزوم للعقل في تحديد المفهوم الضميري الأخلاقي والمعاشي الحياتي للحقيقة, وبذلك يتحول الانسان الى مستورد لأهم مايحتاجه في الحياة , وبالتالي معرضا للابتزاز من قبل المورد الذي هو الدين ورجاله والمحتكر للمادة , رجال الدين يراقبون المشهد عن كثب ويعيدون القطار الى سكته ان خرج عنها , انهم حماة الفضيلة والدين أولياء الأمر والنهي , انهم صناع المعيار والمقياس وديناميكيتهم تكمن في فقهم الذي يقولب الأمور كما يريدون ويتمنون .
نحن اذن ازاء حالة يقال على أنها تمثل ممارسة كرم حاتمية دينية وبدون مقابل , الله يهب من يشاء وهو على كل شيئ قدير , الا أننا ايضا أزاء حالة مصادرة للفاعلية الذاتية للانسان المتدين خصوصا , ولا أجد في هذه الحالة للكرم أي أثر , دين الله كريم بماذا ؟ كرمه هوائي وافتراضي ووهمي , وبالمقابل يريد من البشر أن يعبدوه ! , مطلب لم يتجرأ أعتى ديكتاتور على طرحه …اعبدوني ! أنكم عبيد من يمثلوني على الأرض , عبيد للمشايخ والخزعبلات التي أمطرتكم بها وللخرافة التي أهلكتكم بها , هل ارسل سيد العبيد يوما رغيفا من الخبز لجائع ؟؟؟ , يريد احتكار الفضيلة واحتكار تسييرنا كما يشاء ومسخ ارادتنا كما يريد وتعطيل عقلنا كيفما يستطيع , وأحيانا يرسل لنا مصيبة أو هزة أرضية تهدم بيوتنا على رؤوس أطفالنا , والغريب أنه لم يشارك يوما ما في انقاذنا , فمن أنقذ كانوا الكفار وغيرهم من البشر ..لم نر يوما ما هرولة رجالك لانقاذ البشر من مصائبهم , وانما هرولوا لتفجير القطارات والمدارس والشوارع والطرقات .
أرى في هذه الحالة استلابا للانسان من قبل الدين ومن يمثله , نجد بالمقابل في حال بعض البشر مفارقة غريبة , فكلما ازداد الاتكال على دين الله , ازداد بنفس النسبة شقاء وتعتير عبيد الله ورسله , وكلما اعتمد البشر على أنفسهم ازدادوا سعادة ورقيا وامتلأت معدهم وتوضح أفقهم وتمتعهم بالحرية , يبدو وكأن التقرب من الدين مصدرا للتعاسة , والابتعاد عن الدين والتدين مصدرا للسعادة , الهذا على الانسان أن يتدين ؟
عندما يتأزم وضع انسان بلادنا لسبب ما , يزداد تدينه طمعا بغفران وعطف وكرم الدين ورجال الدين , في هذه الحالة تزداد سطوتهم وامكانية تحكمهم بهذا الانسان , وتوجيهه بالشكل الذي يريدون , يوجهونه نحو عدو مفترض في الشارع أو المدرسة أو المقهى , وعليهم الاقتصاص منه لأنه السبب الافتراضي للبلية …فهيا الى القنابل والسكاكين والشاحنات للدهس والرفس , والمكافأة جاهزة نظريا , كوعد بأن سيدهم في السماء قد حجز للمجاهدين في سبيله أفضل الأمكنة وأفضل الحوريات والغلمان والمأكل والمشرب ….
في مثل هذه الظروف الحرجة تصبح الشخصية المتدينة الفاقدة لعنصر الفاعلية الذاتية ولمعيارية الحق والحقيقة الذاتية والمسلوبة الارادة والشخصية شديدة القابلية والتقبل للعنف , الذي يمكن فرض ممارسته من خارج الانسان , ومن نظم وقيم وضوابط خارج ارادته وحتى خارج مصلحته .