هل عندكم اله آخر؟

ممدوح   بيطار:

   لانعرف حقيقة الكثير عن نتائج معركة لاتزال مستعرة  بين العقل والغيب  , فهل  استشهدت القداسة في معركتها مع السياسة , أو أنه تم اغتيال السياسة  تحت العمامة ؟ المشهد العام هذه الأيام  يقدم  نوعا من التشابك  بين  السياسة والقداسة  , لقد خسرت  القداسة معارك  الا أنها لم تنهزم  , ربحت السياسة معارك , الا أنها لم تنتصر  , هل  تتقزم السياسة   تحت سقف  العمامة  التي  تنتفخ   وحدود انتفاخها القصوى هي  حجم الكرة الأرضية ,  العمامة  أسست في ديار السياسة طابورا خامسا  وظيفته  اجهاض السياسة من  الداخل  واختراقها  عن طريق  امراضها بمرض القدسية , ليس  الله هو  من أحتكر القداسة حصرا , وانما  تتوزع القداسة الآن على العديد من  ألهة الأرض وآلهة السماء  , الحزب  المدني  أصبح  دينا,  ومؤسسه  أو رئيسه الها  لاتقل كفاءته  في صنع المعجزات عن كفاءة السماوي  , ولا تقل مقدرته في صنع القطيع المطيع عن كفاءة السماوي .ولنأخذ  الحزب السوري القومي مثالا,

لايشك أي  بعبقرية  سعادة وصواب  آرائه  في  الثلاثينات من القرن الفائت ولا بحيوتها   ومقدرتها على صناعة سلطة عقلية  ومشروع  فكري يلامس قضايا تغطي  الفضاء  الشعبي   آنذاك وبعد ذاك ولنقل لعشرات  السنين  بعد صياغتها   , الا أن  مقدرة التغطية  لايمكن لها  أن تكون مؤبدة  , وتحولها الى مؤبدة يعني  تحولها الى دين  ويعني تحول سعادة الى اله , وهنا يكمن الخلل , اذ  لايمكن  لحزب  أرضي أن  يدار من قبل  اله , كما  أنه لايمكن  صناعة مذهب من بشري بدون هالة الهية   مهما  بلغ قطر عمامته من  كبر , لكي  يتمكن  حزب مدني من  الاستمرا ر بصحة جيدة , عليه  البقاء  ملامسا  حاجات البشر الآنية   وعنما لايتمكن من ذلك  يتحول من  خادم للناس  الى  مخدوم من الناس  , يتحول الى ايقونة  والى تراث  والى شيئ تاريخي  الى آثار….  ووجوده يصبح كوجود قطعة أثرية في متحف .مشكلة الحزب  هي في كون سعادة لم يمت ,وفي قبره لايزال يفكر ويأمر   دون  مقدرته على رؤية  ماتحول اليه ماهو خارج القبرمن العالم  , عليه أن يموت حقا  ليسمح للحزب  بالحياة  , الحياة بدون تطور هي موت ولو بعض حين.

الحياة المدنية والمجتمع المدني  والدولة المدنية  كمؤسسات بحاجة الى مواطنين  وليس الى مؤمنين  , مؤسسات الأديان  كدور العبادة  ودور الفتوى  والمطارنة والخوارنة  والمشايخ بحاجة الى مؤمنين وليس الى مواطنين  ,تبادل الأدوار أو تشابكها   يقود الى الخلل  الوظيفي في المجتمع  وما يترتب على ذلك من عواقب  كعدم الاستقرار والتطور التراجعي  , خاصة وان الثقافة الدينية ملزمة بخدمة ذاتها  اي باعادة انتاج ذاتها  بعد أن انقضى في العديد من الحالات صلاحية هذا الذات  , ولا يختلف  اعادة انتاج الذات  ان كان على كسم الله  وآرائه  أو على كسم المتأله وآرائه ,  ولا فرق هنا  بين مصادر التأليه , فقد يكون التأليه نتيجة لسعي ذاتي  أو يكون التأليه نتيجة  لتنصيب الشخص كاله  من خارجه أي من جماعته  , سعادة  كان  في منتهى الديناميكية  والتطورية  , ولو تثنى له  البقاء على  قيد الحياة لفترة أطول , لوجدنا على أنه  هو بالذات من  بنتقد  ذاته  وهو بالذات من  يؤقلم  نظرته   ويناسقها مع الواقع  ,  لو بقي حيا  لوجدناه  متنكرا  للعنف  وللتشنج القومي  ثم للأناية القومية  , كل ذلك كان صحيحا  في زمن  نشوء الدول القومية  أي في الثلاثينات وما قبل الثلاثينات  , في عصر العولمة  وفي عصر  فقدان الدولة القومية  للعديد من  الصلاحيات  حتى  الداخلية  لايجوز   التمسك بما  فقد اهميته وفاعليته وصلاحيته.

أعترف  بمنتهى التواضع على  أني غير ملم   بتفاصيل تطورات الحزب , وما ذكرته  ليس الا  صورة عن ” انطباعاتي ” عن  الحزب , انطباعات  قد تكون خاطئة  أو مصيبة  , وسبب   انطباعي  هو  ذلك  التشديد  الذي أشعر به  بما يخص تمجيد   سعادة (تواصل اجتماعي ..الخ)  ليصل هذا التمجيد الى حد التأليه  , سعادة جدير  بالاحترام , انه قدوة , وكما تمكن  في الثلاثينات  من   انجاز  رصيد فكري  جديد ومتطور  , فعلى  من أتى بعده  أن يضيف  على رصيد سعادة  رصيدا جديدا أيضا . الى متى يستطيع الحزب  استهلاك  ملقدمه سعادة من غذاء فكري ؟ والى متى  يمكن لفكر  القرن الماضي  أن يعالج بنجاح  اشكاليات هذا القرن ؟.

لسنا وللأسف  الفاعلين  في هذا العالم  وانما المفعول بهم   ,اننا حقا ملعبا  للخارج السياسي   والعسكري  والاقتصادي والعلمي والاجتماعي , وعلى هذا الملعب  لايلعب أحد منا  , لقد حل بنا التقزم والهامشية  ولم نعد  صناع تاريخ  حتى تاريخنا …كل ذلك ليس دليل قوة  انما دليل ضعف  , وأحد أهم أسباب الضعف  هو شلل الفكر ,  ينشل الفكر عندما  يتحدد  بعقل واحد  .. أليس  عندكم سعادة آخر ؟

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *