موسكو ونهر قويق !

بقلم:محمد صبرا:

أغلب الظن أن المجتمعين في موسكو، ومن قبلهم الذين اجتمعوا في القاهرة، لا يعرفون شيئاً عن نهر قويق، فخبرتهم “القومية” و”الأممية” تملي عليهم معرفة أنهار أخرى، فهم أكثر دراية بنيل القاهرة وعذوبة مائه، وأكثر احتفاء بغزارة فولغا موسكو وتهاديه بين ظهرانيها، قريباً من ساحتها الحمراء. كنّا فيما مضى نتندّر على هؤلاء المستلبين وجدانياً، ونقول “إذا أمطرت في موسكو، رفعوا مظلاتهم في دمشق”، “وإذا عطست القاهرة، أرعدوا في دمشق”. هؤلاء الذين يأسرهم حبهم للنيل، ما زالوا يحسبون أن عبد الناصر يقف حارساً لأحلام النهر، ولم يدركوا بعد أن النيل قد غيّر جلده، ووجهة سيره، منذ زمن طويل، ولم يستوعبوا بعد أن ستالين لم يعد يلوّح للجيش الأحمر في عيد النصر على ضفاف الفولغا.

تبدلّت الدول وتغيّرت سياساتها، وحدهم ظلّوا كما هم، نائمين عند عتبات أحلامهم وأوهامهم التي ماتت منذ عقود. ليست مفارقة ولا صدفة، أن تكون أغلبية الحاضرين في القاهرة وموسكو من بقايا المسكونين بالناصرية والقومية العربية والشيوعية بأشكالها الأيديولوجية والشعاراتية التي شوهت كل شيء واختزلت الواقع في صور صنمية لا تتغير ولا تتبدل، حتى أن المرء يتخيلهم اليوم ما زالوا يختالون بشالاتهم الحمراء، ويتحدثون بحماسة عن “تحالف قوى الشعب العامل”، و”نضال الطبقة العاملة ضد البرجوازية”، و”دحر الإمبريالية”، و”بناء الاشتراكية”، أو أنهم انتهوا للتو من قراءة كتيب “فلسفة الثورة” لعبد الناصر أو بعض الورقيات التي تتضمن شروحات أيديولوجية مشوِّهة للماركسية، التي كانت تصدرها دار التقدم في موسكو.

جميع هؤلاء غاب عنهم المشهد السوري، فلم يحدث شيء في سورية، مجرد “نزاع″ بسيط بين معارضة “واعية” ونظام حكم فيه بعض الفساد، ويمكن للطرفين أن يلتقيا عند نقطة مكافحة الإرهاب، وتحسين شروط الحياة للسوريين. لم يقتل أحد في سورية، سوى برصاص الإرهابيين، أما “النظام”، أو بالأحرى “نظامهم”، فكان يدافع عن الدولة في مواجهتهم، ولأنه فقير كان يستخدم قنابل الفقراء، مجرد براميل محشوّة بالمتفجرات وما تيسّر من شظايا معدنية، والبراميل لأنها فقيرة “قد تخطئ أهدافها”، وبدلاً من أن تنزل على رؤوس الإرهابيين قد تصيب مدنيين أبرياء، وأحياناً استخدم بعض “المنظفات” على هيئة “كيماويات” تقتل بصمت وبلا ألم، حرصاً على أن يكون الموت رحيماً، تلك هي كل المشكلة أو “النزاع″ المزعوم.

جماعة “الشالات” الحمراء بالذات ما زالوا يقرؤون التاريخ بعيون الفيلسوف الإغريقي “أناكسيمنس″، فأنت لا تستطيع أن تغتسل في النهر مرتين، فهذه الثورة ليست أصيلة لأنها نهر جارف، وهم تعلموا في كتبهم الحمراء أن حركة التاريخ تكون بأن يلقي “المفكرون” “أي هم” حصاةً في النهر، وحصاةً أخرى وأخرى إلى أن تتحوّل هذه الحصيّات إلى سد منيع، بينما حركة الثورة جرت من دون أن يلتزم “الرعاع″ بإلقاء الحصاة، بل إنهم سعوا، بحكم “جهلهم وتخلفهم”، لتغيير مجرى النهر دفعة واحدة، وهذا خروجٌ على نصوصهم المقدسة.

أنهارهم، نهر أناكسيمنس ونهر الفولغا، ونهر العروبة الهادر من القاهرة، ليست أكثر سموّاً من نهر قويق الصغير في حلب، نهر قويق نهرنا ولكم أنهاركم.

في مثل هذا اليوم، 29 كانزن الثاني/يناير 2013، أفاق أهالي حلب على فاجعة مدينتهم، فنهرهم الصغير الذي بالكاد يسيل ماءً، أصبح أكثر غزارة، لكنه لم يكن يتدفق ماءً، بل كان ينبع شهداء. كان النهر الجريح يجرّ مئتي شهيد مكبلي الأيدي، مئتي شهيد لم يكونوا مخلفات زائدة، بل كانوا في ما مضى بشراً أسوياء، لهم أسماء وأمهات وآباء وأبناء وعشيقات وحبيبات، مئتي شهيد كانوا مثلنا وليسوا بقايا يحملها طميُ النهر الصغير.

نهر قويق، نهر الشهداء الذاهبين إلى حتفهم مظلومين بوحشية طغمةٍ لوثّت كل حياتنا، طغمة قتلت الماء والهواء وفضاءنا الروحي، استلبت إنسانيتنا، وحولتنا إلى مجرد شهود على المذبحة أو إلى منتقمين غاضبين.

مرّ عامان على مذبحة النهر، جريمة الحرب التي تقضّ مضاجع الأهل، يتقززّ منها حتى الشجر الذي يشرب من نهر قويق، وحدهم جماعة النيل وجماعة الفولغا لا يعرفون أين يقع النهر العظيم.

نهر قويق، النهر الذبيح الملوّث ببربريّة مجرمي العصر يحتاج إلى من يغسل ماءه من عار صمتنا على ضحاياه. في الذكرى الثانية لمذبحة النهر, لأرواح الشهداء السلام, ولروح النهر السكينة. سيبقى نهرنا، نهر قويق، أعظم من نيل القاهرة، وأنبل من فولغا موسكو.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *