كيف غفر أهل حماة للسوريين؟

بقلم:ديما ونوس:

“أمة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة.. أهدافنا: وحدة، حرية، اشتراكية.. قائدنا إلى الأبد، الأمين حافظ الأسد.. عهدنا: أن نقضي على الإمبريالية والصهيونية الرجعية وأن نسحق أداتهم المجرمة عصابة الإخوان المسلمين العميلة”.

تحت هدير تلك العبارات، يستيقظ جيل “الطلائع” و”الشبيبة”. يردّدونها من دون تفكير أو تأمّل. لا داعي للبحث في أصل تلك الكلمات ولا في معناها. إنها محفورة في الذاكرة كما البديهيات. وكل طفل ينتمي إلى ذلك الجيل، تكبر صورة “الإخوان المسلمين” في خياله بطريقة ما. هناك من يتخيّلهم رجالاً بقامات طويلة وذقون داكنة تتدلّى إلى صدورهم. هناك من يراهم أشباحاً يرتدون أثواباً بيضاء ناصعة وينتعلون أحذية خفيفة من الكاوتشوك. أحد أصدقاء المدرسة كان ينقل عن أهله أنهم ملثّمون بالأسود ولا يمكن لأحد تبيّن ملامحهم. بالضبط، كأنهم وحوش الأساطير، شخصيات روائية يحيط بها الخيال والمجاز والاستعارة.

أما مدينة “حماة” فلم نكن نعرف عنها أكثر مما نعرف عن المدن السورية الأخرى خارج دمشق. وعندما زرناها في رحلة مدرسية، أمضينا الوقت كلّه أمام النواعير نتفرّج على الماء تحمله بكفٍّ وترميه بآخر. “حماة” هي النواعير مثلما أن طرطوس هي البحر وحمص هي الأشجار المائلة والنبك هي “الهريسة” وحلب القلعة. أما إدلب والرقة ودير الزور ودرعا، فلم نسمع بوجودها إلى وقت متأخر. حتى في دروس الجغرافيا، تفقد المدن السورية معناها. لا تنفرد كل مدينة بملامح وتاريخ منفصل. مجرّد صور نمطية وسياحية. لا ملامح تفرّق بين مدينة وأخرى. كلّ المدن هي القطر العربي السوري. كلّ المدن هي منظومة واحدة وبلد واحد تحكمه صورة واحدة موزّعة على جميع مدارس “القطر” ومؤسّساته الرسمية وسياراته وشوارعه وعواميد الكهرباء.
الشمس تشرق في دمشق قبل دقائق قليلة من حماة أو إدلب.

دقائق قليلة إذاً، تفصل بين تلك الشعارات التي يردّدها أطفال سورية كل صباح بالإيقاع ذاته. وكم يبدو المشهد موحشاً وأسود لو تخيلناه من السماء كل صباح. كل مدارس سورية تصرخ بفارق دقائق قليلة بالعبارات ذاتها. كل الأطفال يرتدون الألوان ذاتها، كالمعلّبات يتجمّعون في الباحات، رؤوسهم محشوة ومترعة بالكراهية والكآبة وواجب الطاعة العمياء.

“حافظ الأسد، لوّث يديه بالدماء نيابة عن الشعب السوري كلّه”. هذه العبارة تختصر “مجزرة حماة” التي لا يعرف عنها السوريون حتى الآن سوى مشاهد عابرة وقصص تروى بالخفاء وبصوت خفيض. الحمويّون وحدهم، يعرفون ما حدث في مدينتهم. يعرفون ويعتبون. قتلوا ولم يجدوا في سوريي المناطق الأخرى القريبة أو البعيدة ملاذاً لهم. تُركوا لمصيرهم. حتى ليخيّل للمرء أن أبواباً شاهقة تسوّر حماة، أغلقت في يوم من الأيام على سكّانها، منعوا من الهرب، قتل من قتل ونجا من نجا، وجفّت الدماء في أرضها، ودفنت الجثث على عجل، ثم فتحت الأبواب وكأن شيئاً لم يكن.

يروي صديق سوري كيف زار حماة في التسعينات وقصد فندق “أفاميا الشام” المشيّد حديثاً ذلك الحين بخمس نجوم. قال له عامل حموي في الفندق إن الأساسات قامت على جثث ضحايا حماة وإن الأرض التي اختارها أصحاب الفندق، كانت مقبرة جماعية لمن قتل حينها. لم يستطع الصديق أن يغمض عينيه، رحل في الصباح الباكر.

لا أحد يعرف ماذا حصل في حماة بالضبط. صمت السوريون حينها. كأن حماة تنتمي إلى بلد آخر. كأن أهلها ليسوا منّا. يقال إن بيوت باقي سورية أغلقت في وجه الهاربين من الموت. يقال إن سورية تحّولت في شهر شباط من ذلك العام إلى مدينتين: مدينة حماة ومدينة أخرى تضمّ باقي المدن. ويقال إن الجثث نهشتها الكلاب في الطرقات وإن البعض القليل استطاع الفوز بقبر في حديقة أو بستان. يقال الكثير وكل ما يقال لا يعادل الحقيقة ولا يعادل دقيقة واحدة من الأيام السبعة والعشرين. طبيب العيون الذي اقتلعوا عينيه. المرأة الحامل التي قتلوها لأن “جنينها رح يطلع إخونجي”، وتلك التي نامت بين جثث أهلها لثلاثة أيام قبل أن ينقذها أحد الناجين. وقصص أخرى بعضها موثّق وبعضها ضاع.

من التقليدي القول إن ما يحدث في سورية منذ الخامس عشر من آذار 2011، هو تعميم لتجربة حماة في العام 1982. إلى أن يحضر السؤال: كيف غفر أهل حماة للسوريين ذلك التخلّي؟ كيف واليوم نعرف أكثر من أي وقت مضى ما تعنيه المجازر والحروب وما يعنيه التخلّي عن الآخر.

اليوم أيضاً، ثمة من يتخلّى عن انتمائه للسوريين ويقف إلى جانب النظام في مجازره. ثمة من يشمت بالدماء وبالنفي والتهجير. صحيح أن الثورة لم تردّ الروح لضحايا حماة، لكنها بالتأكيد أعادت لأهل حماة حقهم بأن يعرف باقي السوريين ولو بعضاً قليلاً مما عاشوه.
كيف للأرض أن تستوي وفي جوفها ينام القاتل إلى جانب القتيل؟

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *