تلك أمة قد خلت…..

 بقلم:محمد حبش

أثارت كلمات سريعة كتبتها معارضة سورية غضبا شديداً في الشارع السوري واعتبرت تجديفاً في الدين وتشويها لتاريخه، ونالت الكاتبة سيلاً من الشتائم المقذعة الفاحشة التي لا يمكن روايتها تلميحاً ولا تصريحاً…

وتقتصر الروايات التي اوردتها بشكل رئيس على خبر أم قرفة التي رفضت الدخول في الاسلام وامتنعت بنحو اربعين من ابناءها واحفادها وتؤكد الروايات أنها قتلت في مواجهة مباشرة مع الصحابي زيد بن حارثة، في حين تشير روايات أخرى إلى وصف قاس لإعدامها بعد أن هزمت وفيها ان زيداً بعد ان ظفر بها ربطها الى بعيرين واثارهما حتى قطعت نصفين أمام أبنائها وأحفادها!!

أما الرواية الثانية فهي موقف خالد بن الوليد عندما خرج لقتال المرتدين وظفر بمالك بن نويرة وقتله، وتشير بعض الروايات إلى قتل في غاية القسوة وفيه أنه أمر بقطع عنقه ثم طبخه في قدر وأكل منه ونكح زوجته وكانت بالغة الجمال قبل انتهاء عدتها.

والمدهش أن الكاتبة اوردت النص التاريخي من مصادره مع تعليق لا يتجاوز اصابع اليد، ولم يكن النقل أكثر من قص ولصق ولا يوجد فيه أي تحريف أو تزوير عن الأصل الأول، وكانت تبرر دافعها بالرغبة في تسليط الضوء على الجرائم التي ترتكب باسم الاسلام اليوم.

ومع أنني لا أبرؤها من موقفها الاتهامي الظاهر للإسلام نفسه بهذه الفظائع ولكن اتهام الآخرين بالتحامل لا يعفينا من مواجهة المسألة بحجمها وواقعيتها.

وحين تكون الغرائز في أوج استعارها فإن من العسير تماما أن تكتب في الحوار العلمي، وقد نصحني عدد من الاصدقاء ان لا أخوض مثل هذه الحوارات تجبناً لوجع الرأس، ولكنه قدر أولئك المؤمنين برسالة الكلمة في مواجهة الحقيقة، وهو قدر يمليه عليك الواجب حين تضع يدك على واحد من أهم دوافع العنف والقتال الذي يعضف بأرضك وبلادك ويحيل تاريخها وشعبها إلى ركام.

ويمكن القول ان الناس انقسموا في رواية هذا إلى صنفين اثنين، فهناك من رأى في هذه الروايات سنداً حقيقياً لما يجب فعله على الأرض من عنف وإرهاب بحق من تسول له نفسه مواجهة الإسلام حيث ينبغي التنكيل بهؤلاء وإرهابهم وإرعابهم بما يدفع شرهم عبر استخدام سائر أشكال الانتقام.

وهؤلاء يحملون من البداية شعار المصحف والسيف، ولا يجدون أي غضاضة في القول بأن الإسلام انتشر بالجهاد، وأن الجهاد ليس رياضة سياحية مارسها الصحابة بل هو رؤوس تتطاير وأعناق تنحر ودماء تهراق منا ومن عدونا حتى يحكم الله…. ولا يعبؤون في شيء بدعاوى المستشرقين أن الإسلام انتشر بالسيف، بل يرفعون شعار: جئتكم بالذبح وأنا الذباح الرحيم!!!

أما الذين رفضوا الروايات واعتبروها مسيئة للإسلام وللصحابة الكرام، فقد صبوا جام غضبهم على الراوية الأخيرة لهذه الحكايا السوء، ولم يقم واحد منهم بنقد الرواة الأوائل الذين دونوا هذه الروايات في كتبهم منذ اكثر من الف عام ونشروها في كل مكان في الدنيا ولم يذكروا بشيء اولئك الذين يطبعون هذه الكتب في الجامعات الاسلامية والمعاهد الشرعية ويعيدون اقراءها للناس، ولا حتى أولئك الذين يصعدون المنابر اليوم ويتغنون ببطولات كهذه من قتل وطبخ وسبي وذبح على أنها من ضرورات المعركة الحاشدة ضد الكفر.

وسيدهش القارئ حين يتابع معي أسماء الرواة الذين ذكروا هذه الروايات وبشكل مختصر:

رواية قتل أم قرفة وردت في معظم كتب السيرة النبوية، ابن كثير وابن هشام وابن اسحق وابن سعد، وتفصيل خبر قتلها بربطها بين بعيرين حتى شقت نصفين وردت تحديداً في الكتب التالية: السيرة الحلبية ومغازي الواقدي وعيون الأثر والكامل في التاريخ لابن الأثير، وقد أوردها بان اسحق ونسبها الى صحابي آخر هو قيس بن المسحر.

وروايات قتل خالد بن الوليد لمالك بن نويره واعتراض عمر بن الخطاب الشديد على ذلك موجودة أيضاً في معظم كتب السيرة ومنها والسيرة النبوية لابن كثير والسيرة النبوية للذهبي والسيرة النبوية لابن حبان والاكتفاء للكلاعي الاندلسي والروض الانف للسهيلي والسيرة الحلبية لعلي بن برهان الحلبي ، أما الروايات التي أشارت إلى ان خالداً قام بطبخ رأس مالك وأكل منه فهي أيضا كثيرة ومنها: البداية والنهاية لابن كثير وتاريخ الاسلام للذهبي ومرآة الجنان لليافعي.

لم أقرأ تعليقاً واحداً يلوم هؤلاء المؤرخين والمحدثين القساة الذين نعصمهم عادة بعبارات من الإطراء والثناء والتقدير تجعل مجرد التفكير في انتقادهم نوعاً من التجديف بالشريعة.

أما اصحاب شعار: بالذبح جيناكم الذين يرون البشرية بحاجة لتطهير دموي وفق رؤيتهم وهم ماضون في ذلك فإنهم يقومون برواية اخبار كهذه ويتغزلون بما فيها ويعدونها من محاسن الشمائل، وقد استمعت قبل أيام لخطيب داعشي يستدل على قتل الأطفال والنساء برواية منسوبة للرسول الكريم عن الصعب بن جثامة قلنا يا رسول الله الدار من دور المشركين نصبحها بالغارة فنصيب الولدان تحت بطون الخيل ولا نشعر فقال إنهم منهم.

ولكن ما لا أفهمه أبداً هو موقف أولئك الذين يعتبرون هذه الروايات تشويها للإسلام وإساءة إليه ولكنهم في الوقت لا يقبلون كلمة نقد واحدة في حق الرواة الذين دونوا ذلك إذا كانوا يرونهم قد كذبوا فيها، ولا في حق من نسبت إليه هذه الأفعال إليه إن صدق الرواة فيها.

وما لا أفهمه أبداً كيف يعتبرون النقل من هذه الكتب إساءة وعدواناً على الإسلام في حين أن رواية هذه المخازي والفظائع وتدوينها وتدريسها لمئات السنين لا تثير فيهم أي اعتراض؟؟

والواقع أن من يروي أخباراً بهذه القسوة ثم لا يعلق بحرف واحد عليها إنما يعبر عن قتاعته بما فيها، وليس كما يظن البعض أنه قد أسند ومن أسند فقد أعذر… قد يقبل ذلك في المسائل الحيادية كما لو كان يروي في صلاة أو صيام أو مكارم أخلاق، ولكن هذا التبرير لا ينفع أبداً في القضايا الجدلية التي تشتمل على اتهام مباشر، ففي هذه الحالة لا بد أن الراوي مقتنعاً بما يرويه وليس مجرد قمع قول يمارس الإسناد والرواية البلهاء.

نحن بحاجة إلى ثورة فكرية حقيقية تنسف بالأيقونات جميعاً…. وتعيد الاعتبار لقيم الإسلام العليا في المرحمة والسلام والتكامل بين الأنبياء، ورفض كل خطاب كراهية ومواجهته في مصدره الأول دون خوف من التاريخ… لقد ارتكبوا انتصارات وهزائم، وفتوحاً وجرائم، ونجاحات ومظالم، وهم بشر من البشر تصدروا المشهد الإنساني في مرحلة من التاريخ، وحان الوقت أن نتعامل مع هذا التاريخ بواقع قول الله تعالى: تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *