إبراهيم أحمد
كثيرون يختصرون ما يجري اليوم في العراق؛ بأنه هجوم إرهابي واسع يقوم به تنظيم داعش، يقتضي تجييش الناس للتصدي له، ولا شيء آخر، وفي هذا قفز على الحقائق، ودخول لمتاهة تزيد الكارثة وبالا!
يواصل رجال السلطة، ومراجعهم الطائفية، وأجهزتهم الإعلامية خداع أنفسهم، ومحاولة تضليل غيرهم وحشو جلد داعش قضية العراق الكبرى والحقيقية والمتمثلة بالعديد من الظواهر السيئة والخطيرة في نظام الحكم القائم، وفي أسس العملية السياسية التي بني عليها،وفي دستورها المشوه! ومن المعروف أن النعامة حين تدفن رأسها في الرمال لا تنجو من نبال الصياد، بل على العكس تكون فريسة سهلة له!
هذه القضية الأساسية لا يمكن أن تغيب وراء أشباح داعش ،وبالمزيد من دخان الدبابات، وجر المدنيين الأبرياء لمزيد من التذابح الطائفي، تحت صيحات الحكام، ورجال الدين، المرتجفين من ساعة الحقيقة!
لم يكن سكان المدن التي خرجت اليوم عن سلطة الحكومة وحدهم قد عانوا كثيرا من انعدام الكهرباء،والماء النظيف، والخدمات الضرورية،ومن فساد وسرقات المسؤولين الكبار في الدولة. لقد عانى معهم أشقاؤهم في المدن ذات الأكثرية الشيعية ذلك أيضا.
ولكن ما عانى منه السنة، وبشكل استثنائي مسألة أخرى غاية في الخطورة، ألا وهي محاولة السلطة والطبقة الطائفية الحاكمة النيل من كرامتهم ومشاعرهم، ووجودهم كله، عبر مختلف أنواع الممارسات بدءا من تهميشهم وإقصائهم وغمط حقوقهم وتزوير إرادتهم، إلى المس بمشاعرهم الدينية، والعرقية؛والثقافية ، حتى وجدوا أنفسهم غرباء في وطنهم، أو في أفضل الأحوال صاروا مواطنين من الدرجة الدنيا فيه!
بلغ الأمر ان المواطن منهم لا يستطيع تمشية ابسط معاملة له في بغداد إلا عبر وسيط شيعي، و من حزب طائفي حاكم! وكل من أعترض، أو رفع نبرة أنينه وشكواه، زج في السجن،وفق المادة ( 4) إرهاب! حتى غصت السجون القديمة والحديثة بعشرات آلاف السجناء من الرجال والنساء حيث تعرضوا لمختلف أنواع التعذيب والانتهاكات الجسدية والنفسية، بل إن كثيرا من النساء تعرضن للاغتصاب.
سعى المالكي لإخضاعهم بتحويل مناطقهم إلى سجون كبيرة لهم، فقام وبالتنسيق مع قاسم سليماني قائد فيلق القدس الإيراني، بإرسال جيشه ليكون سجانهم. وقد أفلح هذا الجيش الذي تكون من مختلف المليشيات الطائفية المتنافرة، وأبدلت مهامه من مدافع عن حدود البلاد، إلى قائم بمهام الشرطة المحلية في أن يؤدي مهمته كسجان وجلاد بشكل قل نظيره!
ويستطيع سكان تلك المناطق أن يرووا الكثير عن اقتراف فصائل منه جرائم مروعة بحقهم، عبر قصفهم عشوائيا، والقتل المتعمد للكثيرين منهم، والاعتداء على أعراضهم وممتلكاتهم، وجني الأتاوات منهم؛ حتى أن المواطن هناك صار لا يستطيع اجتياز سيطرة على الطريق إلا بعد دفع مبلغ من المال! كما صارت أغاني ورقصات الجنود والضباط المفضلة،والتي لم يسبق لها مثيل في الحياة العسكرية، هي التي تتضمن إهانات وطعن في مقدسات ورموز هؤلاء المواطنين!
صبر سكان المحافظات السنية على ما كان ينزل عليهم من ضيم وظلم لسنوات، ثم حاولوا التعبير عن مطالبهم وحقوقهم بالمظاهرات والتجمعات والاعتصامات السلمية وبكل طرق الاحتجاجات العادية المعروفة والسائدة في شتى أنحاء العالم. لكن المالكي المذعور حتى من ظله، استكثر عليهم تجمعاتهم في الصحراء تحت هجير الصيف وبرد الشتاء، وتجاهل مطالبهم المشروعة واصفا هبتهم بالفقاعة التي لا تستحق التفاتا، وأسماهم هو وكتبته “بالإرهابيين والوهابيين، والتكفيريين واتباع القاعدة، والبعثيين والصداميين إلخ.”. ولكنه لم يجد ذلك كافيا لإقناع أمريكا وقوى أخرى لمساعدته في سحقهم كما حصل في الحويجة، والخلاص منهم، وإجلائهم من العراق ليخلو له ولقادته الطائفيين معه.
فمضى وبمنتهى القسوة وانعدام الشعور بالمسؤولية،في حصارهم ومحاربتهم بهدف إلقائهم فعلا في أحضان الإرهابيين. قائلا في أكثر من خطاب:”بيننا وبينهم بحر من الدماء، والمعركة معهم هي معركة بين اتباع يزيد، واتباع الحسين، وانهم ليسوا عراقيين، قابلا بلقب مختار العصر ، متلبسا إهاب مختار الثقفي الذي مات قبل مئات السنين ومتبنيا في هذا الوقت صيحته الشهيرة يا لثارات الحسين إلخ”.
بهذا الشحن الطائفي المفزع؛ راحت الدبابات والطائرات والمغاوير تقصف الفلوجة والرمادي وغيرهما دون تفريق بين بيوت الناس ومواقع المقاومين، بذلك مارس على الأهالي إرهاب الدولة تحت غطاء القانون المهلهل، فشرد مئات الآلاف من العجائز والنساء والأطفال من منازلهم، وفي إحدى العمليات اعتقل جنوده وبطريقة مهينة نائبا في البرلمان من الرمادي، وقتلوا شقيقه، وداسوا على رأسه وجثته بالأحذية!
أفلح المالكي فعلا في إنهاك السنة وتمزيقهم فاستطاع الإرهابيون من زمر داعش والقاعدة التسلل إلى أرضهم وتكوين بيئة ملائمة لنشاطهم وصولاتهم واندفاعاتهم الإجرامية بعد أن كان أهلوها قد طردوهم منها بالصحوات المعروفة. لكن المالكي بغباء وقصر نظر وجهل بما كان قد قاله المتنبي قبل أكثر من ألف عام ( ومن يجعل
الضرغام بازاً لصيده تصيده الضرغام فيما تصيدا) عرض الجيش لخطر الإرهاب الحقيقي! فها هي داعش المتوحشة تجد طريقها وتتسلل إلى انتفاضة الناس ،وتعمل بطريقتها الخاصة المنفصلة والمتسمة بنزعة التدمير الدموي الكلي والتي يرفضها الثوار، فهم يريدون لثورتهم أن تبقى نظيفة ناصعة، وبما يليق بعدالة مطالبهم!
سكان هذه المناطق يكرهون داعش ويخشونها كثيرا، ويرونها من صنع المخابرات الإيرانية، ويدللون على ذلك بكون كل إندفاعاتها الهمجية سواء في سوريا أو العراق تصب بالنهاية في صالح الحاكم المتسلط، وتمنحه إسناد أمريكا و قوى دولية أخرى ، مع المبرر لقصف مدنهم، وقتلهم وتشريد عوائلهم!
اليوم صار سكان هذه المناطق، أمام مصيبتين، مصيبة داعش كمنظمة إرهابية ظلامية وحشية تريد استثمار اضطهادهم ومظالمهم لمشاريعها المشبوهة والمدمرة، وبين سياسة المالكي التي تلقي عليهم صبغة داعش لتستمر في إقصائهم ونبذهم ووصمهم بالإرهاب والتخلف، وتحبط ندائهم ، والذي هو نداء كل العراقيين، في ضرورة التغيير الحقيقي!
السنة ليسوا وحوشا كما يصوروهم خصومهم اليوم، وبالطبع هم ليسوا ملائكة أيضا، ولكن حيفا كبيرا وقع عليهم حتى من سياسيين سنة دخلوا العملية السياسية باسمهم، واستنادا إلى كتلتهم البشرية، فقد ارتضى كثير من هؤلاء لأنفسهم أن يكونوا مجرد ديكور سياسي وفزاعات طيور لمزارع رجال السلطة المثمرة ذهبا، وأهملوا مصالح الناس الذين جاءوا باسمهم، وانهمكوا في جمع الأموال ومظاهر الجاه والأبهة الفارغة،فتخلوا عن وظائفهم والأمانة التي استودعت لديهم، وفتحوا مكاتب في عمان وبيروت لبيع عقود المقاولات والمتاجرة والمناصب والامتيازات والتهالك على المتع وإرضاء الشهوات، لذا فإن الموضوعية تقتضي الإقرار ان الظلم الذي وقع على السنة ليس من قادة الشيعة الطائفيين وحسب، بل من رجال سنة ممتلئة كروشهم وجيوبهم، فارغة عقولهم،وضمائرهم!
ثورة أبناء هذه المحافظات، ينبغي أن تكون ضد كل أشكال الفساد والانحراف والظلم من أية شخصية أو جهة كانت، وبعيدة عن داعش الموغلة في جنونها وجرائمها، وعن الإرهاب الذي حاربوه طويلا ، وضحوا من أجل ذلك بالكثير من أرواحهم وممتلكاتهم، ولم يقروه طريقا للنضال ولو من أجل القضايا العادلة!
لكن ساحة انتفاضتهم أصبحت معقدة، وغير محصنة بفعل التداخلات والضغوط السابقة والحالية، مع ذلك فإن جهودهم وأحلامهم المشروعة في حياة آمنة رغيدة تقوم على أساس الأخوة بين أبناء الوطن الواحد لا يمكن ان تجير لداعش الدخيلة على أرض العراق، وتوصف بالإرهاب ؛وإلا لأصبح كل ثوار العالم وعلى مر التاريخ إرهابيين، وليسوا أصحاب حق منتفضين لدرء الظلم والذل عنهم وعن شعوبهم!
بمقاييس الثورة المكبوتة والمعلنة فإن هذه الانتفاضة لا تقتصر على السنة وحدهم؛ هي تشمل الكثيرين من الشيعية في مختلف أنحاء العراق، وفي الخارج الذين أدركوا المهالك التي يقودهم إليهم متزعمو طائفتهم وقادة أحزابها المعتمدة المذهب الضيق أيدلوجية شمولية استنزفتهم بمسيرات البكاء واللطم المليونية، وألاعيب النفاق والدجل، وجرتهم إلى ما يشبه الغيتو بغية فصلهم عن أشقائهم السنة، وكل أنشطة الحضارة في العالم، والهيمنة عليهم وقودا لمشاريعهم المهووسة في التمسك بالسلطة وتكديس الثروة.
القضية المتفجرة اليوم ذات طبيعة سياسية وإنسانية وأخلاقية ولا دواء لها في مخازن العتاد الحربي ،وهي اليوم واضحة، إلا لمن يفضل عمى الألوان، وممكنة الحل، والحل السريع أيضا، ولكن ما العمل مع من يصر على حل عسكري قمعي، تهديمي؟ رافضا أي حل سياسي عميق وبناء، أقل كلفة بكثير؟