أعلن بشار الأسد مرار وتكرارا حرصه على سلامة الأقليات , وان كانت ترجمة أقواله لاتعن الا شخصه وعائلته كأقلية تستحق سلامتها وبقائها حتى ولو اندثرت الدولة , فانه لايتنكر نظريا لحماية المسيحيين , أما عمليا فقد قادت جهوده وجهود والده في ممارسة حماية المسيحيين أيضا الى هجرة نصف مسيحيي سوريا في نصف القرن الأخير , هجرة لاتبرهن اطلاقا عن عن شعورهم بالحماية ولا تبرهن الا على شيئ واحد , ألا وهو افشال الوطن عمدا في استيعابهم , لقد هاجروا لأنهم أدركوا على أنهم مواطنين من الدرجة الأقل من الثانية , هاجروا لأنه لم يتم اعتبارهم كمواطنين , وانما كمستوطينين , وفي افضل الأحوال كضيوف , عاشوا على الفتات الذي يرفضه العلوي وذلك في كافة المجالات , ان كان في الجامعة او في المدرسة … خذوا المدن المسيحية كمرمريتا مثلا فهل يوجد هناك رئيس دائرة الا من المذهب العلوي ؟ , هل يوجد مدير بنك (حكومي) الا العلوي , هل يوجد مدير مدرسة الا علوي , واذا تمتم تعيين مدير مدرسة مسيحي , فسيكون نائبه علوي حتما , وعن هذه القاعدة لايوجد استثناء .
المالكي أيضا حريص جدا على المسيحيين , ويتحسر ليلا نهارا من أجلهم وبسبب مصيرهم على يد داعش , وقبله مارس صدام الكثير من هذا القبيل , وعلى الأقل يمكن القول على أن ديكورات صدام كانت مسيحية من وزير الخارجية الى احتضان مؤسس البعث عفلق , أما ديكورات الأسد فقد كانت أكثر تواضعا بكثير من ديكورات صدام , وبالنتيجة يجب القول بوجود علاقة أكيدة بين المسؤول في السلطة , وهو في هذه الحالة الأسد هنا وصدام هناك , وبين ماحل بالمسيحيين وما حل بغيرهم , واذا لم يكن الأسد مسؤولا ولم يكن صدام مسؤولا , فمن هو المسؤول ياترى ؟
عدد المسيحيين تناقص في العراق أكثر من في سوريا , لقد كان هناك أربعة ملاين مسيحي , والآن يوجد في العراق أقل من ٤٠٠٠٠٠ مسيحي , , البقية هاجروا وهربوا وأصبحت لهم أوطان أخرى , وشخصيا لا أستطيع اخفاء سعادتي في نزوحهم واستيطانهم في أوطان أخرى , ذلك لأن مستقبلهم في بلدان من نوع العراق ونوع سوريا معدوم , وسبب عدمية هذا المستقبل ليس البغدادي وليس الجولاني , وانما البعث الذي اغتال الحرية واغتال الوحدة والاشتراكية ,اضافة الى اغتياله للعدالة الجتماعية وممارسته للطائفية ..الخ ولو وجدت علمانية لاغتالها أيضا , وسبب انكاري لمسؤولية البغدادي والجولاني في تهجير المسيحيين يعود الى أمر منطقي وبسيط ألا وهو ان الجولاني والبغدادي لم يحكموا البلاد لعدة عقود , ولم يكن لهم أي وجود قبل عام ٢٠١٣ , , فالمسؤول عن هذا التطور هو حزب البعث بشطريه العراقي والسوري , ثم آل صدام حسين وآل حافظ الأسد ثم اولادهم من بعدهم , هنا بشار , وهناك لم يقدر لعدي أو قصي ان يتابع مسيرة الوالد , وذلك بعكس سوريا .
نفي علاقة البغدادي أو الجولاني بقضية هجرة المسيحيين لاتعني انكار علاقة الطائفية بهذا التهجير , التهجير هو مفرز من مفرزات الطائفية , التي مارسها بأقبح الأشكال كل من حافظ وصدام ولا يزال بشار والمالكي يمارسونها بأشكال أقبح , فالمالكي يمارس المحاصصة الطائفية رسميا , في حين يمارس الأسد هذه المحاصصة بشكلها المعكوس غير المعلن , والسبب هنا قلة المكون العلوي-الشيعي في المجتمع السوري والذي لايتجاوز ١٢٪ من مجموع السكان , ٩٠٪ من المراكز الحساسة في يد العلويين , والباقي الغير حساس موزع على المواطنين من الدرجة الثانية , ووجودهم في هذه المراكز لايتعدى كونه ديكوري , أي وظيفيا بدون قيمة تذكر.
عندما نقول على أنه ليس للبغدادي أو الجولاني علاقة بما يحدث للأقليات والأكثريات , فهذا لايعن انعدام العلاقة بشكل مطلق , وانما يعني فقط أن التخريب الاجتماعي بشكل رئيسي هو من صنع البعث بشطريه , ويعني ذلك أيضا على أن من ينفذ حلقة صغير في موضوع التخريب الاجتماعي هو فرخ من فراخ البعث والأسدية والصدامية , البغدادي لايمثل ظاهرة غريبة عجيبة أتت في غفلة من التاريخ ومناقضة لمنطقية التاريخ , وتاريخ تطور البعث هو تاريخ تطور من حالة شبه مدنية الى حالة دينية , أي أن البعث تحول في بنيته الى بنية جماعة دينية والى طائفة , والطوائف لها معالم وخواص , ومن هذه المعالم والخواص تأليه القائد وترفيعةه الى مرتبة اله , ثم أنه من خواص الطائفة أبدية قائدها , وفي هذه النقطة تتغلب داعش على البعث حضاريا , لاتوريث في داعش بينما توريث في بعث الأسدية والصدامية.
لقد انهار الخطاب المدني العلماني في دول مابعد الاستقلال , لقد هوى على ذاته بسبب فراغه الداخلي العملي ,فالعسكر لم يقتدر على ملئ هذا الخطاب بمضامين عملية وانما فقط بالشعارات , والعسكر لم يكتف بتقديم فقاعات الصابون , وانما منع الآخرين من العمل السيلاسي تحت طائلة العقاب المريع , هاهو الأسد يصادر الآن املاك معارضيه ويحكم عليهم بالسجن سنين لأنهم غردوا ضده في الفيس بوك , ليس لأنهم حملوا البندقية! , وليس لأنهم تظاهروا في شوارع دمشق,! وانما لانهم كتبوا ضد الأسد في الفيس بوك , أي أن ديموقراطية الأسد لاتتقبل نقدا عن بعد , وهذا المثل يوضح عن طريق منع السياسة افراغ المجتمع من ممارسة السياسة , وبالتالي خلق فراغ امتلأ بخطاب الموروث الديني بخصائصة القروسطية ومفاهيمه الرافضة لكل تقدم أو حداثة .
لم يقف البعث مكتوف الأيدي تجاه هذا التطور , وما قام به البعث في هذا الخصوص مضحك ومؤلم , ففي سياق التلفيق تصاحب البعث مع رجال الدين وبنى المساجد ومدارس تحفيظ القرآن والأكثر من ذلك هو تحول البعث الى مؤسسة دينية رئيسها سمي الرئيس “الورع” , وهذه المؤسسة لجأت الى طائفة الرئيس داخليا وخارجيا , فداخليا كانت الطائفة العلوية المسلمة , وخارجيا كان حزب الله وكانت ايران الشيعية , وفي هذه الاجواء الاستقطابية كان من المنطقي حدوث ارتكاس على الجانب الآخر السني , ففي المدارس تعلم التلاميذ تاليه الرئيس فوزارة المعارف تحولت الى وزارة التربية والتعليم , حيث ضمرت المهمة التعليمية وانتفخت المهمة التربوية , والمهمة التربوية لم تتضمن من التربية الا ممارسة تمجيد وتاليه الرئيس , وبذلك خسرت المدارس مهمة التهعليم وخسرت مهمة التربية أيضا , ذلك لأن تمجيد الرئيس وتأليهه لايمت الى التربية الصحيحة بصلة , وانما هو سوء تربية بامتياز وتشويه للتربية الايجابية , انها صناعة القطيع , وعلى الجانب الآخر تمت صناعة قطيع آخر , انه قطيع المساجد وقطيع مدارس تحفيظ القرآن , وفي لحظة من اللحظان انفلتت القطعان على بعضها البعض وفعلت بالبلاد فعلتها المنكرة التي نرى نتائجها هذه الأيام .
صعود البغدادي هو عمليا كصعود الحسون أو صعود البوطي أو غيره من رجال الدين…ولنأخذ البوطي على سبيل المثال , فماذا سيكون موقف البوطي من اعلان الخلافة ؟ , انه نسخة فقهية طبق الأصل عن البغدادي , عنهم لايختلف الطنطاوي أو القرضاوي , فقهيا يكسب الرجل الذي يستطيع خلع الحاكم القائم بالقوة الشرعية ويمتلك كل استحقاقات وحقوق هذه الشرعية , والرجل الانقلابي كصدام أوحافظ الأسد أعطى نفسه الشرعية وأعطى نفسه كامل حقوق واستحقاقات هذه الشرعية , وكما على الأمة مبايعة البغدادي فورا , فقد كان على هذه الأمة مبايعة الأسد فورا , كل ذلك في سياق ثقافة المقدرة على التغلب بالعنف , اذن يجب أن يتوفر للمشروعية شرط واحد هو التغلب والقوة والسطوة , ومن يخالف المتغلب ويرفضه يصبح مستحقا للقتل ومستباح الدم والمال والعرض , وماذا حدث لمن خالف صدام ومن خالف الأسد ؟؟, أليست استباحة الدم والمال والعرض , أليس الحجز على أموال رجال الفيسبوك وبيعها بالمزاد العلني لصالح فئات أخرى استباحة للمال , وقد يكون البغدادي هنا أرحم ..فمن يدفع الجزية شهريا كما هو حال الموصل الآن يستطيع الاحتفاظ بماله , أين هو الفرق بين سطوة البغدادي على المال وبين سطوة الأسد ؟؟
يجب أن لانتهرب من مواجهة أنفسنا بالحقيقة , ويجب أن نمتنع عن اللف والدوران والتلفيق وعن جعل الآخر مسؤول عن مصائبنا , مايحدث هنا والآن هو من افرازات ثقافتنا , انه فكرنا واعتقادنا وممارساتنا وعقلنا وليس دخيلا علينا , وكم نكون سعداء لو دخل علينا فكر الحداثة وفكر الحرية والديموقراطية وفكر الاعتماد على النفس وممارسة الصراحة والنقد واحترام الرأي الآخر , ولو اعتمدنا فكر الحداثة والديموقراطية والنقد واحترام الرأي والاعتماد على النفس والصراحة لما كان عندنا صدام أو حافظ أو البغدادي أو الجولاني , لكن للأسف !!