بقلم:نارام سرجون
يحتفل المعارضون هذه الأيام بابتهاج أن أدونيس طلب من الرئيس الأسد الاستقالة حيث أبى أدونيس الا أن يدلي بدلوه في هذه الحملة على سوريا والرجل كما هو معروف ينتمي الى صنف مثقفي (المهرجانات والجوائز الدولية) الذين لاتجد لهم ديوانا الا في الصالونات الأدبية الفخمة فيما هم يغيبون عن دفاتر العشاق ودفاتر الثوار الأحرار وهوامش الشباب المثقفين المولعين بالشعر والكلمة ومصيبة أدونيس أن التاريخ سيمنحه صفة (رهين المحبسين) مناصفة مع أبي العلاء المعري ..بدل منحه جائزة نوبل
أبو العلاء المعري الذي تعيش معرته وجوارها رعب الحركات الظلامية التي تريد اطفاء نور فكري وفلسفي أضاءه المعري ورسالة الغفران كان حبيس بيته وحبيس العمى الذي أطفأ نور عينيه..لكن محبسي أدونيس هما (جائزة نوبل والخيلاء)..
أدونيس .. لم ينصفه الا الشاعر محمد الماغوط الذي اختصر أدونيس بكلمتين هما (بدّو نوبل) أي يريد نوبل بأي ثمن وهذا الحلم حوله الى رهين محبس نوبل .. من أجل نوبل ارتضى أدونيس لنفسه أن يلبس عمامة الافتاء الفكري عام1995 في ملتقى غرناطة مع “مثقفين اسرائيليين” وقال فتواه الشهيرة “ان اسرائيل تنتمي الى المنطقة”.. ولم يكتف بذلك بل طالب “بجعلها جزءا عضويا من الشرق الأوسط” في بادرة لاطلاق التطبيع الثقافي مع اسرائيل وانهاء الصراع بالطريقة الاسرائيلية .. ولكن نبوءته لم تصح ولن تصح لأن من أسقط نبوءة المفكر الكبير أدونيس كان شباب الضفة الغربية وغزة وشباب حزب الله وجيل مائج عربي لايرى مايراه الأستاذ (أبو أرواد ونينار وصاحب أطروحة الثابت والمتحول).. ان أدونيس هو نموذج المثقف الذي يسلك القرضاوية نهجا في الحياة والافتاء ..على مافي ذلك من تناقض
ويضم المعارضون اسم أدونيس كالايقونة الى قائمة الملتحقين بالثوار علّ استخدام الأسماء الرنانة ينقص من معنوياتنا وتردد مقولاته ورسائله مواقع المعارضة كما لو كانت قرارا من مجلس الأمن تحت الفصل السابع .. حتى أن صحيفة وضعت كلامه في مستوى كلام فلاديمير بوتين .. ولكن أدونيس بالذات كمثقف كان -وكعادته- مجرد مثقف منفصل عن الناس وعن الجمهور وعن معاناة الناس ويعيش يوتوبياه ولم يك مشغولا بآلام الناس لأنه كان يرى نفسه على الدوام (فوق الناس) وأن مقامه بينهم هو كمقام المسيح بين اليهود (كما يقول المتنبي عن نفسه)..ومن يتابع تصريحاته ومقابلاته يحس بالصلف والخيلاء يحملان كل كلمة من كلماته .. ويحس المستمع لأدونيس بغزارة الثقافة ولكن يحس أيضا بغزارة التصنع في انتقاء المفردات كمن يصنع حلي النساء ومجوهراتهن ويهمه اختيار المنمنمات الذهبية في سوار مرصع بالزمرد وهو يعرف أن بضاعته لن يشتريها الا مترفون وأثرياء ولصوص وفاسدون ..وليس فقراء وبروليتاريون وصغار كسبة وأن من سيرتدي تلك التحف الفنية لن تكون سندريللا مسكينة بل واحدة مثل موزة بنت مسند…
ولذلك كان الفارق مثلا بين أدونيس ونزار قباني هو ببساطة كالفارق بين الرفيق ليونيد بريجينيف وتشي غيفارا…فلن تنجب عاصمة ثائرا محبوبا ونقيا وعالميا مثل غيفارا ولن تنجب دمشق شاعرا صادقا ومحبوبا ومحبا للحرية مثل نزار قباني الذي وصف نفسه بأنه (خلطة حرية) ومع ذلك لم يلبس قلنسوة يهودية ولم يفت بانتماء اسرائيل الينا ولم يقبل بقيد نوبل وأصفادها وسلاسلها اليهودية ولم يقبّل يد نوبل .. وقال لمن رشحه لنوبل كلمة رائعة مثل ابن الشام الحر الأصيل: يفتح الله…
المعارضة السورية تتسلط علينا بأسماء مثل أدونيس وكأن أدونيس هو العرّاف وقارئ النجوم ولاينطق عن الهوى ..ولكن التاريخ عادل ومنصف ويعرف قدر المنجمين ويعرف مقدار الفرق بين السيف والكتب وبين الشعب والكتب لأن:
الشعب أصدق أنباء من الكتب …في حبه الحد بين الجد واللعب
ووجود هؤلاء المثقفين لايهز في مفرقنا شعرة ولن نفتح أفواهنا ونشهق لأنه “هكذا تكلم أدونيس”.. فالمثقفون وخاصة من أمثال أدونيس هم أبعد الناس عن معرفة السياسة والواقع والمعادلات الصارمة الدولية وتفاعلات كيمياء العلاقات ..وانحيازه الى طرف دون آخر ليست له أية قيمة على الاطلاق لأن انحياز المثقف لايعني بالضرورة انه على صواب فهو يخطئ ويصيب بل ويضعف انسانيا كغيره..ولاأدل على ذلك أكثر من حكاية العبقري ومؤسس علم الاجتماع الأشهر في التاريخ ابن خلدون ..وهذه حكايته مع الغزاة..
ابن خلدون الذي درس المجتمع ووضع أبرز نظريات تكوّن وانحلال الدولة والمجتمع انهار عندما حاصر تيمورلنك دمشق .. وأنزل الدماشقة ابن خلدون من على أسوار دمشق (بالقفة) كي يفاوض تيمورلنك وكان فيما هو يتدلى بالقفة يفكر في كيفية منافقة الملك (الجديد لدمشق) وقد وصل الى يقين مطلق أن تيمورلنك هو الملك الذي سيملك المعمورة كما أخبره منجمو بلاد المغرب لتطابق وصفهم لملك المعمورة مع مواصفات تيمورلنك..وفي كتابه (التعريف) الذي يشبه سيرة ذاتية قال ابن خلدون عن لقائه بتيمورلنك بالحرف:
“..فوقع في نفسي لأجل الوجل الذي كنت فيه ان افاوضه في شيء من ذلك ليستريح اليه، ويأنس به مني ففاتحته وقلت: أيدك الله.. لي اليوم ثلاثون أو أربعون سنة اتمنى لقاءك، فقال لي الترجمان عبد الجبار: وما سبب ذلك؟ فقلت أمران، الاول انك سلطان العالم، وملك الدنيا، وما أعتقد انه ظهر في الخليقة منذ آدم في العهد مثلك، ولست’ ممن يقول في الأمور بالجزاف..” لاحظوا النفاق والعبارة الأخيرة “لست ممن يقول في الأمور بالجزاف”..
والغريب أن الرجل لم يتوقف تملقه هنا بل تفنن في النفاق وبألوان غريبة منه كانت تجود بها قريحته في حضرة الملوك والامراء وذوي الجاه والسلطان، ومن ذلك ما جادت به امام تيمورلنك في نص حفظه لنا ابن عربشاه في كتاب «عجائب المقدور في نوائب تيمور»، حيث يقول بعد وصف السماط وتلال اللحم المسلوق الذي وضع امام فقهاء دمشق الذين قاموا بالزيارة لتقديم الطاعة، وهناك وبينما تعفف بعضهم عن الاكل واقدم آخرون يلتهمون الخرفان التهاما، اخذ ابن خلدون سِن الحديث في تلك اللحظة التي انشغلت فيها أفواه زملائه بالمضغ فقال: بعد أن حمد الله الذي اتاح له تلك الفرصة:
“شهدت’ مشارق الارض، ومغاربها، وخالطت’ في كل بقعة اميرها ونائبها، ولكن لله المنة ان امتد بي زماني،ومنّ الله عليّ بأن أحياني حتى رأيت من هو الملك على الحقيقة، والمسلك بشريعة السلطنة على الطريقة، فإن كان طعام الملوك يؤكل لدفع التلف، فطعام مولانا الأمير يؤكل لذلك، ولنيل الفخر والشرف”..
بالله عليكم ياشباب ألا تشبه رائحة هذا الكلام رائحة ما قال أدونيس في مؤتمر غرناطة وفي زمن جائزة نوبل وفي نصح الرئيس الأسد بالاستقالة في زمن الجزيرة والعربية وحمد وقطر والقرضاوي ومجلس الأمن وأوباما وكلينتون الذين جميعا يصورون لأدونيس (ابن خلدون الحالي) أن النظام آيل للسقوط وأن من يساهم في الاجهاز عليه سيناله النعيم ويرشح الى نوبل؟..ألا تحسون أن كلمات أدونيس في رسائله للرئيس الأسد وكأنها موجهة الى تيمورلنكيي أوباما وساركوزي الذين يحاصرون دمشق…هذه الأيام؟
استعمال أدونيس لم يزدنا الا ثقة في أن المعركة الاعلامية يزج فيها بالمنافقين والوصوليين والمترفين والمصابين بالفصام النفسي وهذا الجمهور من الداعمين ليس له حضور على الأرض ..فعلى الأرض نحن وفي الطرف الآخر على الأرض قتلة ومتطرفون..ومتظاهرون يحركون بالريموت كونترول من قطر والرياض وأنقرة ووادي خالد وباريس وواشنطن ..
ومع هذا نحن لسنا ضد أدونيس أن يقول مايشاء وأن يعبر عما يشاء فهذا حقه المطلق .. لكن لنا الحق في التساؤل عن سبب هذا السخاء في الافتاء من قبل مثقف لايتحدث الا عندما تحيط بنا النوائب وحديثه يكاد يكون بلا أفق ..فماهو تصوره عن مجتمع انفلت فيه مسلحون يرمون بذبائحهم من فوق الجسور العاليات ومعها شتائم وكراهية ويستعملون أبجدية الساطور والسكاكين .. وماهو تصوره عن ثورة تكذب وتفبرك وعن ثوار يزورهم السفير الأمريكي بجلالة قدره …هل سمعتم بهذا التنافر قبل اليوم (ثوار يزورهم سفير من بلاد العم سام)؟ متى كان هذا؟ ماهذا الزمن الذي صار فيه الثوار والأحرار مع سفير أمريكي في مركب واحد وفي حفل عشاء واحد..
واذا كان أدونيس طلب من الرئيس الأسد الاستقالة فيما أدونيس يهرس تحت أسنانه شريحة لحم من جسد مواطن سوري ذبح في حماة وهو ينظر الى عطاء تيمورلنك القادم، فاننا نقول لمن هلل وكبر لرسالة أدونيس وتوعد بتصريح بوتين: كان الله في عون الحالمين والذين هم عن وقائع السياسة ساهون .. ان رسالة أدونيس لاتساوي انشقاق جندي سوري واحد من احدى القرى الفقيرة …من أولئك الجنود الأبطال الذين كثير منهم لم يسمع بدواوين أدونيس ولايزال يعتقد أن المعني باسم أدونيس هو مخترع المصباح الكهربائي أو أنه في أسوأ الأحوال نوع من أنواع الجبنة القبرصية..
وبعد أكثر من خمسة أشهرعلى التمرد في سوريا صرخ أحد المعارضين في مؤتمر الدوحة الذي نظمه الأعور الدجال عزمي بشارة (الذي لم ير قطرة دم واحدة بساطور الثورة ولكنه رأى كل قتلى الحرية وحفظ أسماءهم عن ظهر قلب)، قال هذا المعارض في لهجة حيرة ومرارة ويأس وشكوى: كيف حدث .. وما هو سر هذا النظام الذي لم ينشق عنه ديبلوماسي واحد ولم ينشق عنه جندي له وزن وأهمية ولاضابط..؟؟ ماهو السر؟
بالطبع هذا المعارض يعتقد أن جنود سوريا وديبلوماسييها ووطنييها هم على شاكلته وشاكلة مثقفي النفط الخفيف وخام برنت والعربي الثقيل وتكساس ويحركهم مؤشر داو جونز وبورصة وول ستريت يباعون ويطعمون الهمبرغر وأن النظام ضعيف ومكروه مثل نظام مبارك وبن على الذي قفز منه الجميع في لحظة واحدة وخلال أسبوع.. فيما يقفز الى مركب الرئيس الأسد في كل يوم المئات والآلاف ويمسكون بمرساة الوطن والشراع في أعتى عاصفة ..لأن بوصلة الوطنية تشير الي مركبه حيث القطب الوطني والمغناطيسية والجاذبية الثورية…
السر ياشباب هو أن الناس على عشرة الصخور السورية التي فرملت دبابات جورج بوش ومارينزه صاروا صخورا .. وعلى عشرة الأعاصير والمؤامرات صاروا أعاصير.. وعلى عشرة البطولات في غزة وجنوب لبنان والعراق صاروا فرسانا …
ولذلك سأقول نبوءتي لا كمنجّم ولا كعاطفي ..هذا المركب الذي يبحر في هذه العاصفة هو الوطن والوطن لايغرق ..وهذا الشراع هو شراع الوطن وأشرعة الوطن لاتطوى .. والربّان الذي يستحق أن يقوده هو فقط من يستجيب للحن التحدي والوطن والذي لايشك السوريون لحظة في نقاء وطنيته….عاشت سورية الوطنية