في تشريح التدميرية الأسدية
بقلم :براء موسى
ما زال أولــــئك المستغربون حجـــم العنف ونوعيته في سورية يردحون مكررين التساؤلات “الغبية” ذاتها، ومن الواضح أنّ هؤلاء لا يريدون مغادرة دائرة الدهشة أصلاً وأبداً، وذلك لأنّ قليلاً من الاطّلاع يكفيهم شرّ ذلك الدوران في حلقة مفرغة. فلقد سبق الثورة السوريّة انتشار متصاعد لما سمي “أدب السجون”، وفيه من صور العنف الأسدي ما يجعل الانفلات من التساؤلات “المستغبية” سهل المنال، ولكن تبقى الصورة النمطية عن شعب لا يقرأ هي التفسير الوحيد للعقل التحليليّ حول تلك الظاهرة، باستثناء ظاهرة “الاستحمار”، وهي درك أسفل من “الاستغباء”، تتلخص بمعرفة مسبقة عن أشكال العنف الأسدي والدفاع عنه، بحجج تبريرية تافهة.
وعلـــى رغم أن أدب السجون لم يغطِ ظاهرة العنف الأسدي إلا قلـــيلاً، فإنه استطاع نسبياً تسليط الضوء على عنف النظام السوري، واستزاد غير قليل من فضوليي المعرفة عبر قراءات في مراجع علمَي النفس والاجتماع عن نزعة التدمير الممنهج الذي تعرض له الإنسان السوري منذ الاستقلال عن الانتداب الفرنسي، ليصل إلى حدود غير مسبوقة في عهد الأسد الأب، وما لبث هذا “العدوان” في عهد الابن أن وصل إلى حدود “اللامعقول” منذ اندلاع انتفاضة السوريين السلمية بداية الثورة.
في كتابه “تشريح التدميرية البشرية” يغوص إريك فروم في تفاصيل العنف والتدمير شارحاً الفروق الدقيقة بين الدوافع الفطرية للعنف، والسلوك المكتسب الذي ينمي العنف ويرعاه، مختلفاً في ذلك عن فرويد الذي يرى في التدميرية جزءاً أصيلاً من الإنسان. ففروم يفرق بتفصيل بحثي بين أشكال عدة من بواعث العنف والتدمير، واصلاً بين جهود من سبقه زمانياً بجهوده وجهود الآخرين من الباحثين، وقد اختتم كتابه ذاك بدراسة معمقة عن هتلر كأحد النماذج الايضاحية للنيكروفيلية التي تتلخص بأنها: “الانجذاب العاطفي إلى كل ما هو ميت، ومتفسخ، ومتعفن (…) إنّها الشغف بتحويل ما هو حي إلى شيء غير حي، وبالتدمير من أجل التدمير”.
في حالتَي الأسدين، الأب ووريثه، لم يأتِ بعد من يشرح بنيتهما الديكتاتورية لأسباب ما زلنا نعيشها حتى الآن، ومن العسير آنيّاً دراسة هذه الظواهر لأسباب عدة أولها: طُغيان الصراع السياسي الراهن، وليس آخرها تمايز الحضارات بين الشرق والغرب، مروراً بقلة وضعف المصادر البحثية ريثما تنقشع غمامة الصراع، ولكن بعض الإشارات التي انتشرت امتداداً لما وعيناه من أدب السجون، مع أنّه بمعظمه لم يكتب، وإنما انتشر بالتناقل، لا يمكن أن تغفل حجماً هائلاً من السادية والتدمير مارسه الأب على عموم الشعب السوري، وما زال الابن يمارسه قتلاً وتعذيباً وتنكيلاً بمعارضيه من كل تشكيلاتهم، عدا الإرهابيين الحقيقيين، وليس لدينا من المصطلحات العلمية لتفسير ما يمارسه شبيحتهما، الأقدمون منهم والحاليون سوى: “إرضاء المعلم”، و كأنّما ذلك الرضا يستدعي قيام هؤلاء بأخس ما يمكن للسلوك البشري من شائن الأفعال، لتقابله كذلك صور بشعة من الانتقام وردود الفعل.في شرقنا لم يحظ بعد علما النفس والاجتماع باهتمام واف لتشريح ظواهر الديكتاتوريات المستعصية، وربما ننتظر طويلا ريثما تحلّل الدراسات أشخاص القذّافي، أو صدام حسين، أو حافظ الأسد، على سبيل الذكر لا الحصر، لكي نقارن بين اختلافاتهم، الشخصي منها وما انعكس على الوعي الجمعي لمؤيديهم والمناوئين لهم، لعل مؤيدي الجرائم ضد الإنسانية إذاك يتوقفون عن تخميناتهم البدائية في التساؤلات الدائرية المندهشة طوال ثلاث سنوات ونيف.