بقلم: علي الأمين
مرت خمسون عاماً من حكم البعث و آل الأسد رزحت خلالها سوريا تحت نير مقايضة فاسدة قضت ببقاء آل الأسد في سدة الحكم للأبد مقابل إطلاق يد أركان النظام و موظفي الدولة في سرقة ما تيسر لهم من مقدرات الوطن. و ليس خافياً على أحد وليس سراً أن معظم الشعب قد تجاوب بحيثيات مختلفة مع هذا البازار الدنيء تحت وطئ ظروف و أسباب معروفة، و يمكننا تلمّس ثلاث سمات أساسية وصمت سلوكيات شريحة عريضة من المجتمع السوري قبل الثورة:
-
استفحال سرطان الرشوة الذي تناسب خطره طرداً مع منصب الراشي و المرتشي و الرائش لدرجة أن الموظف الذي لا يرتشي صار ملعوناً و منبذواً في دوائر الدولة من قبل زملائه و رؤسائه بعد مجتمع المراجعين ذاتهم.
و للوقوف على أمثلة توضح مستوى الفساد قبل الثورة نذكر أنه على سبيل المثال صارت تكلفة الانضمام الى سلك القضاء تتراوح ما بين أربعين إلى خمسين ألف دولار أمريكي و شبيه ذلك المبلغ كان هو الآخر تكلفة الانضمام الى سلك ضباط الشرطة.
و قد ذكرتُ القضاة و ضباط الشرطة على وجه التحديد باعتبار أنهم أساس العدل و القانون في أي دولة من الدول. إلا أن وظائف الدولة السورية المدنية كلها كانت عبارة عن دكاكين للسرقة الرسمية في مقابل أن يذكر عليها اسم الاسد.
النفاق المادي و المعنوي: و هذه الميزة لم تكن قاصرة على الموظفين العاديين و انما اشتملت على معظم رجال الأديان السماوية و الارضية. فكان المشايخ و والقساوسة و بعض مشايخ العقل و شخصيات اليهود أبواقاً لتقديس الأسد والتفنن في رسم لوحات اسطورية لمراتبه في الفردوس الأعلى و هو الذي سمح للصوفية كالنقشبندية و القبيسات و الكلتاوية و باقي تياراتها بالازدهار لتشرِّع وجوده دينياً و تمنع الخروج عليه عقائدياً.
-
قلة التزام الديني لمعظم السوريين المنتمين لجميع الأديان، وهذه سمة الشعب السوري بشكل عام. فالمساجد نادراً ما كان يكتمل فيها صفوفها الثلاث الاولى او أكثر بقليل في غير صلاتي الجمعة و الجنازة. و كذلك الكنائس و حتى العلويون لا يعترفون بوجود دين حقيقي لهم بالاصل.
وبالرغم من أن هنالك قوانيناً صارمة لتوزيع التركات على الورثة إلا أن معظم الورثة المسلمون يتحايلون على أخواتهم الاناث ليسرقوا حقهن باسم الله و رسوله. كما يلاحظ أن بعض الاغنياء من المسلمين يؤمنون بمذهب ديني اليوم و يكفرون به غدا ليتهربوا من دفع الزكاة مثلاً. و انتشار سبِّ الذات الالهية و المحمدية على أهون الأسباب على عكس الذات الاسدية. و الحلف بأيمان الطلاق البالغة إلى عنان السماء ولا ننسى الغيبة و النميمة، و الكذب الابيض و الاسود.
أما عن الرشوة فحدث ولا حرج وهي التي كانت باب الرزق الاساسي لأكثر من 95% من موظفين الدولة الذين يعملون في أماكن فيها “لحسة اصبع.” علماً أنه هناك أكثر من 95% الموظفين الذين يعملون في أماكن “ناشفة” مستعدون لأن يرشوا صاحب الأمر بمبلغ معقول لتتاح لهم فرصة الذهاب الى المكان الذي فيه “لحسة الإصبع” ليقوموا باستثمار دكاكينهم الجديدة التي دفعوا من أجلها رشاوي استنزفت دم قلوبهم.
و مع ذلك …و مع كل ذلك
قامت ثورة الكرامة السورية ضد نظام الاسد، وضد الفساد و الرشوة و ضد النفاق، و قد قامت الثورة على سواعد شباب أبرياء ليس فيهم أي من صفات النظام الفاسد أو أدواته. و لم تمر الأشهر الستة الأولى حتى انقلب الكثيرون من أركان نظام الدولة الاسدية المنحطة الى الجانب الآخر لاسباب مختلفة و لكن في معظمها كان ايجابياً و محموداً.
ومع انخراط الموظفين و المستفيدين السابقين من النظام في الثورة تولدت حالة من التناقضات سببت انبثاق مشاحنات مصيرية راحت تشكك في صدق و اخلاص الثوار لبعضهم البعض من جهة و صدق و اخلاص الثوار للثورة من جهة أخرى. وقد تفاقمت هذه الأزمة بعد دخول المال و المصالح المعنوية على هيئة مناصب.
و مع كثرة المال بدأت الامراض الكامنة التي عشعشت منذ أيام النظام تنشط في نفوس الفاعلين في الثورة وتطفو على سطح تعاملاتهم مع الآخر فراحوا يُبرزون عورات بعضهم البعض ليبدأ مسلسل التشنيع و التخوين و تكسير المجاذيف و الطعن بالظهر و البطن طمعاً في تحقيق المصالح الشخصية الرخيصة.
و كما في الايام الخوالي عندما كان النفاق و التدليس و التقديس الكاذب يبذل رخيصاً في سبيل كسب الحظوة عند النظام صار التبجح بخدمة الثورة و التضحيات و طول اللحية و تكذيب و تخوين الآخرين سبيل بعض المشتغلين أو المستثمرين في الثورة للاستفادة من مكاسب اقتناص السحُب المتاحة قبل أن تمطر في غير أرضهم.
فــ “ابو أحمد” يهاجم الشيخ “عامر” الذي يعمل في الاغاثة لأن الأخير كان في السابق موظفاً في الجمارك وهو مرتشي ابن ستين مرتشي و لا توجد طريقة تقنع ابا أحمد بأن الشيخ عامر قد تاب و انصلح شأنه.
و لكن موقف “أبو أحمد” يمكن فهمه حين نعلم بإنه كان قبل الثورة موظفاً في المالية و لا يترك معاملة من شره حتى تبيض له خرجية يومه و ربما أخذ رشوة مرة من أبا أحمد ذاته.
فكيف سيثق هذين الرجلين “الثائرين” ببعضهما البعض؟ وكيف سيثق بهما من هو حولهما؟
و كذلك ظهر فينا قطاع جديد من “التائبين”. فـــ “ابو جمعة” شرطي مرور “ابن ستين حلال” كان لا يسمح لابن إمراة أن يمرَّ من نقطته المرورية حتى يدفع له المقسوم حتى ولو كان عشر ليرات سورية.
و هذا “ابو جاسم” الذي كان بالامس يخدم في الأمن الجوي و يتحدث باللهجة العلوية علما أنه ليس علوياً، و هو الذي كان يأكل لفة القاضي و عنده من الخليلات أكثر من أن يتذكر أسمائهن صار يكني نفسه بــ أبو دجانة السوري بعد أن أطلق لحيته حتى صارت كمكنسة الساحرة و صار يتحدث عن جلد الزناة أكثر و قطع رؤوس البغاة، و يتهم ابا جمعة بأنه عميل النظام وزانٍ حقير و يدعو لاقامة الخلافة الإسلامية دون تأخير.
فكيف لهذه “الشكيلات” التي تعرف تلك “الشكيلات” على حقيقتها أن تسلِّم بأنها تابت و انها فعلاً تناضل في سبيل الله و في سبيل اسقاط النظام و في سبيل القضاء على الفساد؟
هذه صعبة … أليس كذلك ؟ والله ….. صعبة !!!
لقد أصبحت معركتنا مزدوجة و همومنا مضاعفة و متشعبة، فهمّنا الاساسي هو اسقاط النظام الفاسد، و لأننا ننظر الى الآخرين بعيون طبعنا و ذاكرتنا صارت تنشب معارك لا أخلاقية و مشاحنات لا طائل منها و بتنا نضيع وقتنا في مهاترات تافهة على حساب تحقيق هدفنا الأساسي في اسقاط النظام.
نحن بحاجة للانقياء و الاصفياء ، و لكن الواقع يقول بأن الامور تغيرت بالفعل، وأننا أصبحنا في واقع جديد و يجب أن نعيد حساباتنا و أن نرتيب أولوياتنا اعتمادا على قواعد جديدة و معايير عملية تنقذنا من حالة التذبذب و اللافاعلية و العطالة.
و وفقاً لهذه المعطيات و لتجاوز هذه المعضلة أجد أنه لدينا أحد هذين الخيارين الذين لا ثالث لهما:
الخيار الأول ـــ أن تبقى الأمور سائرة بهذا الاسلوب التخويني و التشكيكي و العبثي و أن يستمر تجاوبنا حسب الظن الذي يتبادر الى أذهاننا و حسب ما يخطر على بالنا من فهم دون السعي خلف أية دلائل أو اثباتات، و أن نظل سائرين بشكل أعمى خلف شعارات أكبر من حجمنا و أعظم من همّنا و أبعد ما تكون عن واقعنا، و أقل ما يقال عنها أنها أحلام عصافير الى أن يحدث أمراً ما يقضي على بشار الاسد و ننتهي منه و من نظامه. و لا أستثني هنا امكانية انتظارنا الفعلي لموته بمرض الشيخوخة.
الخيار الثاني ــ ويكون بأن يتخذ السوريون قراراً غير قبل للنقض يقضي بأن الثورة على النظام تَجُبُّ ما قبلها و أنه يجب اعتماد القانون الذي يقول بأن المتهم ــ الثائرــ على النظام بريء حتى تثبت ادانته، و أن ننسى آثامنا الماضية و أن نتعامل باحترام لائق مع بعضنا البعض، و من ثم نحدد طريقة لاسقاط النظام و نعمل لها.
إن احترام السوريين الصادق بعضهم البعض سيقصّر المدة اللازمة لاسقاط لنظام و يساعد على إعادة الامن للمجتمع سريعا و يعيد بعد ذلك الحياة لمفاصل الدولة المدنية التي تحتضن جميع السوريين دون استثناء و تعاملهم على قدم المساواة و تسمو بقيم المواطنة العادلة التي ثار السوريين من أجلها و ليس من أجل شيء آخر.
و أخيراً أسئلكم بكل مقدس تؤمنون به: ألا يكفينا ثلاث سنوات و نيف من معاقرة الخيار الأول وطق البراغي لبعضنا البعض و دق الخوازيق فينا و في الثورة ؟الا للبعض عن طريق السرقة