لماذا تلتصق الطائفة العلوية بالنظام؟ بين الباطنية والعلوية السياسية..

بقلم:قتيبة حيدر علي

 من الصعب فهم موقف العلويين كطائفة من الثورة السورية وفق الظواهر المحسوسة لمجريات الأمور السياسية فقط، أو تبعاً لردود الفعل على أسلمة الحراك الثوري، أو حتى من خلال إحساسهم بالاستهداف كأقلية تخشى على مصيرها المهدد. ثمة شيء ما أعمق من القشرة الظاهرة، ولا يكفي السياق السياسي والاجتماعي المعاصر لتوضيحه، شيء ما يلفه الغموض ويضرب جذوره عميقاً في الروح الجماعية لعموم الطائفة، ويستمد ماهيته من إحالته إلى الجذور الباطنية فيها. وتكاد الطوائف الباطنية تتشابه عموماً في المحتوى الديني، لكنها تختلف في تركيب هذا المحتوى وتفكيكه وتأويله، باختصار تشكل مقاربة المحتوى الأساس الفارق لكل جماعة منهم، لهذا يمكن القول إن المعتقد الديني عند العلويين ليس هو العامل الرئيس في هذا الخاص الغامض، بل تشكله طريقتهم الخاصة في مقاربة وتناول هذا الباطن وآليات فهمهم له. وبعيداً عن هذا فإن ما يهم هنا هو التأثير المشترك لهذا الباطن في التوجه الفكري والموقف السياسي وخصوصاً في زمن الثورة. المؤامرة في التاريخ..

 1- ترتكز كل الطوائف الباطنية على فكرة المؤامرة المستمرة في الزمان، لأن انقطاع المؤامرة أو انكشافها يقضي على أسباب الباطنية ويستدعي انتفاءها وانتقالها إلى المستوى العلني العام، وذلك ما يتعارض بنيوياً مع تلك الطوائف. فالعلويون ينظرون إلى التاريخ كسلسلة متلاحقة من المؤامرات المتتابعة، التي تهدف في جوهرها إلى تغطية وإخفاء الحقيقية العامة التي يؤمنون بها. تلك الحقيقة التي ينبغي على أحد ما أن يبقيها حية، وشاء القدر أن يكونوا حراس معابدها، ودافعي ضرائبها، شأنهم في ذلك شأن أصحاب الطوائف الباطنية جميعاً. تلك النظرة إلى التاريخ تحيله – من وجهة نظرهم-  إلى مجرد أكاذيب متصلة،  أكاذيب ومؤامرات حدثت وتحدث لطمس الحقيقة الكلية.  في هذا السياق يغدو التاريخ فعلاً قصدياً تحوكه قوى واعية ومتفقة في أهدافها، لا هم لها إلا استئصال وطمس تلك الحقيقة التي يتبنون، وتمثل من وجه نظرهم جوهر الوجود المفقود. يتعين وفق هذه النظرة الإنكارية للتاريخ بشكله المعروف تقديم تاريخ بديل عند العلويين. بالطبع هذا التاريخ البديل ليس مكتوباً، هو على الغالب سردي شفهي، يعتمد على جزئيات من التاريخ المكتوب، أو يستنطق التحليل والتأويل. والانتقائية لحوادث وأزمنة وأشخاص، يتم الربط فيما بينها بشكل لا يهدف إلى توثيق تاريخي، بمقدار ما يهدف إلى إثبات المقولات الأساسية في الطائفة. إذن، فالتاريخ ليس هو التاريخ، وما يجري مجرد صورة خادعة، على أصحاب العقول البصيرة تحليلها ووضعها في إطارها ضمن نظرية المؤامرة المستمرة. يصبح من غير المستغرب ضمن تلك الآلية الذهنية أن تجد فكرة المؤامرة على سوريا صداها في الشارع العلوي، وتلاقي القبول والتبني، كما يصبح من غير المستغرب الحديث عن حرب كونية، أو حرب مع ثلاث وثمانين دولة تقف في وجه النظام !؟ أليس ذلك تجسيد لتلك المؤامرة المستمرة؟ ويغدو مقبولاً ومنطقياً أن يتم تشبيه جيش النظام وشبيحته بالجيش الأقدس في التاريخ العلوي؟ ألا وهو جيش الرسول (ص) وجيش علي بن أبي طالب. وبالعكس تماماً فإن المستغرَب الحقيقي ألا يرى الآخرون تلك المؤامرة رغم وضوحها.! درء المظلومية بالوحشية 

2- – لا بد للمؤامرة من ضحايا، قرابين، مظلومين، يمثلون جانب الخير والإنسانية والمبادئ، كما تمثل المؤامرة جانب الشر والوحشية والنفعية الانتهازية، وبهذا تتلاقى المؤامرة مع المظلومية وهو ركن آخر تستند إليه الباطنية وتقوم عليه. فالطائفة العلوية تنظر إلى ذاتها وفق معيار المظلومية، وتشعر أنها نالت ما يكفي من  الحيف والضيم التاريخيين على يد أعدائها  المباشرين، وأن ما يحدث الآن هو محاولة للعودة بها إلى تلك الحقبة بعد أن استطاعت في غفلة من الزمن على يد منقذها المؤسس الفعلي للدولة المنشودة حافظ الأسد أن تتخلص، جزئياً، من تلك المظلومية. وبهذا فهي لن تقبل بتاتاً أن يعود الزمن إلى الوراء، وأن تتحول من جديد إلى طائفة دونية يطالها التهميش والإقصاء. عادةً يتنامى الإحساس بالاضطهاد مع الشعور بالمظلومية، ويعبر الاضطهاد عن ذاته بالقلق والتوتر في حال العجز، لكنه في حال التمكن يتبدى بصورة أفعال انتقامية قاسية مختزنة في مخيلة مريضة تريد اشباع أوهامها الحبيسة في العقل الباطن، وهذا ما يمكن أن يفسر تلك الشراسة والعنف غير المبررين في كثير من الحالات. والصور التي شاهدناها والتي لا يمكن أن تبررها حالة الخصام أو العداء السياسي. وفي هذا السياق لا يؤدي العلوي وظيفته الأمنية والعسكرية بوصفها واجباً فقط، بل يتقمصها ويتماهى معها، وتشكل جزءاً من شخصيته الانتقامية كرد على المظلومية التاريخية. الاستعلاء

 3- تغذي الباطنية بشكل تلقائي عند المرء شعوراً بالتفوق والاستعلاء كفعل تعويضي، وكترجمة لامتلاكه تلك المعرفة السرية التي لا تتحقق لغيره. وبالمجمل يتقاطع هذا الشعور عموماً مع الكثير من الديانات غير الباطنية. غير أنها في الباطنية تأخذ مدى أوسع وأكثر وضوحاً،  فأبناء الطوائف الباطنية يشعرون أنهم من الصفوة، أو النخبة المنتقاة، وهم يملكون ما لا يملكه سواهم، وأن الآخرين أقل شأناً. وبهذا هم يتقاطعون مع المثقفين الذين ينظرون إلى الجموع نظرة دونية تكاد تصل بهم إلى حد اعتبار الآخر في مستوى البهيمية. يضيف العلويون إلى ذلك إحساسهم بالتفوق الاجتماعي على الآخر المقيد في مذهبيّته الدينية بشكل سلوك طقسي أو لباس اجتماعي، أو على شكل عادات، وينظرون إليها من مخلفات القرون الوسطى، ويعتبرون أنهم الأكثر انفتاحاً على الحياة، والأقدر على مجاراة التطور المعاصر، وربما يذهب الأمر أبعد باعتبار تطور الغرب زائفاً أو ناقصاً، فيما هم يحملون الجوهر الأصيل لحركة التقدم والمعاصرة. هذا الاستعلاء المبطن عند العلويين في حالة الاسترخاء، يمضي إلى حدوده العلنية القصوى في حالة المجابهة ليصل إلى العنصرية  التي تحط من شأن الآخر الذي يمثل الجهل والتخلف إلى درجة الامتناع عن الاعتراف بإنسانيته وحقه بالحياة، فما أبناء الثورة السورية سوى رموزاً للتخلف والانحطاط ولسان حالهم يقول هل يمكن لتلك البؤر الغارقة في الجهل والظلام، كدوما وبابا عمر ودرعا ودير الزور والرقة.. والعربان وغيرهم أن تنتج ثورة؟ العلوية السياسية  .

4- – لم يكن عموم السوريين يعرفون أن حزب البعث الذي حكم سورية بشكل مطلق قرابة خمسين عاماً هو حزب غير مرخص قانونياً، وأن أول محاولة لإسباغ القانونية الشكلية عليه كانت مع صدور قانون الأحزاب الشهير عام 2012 بعد اندلاع الثورة.

والسؤال الذي يقفز إلى الذهن مباشرة يقول: لم أحجم حزب البعث عن قوننة ذاته في ظل سلطته، رغم إخضاعه الشرعية الدستورية والسياسية لسلطة الأمر الواقع متمثلة به؟ لعل الرجوع السريع إلى تاريخ نشوء الحزب وسيرورته الزمنية، والوقوف عند ملاحظتين هامتين يضيء قليلاً على هذا الجانب:

 تتركز الملاحظة الأولى على تعريف الحزب لذاته بأنه حزب انقلابي، وتلحظ الثانية هيمنة أبناء الأقليات على مفاصل قيادة الحزب الرئيسية في الستينات، والتي انتهت إلى صراع بين قطبين من الطائفة العلوية هما صلاح جديد وحافظ الأسد، كانت حصيلته النهائية في انقلاب تربع فيه الثاني عرش سورية المطلق، فيما تعفن الأول في سجن المزة العسكري.

ضمن هاتين النقطتين تمحورت الحركة الداخلية للحزب، وبدورها طبعت تلك الحركة عموم المجتمع السوري بآلياتها، ومفاهيمها، ليغدو المجتمع السوري لاحقاً وكأنه صورة عن هذا الحزب السري العلني. كان حافظ الأسد طائفياً وباطنياً بالمقدار الذي يسمح له بمزيد من الإمساك بمفاصل البلاد العامة، وكان علمانياً أيضا ضمن هذا المعنى.

على هذا الجانب تحرك النظام بين البراغماتية والتقية، وسلك عموماً مسالك الطوائف الباطنية التي لا تتيح أسرارها الخاصة الا للصفوة المقربين، وبنى نظامه الأمني والنفسي والإعلامي بتلك الآلية الباطنية، مع الإمساك الذاتي بمرجعية الإمام المعصوم والعارف لكل ما سبق وما سيأتي، آخذاً بزمام البلد عامة والطائفة خاصة، ومعتمداً على الرموز الأمنيين المختارين منها ومن والعائلة لاحقاً، ومؤسساً نواة العلوية السياسية التي تجلت بشكل واضح وجلي بعد موته لتبدو وكأنها قدر سوريا الذي لا محيد عنه.

وعليه لم تعد الباطنية مقصورة على الطائفة بل أصبحت مسلكاً عاماً لكل مفاصل الدولة، وهذا ما خبره ويعرفه السوريون جميعاً فالأرقام الاقتصادية سرٌ من أسرار الدولة، والإحصاءاتُ سرٌ، والحوادث الأمنية سرٌ، والإعلام سرٌ. ويعتبر إذاعة السر نوعاُ من الخيانة العظمى، لا يجوز بأي حال من الأحوال كشفه أو البوح به، وكل فرد يعرف من تلك الأسرار بمقدار اقترابه من ذروة الهرم الكبير ذاته. وباستكمال السيطرة الكلية على مفاصل الدولة وجعلها باطنية التفكير والسلوك، انتقل الأمر بداهة إلى المجتمع كله ليكون صورة مصغرة عن هذه الدولة.

في هذا الحيز المغلق والمغلف بالأسرار عاش السوريون جميعاً، وعاشت الطائفة العلوية  التي كانت تتناقل الأسرار المصنوعة في أفرعها الامنية، لإحكام القبضة عليها وضمان ولائها المطلق.

وفي العموم شكلت الثورة السورية  بابا لخروج الكثيرين من تحت عباءة هذا السر لكن الطائفة العلوية لا تزال بشكل أو بأخر رهينة هذا المطبخ السري العتيد للأسرار والاشاعات الأمنية، وبعيدة عن هذا الباب تماماً، وعلى العكس من ذلك تحاول إمساك مصاريع الباب محاولة اغلاقه بشدة لأسباب شتى، منها ما تم عرضه في هذا المقال.

وأخيراً وبرأينا لا يعني ذلك أن العلويين أقل وطنية، ولا أكثر وحشية من سواهم، ولا أقل أيضاً. إنما هي قراءة في الأسباب الذاتية لالتصاق الطائفة بالنظام.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *