يوماً ما ستتوقف الحرب: ماذا عن إعمار سوريا؟
بقلم:سمير العيطة
مهما كانت نتائج الحرب القائمة في سوريا، فلا بدّ للتسعة ملايين نسمة الذين هجّروا من منازلهم إلى مناطق أخرى وإلى الخارج أن يعودوا.
حتماً يجب أن يحدث ذلك بشكلٍ طوعيّ ضمن مناخ من الامان، يبدو اليوم بعيد المنال، وأن يتمّ إيجاد آليّة تحفيز خاصّة ماليّة لإعادة إعمار المساكن وللشروع بنشاط اقتصاديّ. وهناك تجارب دوليّة كثيرة يمكن الاستفادة منها في هذا المجال.
إلاّ انّ أزمة المهجّرين في سوريا قد بلغت حجماً ضخماً مقارنة مع أيّة حالة عالميّة أخرى، إن كان في أعداد المهجّرين قسريّاً نسبة إلى عدد السكّان، أو في حجم الدمار سواء في البنى التحتيّة، أو في ممتلكات الأفراد أو في آليات الترابط الاقتصادي، أو في الخراب الذي حصل في نفسيات الناس من جرّاء الفظاعات التي تمّ ارتكابها والشحن الإعلامي الممنهج هنا وهناك.
بالتالي تتخطّى المشكلة بشكلٍ كبير الحديث عن الأموال الطائلة اللازمة لإعادة الإعمار والعطاءات الدوليّة والإقليميّة الضروريّة لذلك. واللافت أنّ معظم الأدبيّات التي تتطرّق إلى إعادة الإعمار تستخدم حجم التقديرات الماليّة كي تبرّر ضمنيّاً لمشروع اقتصاد سياسيّ يصفّي حسابات مع ستين سنة من التغيّرات التي حصلت في البلد، ويقفز بسوريا إلى نموذج اقتصاديّ نيوليبراليّ، فقط باستثمارات خارجيّة، وكأنّ المشاكل ستحلّ وحدها من جرّاء «الأيدي الخفيّة للسوق» (أيّ سوقٍ هي في بلدٍ تمزّقت أوصاله؟) وبمعزلٍ عن المشاكل الاجتماعيّة الاقتصاديّة التي كانت هي أصلاً ما جعل «الثورة» حتميّة.
كلّ إنسان أجبر على الخروج من منزله يحلم بالعودة إليه… ربّما، في القرى والأرياف التي لم يضربها الإهمال والجفاف، وفي وسط المدن الكبرى… ولكن هل الأمر كذلك بالنسبة للمناطق الحضريّة التي شيّدت بسرعة وفوضى في السنوات الأخيرة من جرّاء الفورة الشبابيّة وتكاثف الهجرة من الريف إلى المدينة حتّى اكتظّت بسكّانها من دون خدمات عامّة حقيقيّة؟ وكيف يتمّ حلّ إشكاليّات التعديات المختلفة السابقة على الملكيات التي ساهمت في تأجيج الصراع الاجتماعي وكذلك تلك التي حصلت في السنوات الثلاث التي انقطعت فيها سبل العيش وتولي أمراء الحرب الاستيلاء على أرزاق الناس؟ إنّ المناطق الحضريّة التي ثارت وتحصّن فيها المقاتلون ثمّ دمّرها القصف، هي بالضبط تلك المدن الصغيرة والمتوسّطة، والضواحي التي حملت إشكاليّات ما قبل الثورة وتحمّلت أعباء الحرب. ثمّ انّ تحوّلات جرت أخرج فيها فلاحون من أراضيهم وحضريّون من منازلهم واستخدمها آخرون بحكم منطق الحرب، على هذا الطرف أو ذاك.
كذلك تواجهت مناطق متجاورة أثناء الصراع، هذه موالية وتلك معارضة، طائفيّاً وطبقيّاً، وتهجّر الأهالي من الأحياء المختلطة. وحصلت هجرات جماعيّة من مناطق أضحى التعايش فيها صعباً. فهل يعود المهجّرون إلى الأحياء المختلطة وإلى مناطق يشعرون بأنّ عداوات قد نمت فيها وتحتاج إلى وقت وآليّات طويلة كي تشملها المصالحة والسماح؟
ثمّ كيف سيعيل العائدون عائلاتهم، بعد أن استهلكت مدّخراتهم ومدخّرات كلّ الشبكة الاجتماعيّة التي كانوا يعّولون عادة عليها؟ لقد أضحى كثير من أهالي سوريا يعيشون على المساعدات والإغاثة، مع ما في ذلك من اقتصاد سياسيّ وفساد. السلطة تستخدمها من ناحية لإخضاع مناطق، والقوى الخارجيّة من ناحية ثانية لجلب مناطق أخرى للأفكار التي تروّج لها. والمنطق الذي أدّى إلى انفجار الصراع وإلى شرذمة المعارضة المسلّحة وحرف كثير منها عن أهداف الحريّة يمكن أن يستمرّ طويلاً من جرّاء الحالة لاقتصادية حتّى لو توقّف القتال.
معظم سكّان سوريا اليوم شباب. وقبل الانتفاضة كانت معظم فرص العمل، ولم يتح منها سوى القليل، غير نظاميّة وغير لائقة، بالرغم من كلّ التقييم الإيجابي للمؤسسات الدوليّة حول نموّ الاقتصاد السوري في السنوات العشر الأخيرة. وهذا ما بالضبط ما جعلهم يطالبون بالكرامة مع الحريّة. فما بالنا بالأمر اليوم، وقد تخرّبت آليّات الاقتصاد. وكيف سيكون هناك استقرار سياسيّ إذا بقي هؤلاء الشباب من دون عمل، خاصّة أنّهم اليوم يحملون بمعظمهم السلاح.
كذلك أصبحت أغلب المناطق تدار ذاتياً من قبل مجالس محليّة من بين الأهالي. وقد عملت هذه المجالس على تشكيل هيئات خدمات عامّة تعوّض عن غياب الدولة وأجهزتها التي أضعفتها الحرب. بالتالي ستختلف كليّاً العلاقة بين هذه الإدارات المحليّة والحكومة المركزيّة في مرحلة إعادة الإعمار، بشكلٍ لن يسمح بتسلّط أجهزة بعينها على مقدّرات السكّان من دون رادع.
مشروع إعادة الإعمار هو بالتالي مشروع وطنيّ بامتياز. ما يعني من ناحية أنّه لا بدّ من رؤية شاملة حول آليّات إدارتها وحول الاقتصاد السياسي وسبل التشغيل وخلق فرص العمل. ضرورة المشروع الوطني والتفاعل بين ما هو مركزيّ ومواطنيّ تحتّمها متطلّبات إعادة توحيد البلاد على رؤية مشتركة والانطلاق من الواقع القائم إلى واقع مستقرّ يخدم المواطنين بالدرجة الأولى بعد كلّ ما تحمّلوه.
قد يبدو هذا الكلام بعيداً عن واقع اليوم، خاصّة أنّ الحرب لم تنته بعد، وأنّ صيغة الحكم الانتقالي التي سيخلص إليها الصراع لم يحسم. وما يمكن أن يقال عن المآلات القادمة هو فقط أشياء أساسيّة: أنّ السلطة القائمة في شكلها الحالي ستتغيّر جذريّاً، ولن تحكم السلم الأهليّ، لما أخذت أليه البلاد من دمار، وأنّ محاولات الخارج لخلق سلطة بديلة تابعة لأهوائها تهيمن على التغيير قد فشلت، باعتراف القائمين على هذه المحاولات.
إلاّ أنّ للتفكّر في إعادة الإعمار تداعياته في مجريات الأمور اليوم، خاصّة وأنّ البلاد قد تقطّعت أوصالها، وانقسمت إلى مناطق نما في كلّ منها تيّارات فكريّة وسياسيّة مختلفة وتربّع على شؤونها أمراء حرب. فالمصالحات التي تعقدها السلطة بعد الحصار والتجويع تجري على أساس: اعترفوا بالسلطة المركزيّة ونسمح لكم بإدارة شؤونكم. لكن إدارة الشؤون المواطنيّة لن تستقيم بهذه السهولة، ولا السلطة المركزيّة، لأنّ البلدات والمناطق التي تستفرد بها السلطة الواحدة تلو الأخرى، سيكون لها مصلحة في أن تتحالف لخلق قوّة تقارع السلطة المركزيّة، مهما كانت، حتّى بعد وقف القتال. وستشكّل هذه التحالفات نواة لعلاقات سياسيّة واجتماعيّة جديدة لن تسمح للاستبداد بالاستمرار أو لأيّ استبداد جديد أن يفرض هيمنته، وستغيّر العلاقة بين المواطنين والدولة. من ناحية أخرى، لقد كشف فشل التجربة في المناطق التي خرجت عن الإدارة المركزيّة أنّ الدولة وخدماتها لا يمكن إعادة اختراعها بسهولة، وأنّها مع علاّتها وضرورة إصلاحها ومأسستها محليّاً ما زالت ضروريّة لبلد مثل سوريا. وأنّه يجب بشكلٍ واضح الفصل في الخطاب العام بين الدولة والسلطة، وألاّ يعني إسقاط النظام إسقاط الدولة بل إسقاط الاستبداد والسلطة التي تهيمن على مقدّرات الشعب والدولة سويّة.
ستتوقّف الحرب يوماً. نأمله جميعاً قريباً. وسينتهي الاستبداد. إلاّ أنّ التفكّر في آليّات إعادة الإعمار وعودة المهجّرين هو بالضبط وضع ركائز لبلد الحريّة الذي نتطلّع إليه، مع ديموقراطيّة تبنى على مأسسة علاقات نديّة بين المواطنين الأفراد واللامركزيّة المحليّة والسلطة المركزيّة، غايتها الخدمة العامّة وتلبية احتياجات الناس…