ثورة سوريا.. استعصاء وفوضى وأسلمة

بقلم:سلامة كيلية

إلى الآن، الثورة السورية هي أطول ثورة منذ بدء الموجة الثورية في 17/12/2010 في تونس، ولازالت مستمرة دون مقدرة على تحديد نهاية لها، على الأقل كما حدث في البلدان الأخرى من إزاحة للرئيس وحاشيته، وفتح أفق لتغيير ما. 

ما هو مطروح هو الحل السياسي في جنيف2، الذي يبدو متعثرا إلى الآن، بالضبط لأن نجاحه يتوقف على إبعاد بشار الأسد وحاشيته بينما هو من يشارك في المؤتمر، ويسعى لإفشاله، لأن نجاحه يعني رحيله بالتحديد.

منذ البدء كان واضحا بأن الثورة لن تحقق انتصارا أوليا إلا من خلال إحداث كسر في بنية السلطة يفتح على إبعاد الأسد وتحقيق انفراجة ديمقراطية.

فالثورة السورية، ككل الثورات في البلدان العربية، عفوية، دون أحزاب لديها رؤية عن الثورات وكيفية تطويرها لكي تسقط النظام. هذا الشعار الذي رفعه الشعب، والذي كان زخم الثورات يسمح به، لكن فعل التنظيم كان غائبا. وهو الأمر الذي كان يستدعي تدخل الجيش كي يزاح الرئيس انطلاقا من أن ذلك يعني إسقاط النظام. 

في سوريا كان الوضع أكثر تعقيدا في هذه المسألة نتيجة البنية التي أوجدها حافظ الأسد، والتي كانت تؤسس لدولة بوليسية متعددة الأجهزة، وجيش خاضع للسيطرة الأمنية، ويتحكم في مفاصله ضباط شديدو الولاء، ومن بيئة الرئيس ذاته. 

لهذا كان كسر السلطة يحتاج إلى “تكتيك” نبيه، وسياسة تقوم على إدماج البيئة التي تشكل السلطة منها “قوتها الصلبة” كي يصبح ممكنا إيجاد الكسر الضروري في السلطة. 

بمعنى أن ما كان عفويا و”طبيعيا” في ثورات تونس ومصر كان بحاجة إلى جهد ووعي في الثورة السورية، وهذا ما لم يحدث، على العكس حدث ما يساعد السلطة على تشديد تماسك “الأقليات” (خصوصا العلويين) خلفها.

وبهذا إذا لم تكن السلطة قد نجحت في إنقاذ ذاتها فقد نجحت في خلق الاستعصاء الذي نعيشه الآن، والذي لا يسمح بتوقع انتصار الثورة رغم تهلهل قوة السلطة، واعتمادها على “قوى خارجية” (إيران وحزب الله وعصائب أهل الحق الطائفية العراقية، وعلى الدعم العسكري الروسي). وهذا الأمر يمكن أن يقود إلى انهيار السلطة، لكن البديل الآن هو الفوضى، وتقاتل الجبهات المسلحة. وهو الأمر الذي يفرض بناء إستراتيجية جديدة تكون بديلا عن “الحل السياسي” في حال فشله، واستمرارا للثورة في كل الأحوال.

خطاب السلطة ومصيدتها

ما كررته السلطة منذ البدء هو أن ما يجري هو من فعل “عصابات مسلحة”، ومن “إرهابيين سلفيين”، وأن ما يجري هو حراك يقوم به الإخوان المسلمون، وتنظيم القاعدة. ومن ثم فالمستهدف هو “الأقليات” و”الدولة العلمانية”، وأن الأمر يتعلق بعنف مسلح ضد الدولة وليس بشعب يتظاهر من أجل مطالب. 

وسنلمس اليوم أن السلطة نجحت في أن يصبح ما قالته أمرا واقعا، وإن كان ذلك لن يتيح لها إنقاذ ذاتها، ما نجحت به هو إبقاء “البيئة الاجتماعية” خائفة، وهي التي أسست قوتها عليها، وتدافع عنها، حتى دون قناعة، خشية الخوف القادم من التغيير ومن الانتقام الذي تريده قوى أصولية طائفية.
هذه هي العقدة التي أفضت إلى الاستعصاء والتي تحتاج إلى وقفة حاسمة بعد ثلاث سنوات من الثورة، لأن حلها هو المدخل لتغيير الوضع بفتح أفق جديد للثورة. 

ويمكن هنا أن نشير إلى “المصالح” التي كانت توصل إلى هذه النتيجة، وهي مصالح فئات معارضة وقوى إقليمية ودولية، كان لكل منها حساباته وأوهامه، بينما كان الشباب الذي حرّك الشارع في الأشهر الأولى واعيا لخطر الانجرار للأصولية والصراع الطائفي، وإن لم يستطع تقديم خطاب يجذب تلك “الأقليات”، التي كان على انخراطها في الثورة يتوقف مصيرها كله، بالضبط لأن ذلك هو ما كان سيفرض شق السلطة وفتح أفق للتغيير.

فقد عمل طيف معارض وقوى إقليمية ودولية على تحويل “خطاب” السلطة ضد الثورة إلى “حقيقة”، لهذا أخذت الثورة تظهر وكأن الأمر يتعلق بصراع قوى أصولية وتكفيرية مسلحة ضد السلطة. 

وفي هذه المعادلة كانت السلطة هي الرابحة، لأنها شدت خلفها “الأقليات”، وأعطت مبررا لكل القوى الدولية، وإخطارا للشعوب في العالم كي تقف موقف اللامبالاة من الثورة.

بالتالي إذا كانت تريد السلطة إظهار الثورة كحراك سلفي “إسلامي” لأن ذلك يخدم تماسكها، فقد عملت أطراف في المعارضة بدت أنها هي التي تمثل الثورة (المجلس الوطني، وضمنه الإخوان المسلمون، وأطراف في إعلان دمشق، والعديد من “السياسيين”) على التأكيد بأن الثورة إسلامية وضد “نظام علوي”، وفي هذا الشحن الطائفي المتبادل كانت الثورة تدفع للتسلح. 

ولا شك في أن نجاح التسلح لم يعتمد على دعواتها بل على وحشية السلطة التي فرضت المواجهة العسكرية، لكنه كان يحمل أخطارا كبيرة نتيجة غياب “الضابط” السياسي، ووجود تحريض طائفي متبادل ودعم مالي مؤثر. 

هنا نلمس أن السلطة التي لا تمت للطائفية بصلة نتيجة مصالحها تتمسك بمنطق “طائفي” لكي تحافظ على “القوة الصلبة” التي تحميها، وأن أطرافا في المعارضة لكي تصبح هي البديل دفعت بأن ينتصر “الخطاب الطائفي” الذي زرعته السلطة، فهي في هذه الوضعية فقط تستطيع أن تسيطر على الثورة كما اعتقدت. 

ولقد ساعدتها القوى الإقليمية، والإعلام الذي عمل جاهدا على “أسلمة” الثورة، حتى الإعلام الغربي كان يميل إلى “التصديق السريع” لهذا الخطاب، وعمل على تعميم فكرة أن ما يجري هو “حرب أهلية” (أي طائفية) حتى قبل أن يصبح للقوى الأصولية قوة.

ما سمح بتحقيق ذلك واقعيا هو أن السلطة ركزت كل مجهودها لكي تدمر كل النخب المنخرطة في الثورة، بدءا من التنسيقيات التي شكلها شباب لديه قدر بسيط من الوعي والفهم والهدف وكل الناشطين الإعلاميين والأطباء، الأمر الذي سمح لشباب أكثر بساطة لأن يصبح هو الفاعل. 

وهذا ما كان ينعكس ضعفا في الشعارات والنشاط، والخضوع أكثر لتأثير الحاجة، التي باتت كبيرة بعد أن أصبحت الثورة، في الغالب، محكومة بالسلاح، وعلى ضوء الموت الوحشي الذي تمارسه السلطة، والذي جعل الصراع ينتقل إلى شكله الغريزي.

في هذا الوضع ضاعت أهداف الثورة، رغم أن “الهدف” ظل هو إسقاط النظام، وهو الهدف الذي كان مقصودا منه منذ البداية تحقيق الحرية ومطالب الشعب المفقر، ومن ثم بناء الدولة المدنية، لكن تلاشى كل ذلك إزاء وحشية السلطة وتصاعد الصراع المسلح لكي يبتسر الأمر إلى مجرد “إسقاط النظام”. 

وهو الأمر الذي فتح على تسرّب كل الأوهام التي باتت تحكم قطاعات من الذين يحملون السلاح، وخصوصا هنا عندما طرح هدف “دولة الإسلام”، أو حتى تطبيق ذلك واقعيا كما فعلت جبهة النصرة ثم داعش (الدولة الإسلامية في العراق والشام)، وهو الهدف الذي باتت تطالب به كل الكتائب الإسلامية (جيش الإسلام، وأحرار الشام، ولواء التوحيد وغيرها). 

ولأن الهدف بات هو إسقاط النظام فقط، فقد وجدت هذه التيارات أرضية لها، وحتى موافقة من قطاع مهم من المعارضين انطلاقا من أن المهم هو إسقاط النظام، وأنه يكفي “مساعدتها” للثورة من أجل ذلك، هذا قبل أن ينكشف أمر داعش التي باتت قوة قمع للشعب في المناطق الخارجة عن سيطرة السلطة، وأيضا دون الانتباه لدور القوى الأصولية الأخرى، من جبهة النصرة إلى جيش الإسلام والجبهة الإسلامية، التي تمارس الدور ذاته في مناطق سيطرتها.

بهذا تحول ما كانت تقوله السلطة منذ البدء، أمرا “واقعا”. وأصبح الأمر-كما يجري التداول في الإعلام- صراعا مسلحا بين السلطة وقوى متطرفة. 

وهذه الصورة التي أخذت في التبلور بعد عام ونصف من الثورة باتت تغطي على الشعب، وعلى الثورة، وأصبحت هي المعبّر عن الصراع القائم بديلا عن الواقع الذي يقول بأن الأمر يتعلق بشعب يخوض ثورة من أجل إسقاط النظام لتحقيق الحرية والعدالة. 

لقد “اختفت” الثورة (أو أخفيت) لمصلحة صراع مسلح بين قوى السلطة وقوى متطرفة، وبتدخل إقليمي ودولي عالي المستوى، وهو الأمر الذي سمح للسلطة بأن تمارس كل أنواع الوحشية والهمجية دون أن يحرّك كل ذلك شعوب العالم. 

فالسلطة تمارس كل ما يمكن أن يوصف بأنه جرائم ضد الإنسانية، وتوغل في الإبادة الجماعية، بكل أنواع الأسلحة المحرمة وغير المحرمة، تحت كاميرات العالم، دون أن تلقى ما يناسب الأمر من ردود الفعل. 

وإذا كانت الدول الإقليمية والدولية المتدخلة لا تأبه للقتل والتدمير لأنها تريد أن تكون الثورة السورية هي مقبرة الصيرورة الثورية التي بدأت في تونس، فإن الأمر المذهل يتعلق بالشعوب، وبشكل أخص ما يسمى اليسار العالمي.

هذا الوضع يفرض إعادة بناء الرؤية، وتحديد الهدف، وبالتالي التفكير الجدي في إعادة بناء الثورة كثورة شعب يريد إسقاط النظام من أجل الحرية والعدالة

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *