المشروع العلوي ..السيطرة الكاملة !

بقلم: اياد شربجي

 الجزء الثاني: التغوّل والسيطرة الكاملة

قبل الدخول في مرحلة بدأ صدام حافظ الأسد مع الإسلاميين لا بد من العودة للتعريج على بعض التفاصيل التي لم يرد ذكرها في الجزء الأول من الملف، والتي تعدّ ضرورية لفهم السياق كاملاً، لجهة أن المشروع العلوي والشخصي الأسدي كان الوحيد الهادف لاستفراد بالسلطة كاملة على أساس طائفي، وهو في طريقه إلى ذلك داس على كل رفاقه وقام بتصفيتهم واحداً تلو الآخر، وكان ذلك يتم على مراحل ووفق خطة ممنهجة وضعها الأسد وجديد من الخلف واستخدما فيها الآخرين أبشع استخدام وأوقعوهم بين بعضم ثم خانوهم جميعاً وأطاحوا بهم، ولأنه لا يمكن أن يكون هناك ربانان لسفينة واحدة، سرعان ما استفرد الأسد وحيداً بالمشروع العلوي عندما انقض على جديد نفسه في اللحظة المناسبة عام 1970 لتتأسس جمهورية الأسد من حينه.

تدمير العسكرية السنيّة

عندما اجتمع العلويون الثلاثة (محمد عمران-صلاح جديد- حافظ الأسد) في القاهرة عام 1959 وشكلوا نواة اللجنة العسكرية التي ستقوم بالانقلاب لاحقاً، عرفوا أنه لا يمكن لحركتهم أن ترى النور ما لم يتم تغطيتها طائفياً، لذلك بعد عودتهم إلى سورية خلال صفقة التبادل بين ضباط سوريين ومصريين إثر الانفصال عام1961 كان أول ما فعلوه هو توسيع دائرة اللجنة العسكرية لتشمل ضباطاً من طوائف أخرى يبدو أنه تم اختيارهم بعناية، فقد تم ضمّ اسماعيليين هما ﺃﺤﻤﺩ ﺍﻟﻤﻴﺭ و ﻋﺒﺩ ﺍﻟﻜﺭﻴﻡ ﺍﻟﺠﻨﺩﻱ ، ودرزيان هما حمد عبيد و سليم حاطوم والإثنان معروفان بطائفيتهما، ويتميز حاطوم عن عبيد بوحشيته وسذاجته (سوف يستخدمه الأسد وجديد لاحقاً بالكثير من أعمالهما القذرة قبل أن يتخلّصا منه في النهاية)، بالإضافة لستة من السنة (لا يوجد أي دمشقي من بينهم) كان من بينهم ثلاثة من حوران هم موسى الزعبي ومصطفى الحاج وعلي سويداني(جميعهم كانوا على شقاق مع النخبة العسكرية الدمشقية بقيادة عبد الكريم ريحاوي) واثنان من حلب هما حسين ملحم وأمين الحافظ والأخير كان معروفاً أيضاً بسذاجته وعنترياته الفارغة، أما الضابط السني الأخير فكان محمد رباح الطويل من اللاذقية، وبهدف الحصول على الغلبة والتأثير تم أيضاً توسيع التمثيل العلوي في اللجنة ليشمل ضابطين إضافيين هما عثمان كنعان، وسليمان حداد.

ما عدا صلاح الجديد وعبد الكريم الجندي المنحدران من طبقة اجتماعية متوسطة فإن جميع من سبقهم ينحدرون من عائلات قروية فقيرة، وكانت لديهم في الغالب قناعات ومشاكل طبقية شخصية وأيدلوجية بعثية مع طبقة التجّار والملاك (الإقطاعيون والبرجوازيون) من أهل المدن سيما العاصمة دمشق.

وكما أشرنا في الجزء السابق، فبعد إنقلاب العام 1963 قام أعضاء اللجنة العسكرية المصغرة العليا للانقلاب (الأسد – جديد – عمران) بتجنيد آلاف من العلويين في صفوف الجيش بالتوازي مع تسريح أمثالهم من الضباط السنّة، و ﻁﺒﻘﺎًﹰ ﻟﻤﺎ ﺫﻜﺭﻩ ﺍﻟﺩﻜﺘﻭﺭ ﻤﻨﻴﻑ ﺍﻟﺭﺯﺍﺯ، الأﻤﻴﻥ ﺍﻟﻌﺎﻡ ﻟﻠﻘﻴﺎﺩﺓ ﺍﻟﻘﻭﻤﻴﺔ ﻟﺤﺯﺏ ﺍﻟﺒﻌﺙ بين عامي 1965-1966:
“بدأت ﺭﻭﺍﺌﺢ ﺍﻟﺘﻜﺘﻴﻝ ﺍﻟﻁﺎﺌﻔﻲ ﺍﻟﻤﻘﺼﻭﺩ ﺘﻔﻭﺡ، ﻭﺒﺩﺃ ﺍﻟﺤﺩﻴﺙ ﻋﻨﻬﺎ، ﺃﻭﻝ الأمر همساً، ﺜﻡ ﺒﺩﺃﺕ الأصوات بالارتفاع ﺤﻴﻥ ﻅﻬﺭﺕ ﺒﻭﺍﺩﺭ ﻤﺎﺩﻴﺔ ﺘﺴﻨﺩ هذا ﺍﻻﺘﻬﺎﻡ”.

ويذكر الكاتب ﻤﻁﺎﻉ ﺍﻟﺼﻔﺩﻱ الذي عايش تلك المرحلة في كتابه “ﺤﺯﺏ ﺍﻟﺒﻌﺙ”: “ﺇﻥ ﺍﻟﺘﺴﺭﻴﺤﺎﺕ ﺒﺎﻟﻤﺌﺎﺕ ﺍﺴﺘﻬﺩﻓﺕ ﺠﻤﻴﻊ ﺍﻟﻀﺒﺎﻁ ﻤﻥ ﺃﺒﻨﺎﺀ ﺍﻟﻤﺩﻥ ﺍﻟﻜﺒﺭﻯ، ﻭﻤﻥ (ﺍﻟﺴﻨّﻴﻴﻥ) ﺨﺎﺼﺔ ﺤﺘﻰ ﻓﺭﻏﺕ ﺃﺴﻠﺤﺔ ﻜﺎﻤﻠﺔ ﻤﻥ ﻀﺒﺎﻁﻬﺎ ﺍﻟﺭﺌﻴﺴﻴﻴﻥ، كسلاحي الطيران والبحرية، وكذلك الآليات، ﻭﻜﺫﻟﻙ ﺍﺘﹸﺒﻌﺕ ﻨﻔﺱ ﺍﻟﺨﹸﻁﺔ ﺤﻴﺎﻝ ﺼﻑ ﺍﻟﻀﺒﺎﻁ ﻭﺍﻟﺠﻨﻭﺩ، ﺤﺘﻰ ﺃﺼﺒﺢ ﻤﻥ ﺍﻟﻤﺘﻌﺎﺭﻑ ﻋﻠﻴﻪ ﺃﻥ ﺃﻟﻭﻴﺔ ﻜﺎﻤﻠﺔ، ﺒﺄﺭﻜﺎﻥ ﺤﺭﺒﻬﺎ ﻭﺼﻑ ﻀﺒﺎﻁﻬﺎ ﻭﺠﻨﻭﺩﻫﺎ، ﻭﻗﻑ ﻋﻠﻰ العلويين”.

يدعم ذلك ما ذكره “نيكولاس فاندام” في كتابه (الصراع في سورية): “اللواء ﺍﻟﺴﺒﻌﻴﻥ ﺍﻟﻤﺘﻤﺭﻜﺯ ﺒﺎﻟﻘﺭﺏ ﻤﻥ ﺍﻟﻜﺴﻭﺓ ﺠﻨﻭﺏ ﺩﻤﺸﻕ، كانت ﻤﻌﻅم طواقمه ﻤﻥ ﺍﻟﻌﻠﻭﻴﻴﻥ وأن العناصر السنية لم تكن ذات قيمة، فبينما ﻜﺎﻥ محمود حمرا السني قائد كتيبة للدبابات في اللواء، فإنه لم يكن له أية سلطة فعلية أمام صف الضابط العلوي في الكتيبة علي مصطفى والذي كان يستمد قراراته مباشرة من الجديد والأسد”.

هذه السلوكيات الطائفية التي باتت واضحة ومعلنة، دفعت عدداً من الضباط السنّة لمحاولة الإنقلاب من خارج اللجنة العسكرية العليا كعبد الكريم نحلاوي وجاسم علوان وغيرهم، لكن كل تلك المحاولات باءت بالفشل وقمعت في مهدها من القاعدة العلوية التي أصبحت مترسّخة على مستوى صف الضباط والجنود في تلك المرحلة، أما أمين الحافظ فقد بدأ يجاهر بعدائه لتكتّل العلويين لكنه لم يكن يمتلك من أمره إلا الكلام والإدعاء، ولم يعمد كالآخرين على تمتين جبهته، بل إنه خسر حتى بعض مؤيديه من الضباط السنّة، وكان من بين أولئك مصطفى طلاس والذي كانت لحظة فراقه الحقيقية به عندما اتخذ الحافظ بحقه إجراءاً تأديبياً بعد خلاف نشأ بينهما في إحدى سهرات النوادي الليلية عام 1965، رعونة أمين الحافظ وادعاءاته الفارغة غير المستندة على قوّة على الأرض، حرقت أوراقه داخل قيادة اللجنة العسكرية حتى أمام أعزّ أصدقائه القدامى كسليم حاطوم، والذي قاد لاحقاً (مدفوعاً من حافظ الأسد وصلاح جديد) عملية عسكرية للإطاحة بالحافظ في 23 شباط 1966، فقام بمحاصرة القصر الجمهوري حيث يوجد الأخير ورفع السلاح في وجهه وقتل حوالي 70 من حرسه إلى إن سلّم نفسه.

خيانة الشركاء:

بعد انقلاب 23 (ﺸﺒﺎﻁ) 1966 الذي خططه وأداره الأسد وجديد من الخلف ونفّذه حاطوم في الواجهة، والذي أطاح برئيس الجمهورية أمين الحافظ ومؤيديه وكذلك مؤسسي حزب البعث ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار، شنّت السلطة الانقلابية الجديدة حملة أخرى من التصفيات في أوساط الضباط اللاعلويين، وعلى إثر الإنقلاب إيّاه عقد حزب البعث مؤتمراً قطرياً استثنائياً تم بموجبه إحكام السيطرة العلوية على السلطة، حيث عُيّن حافظ الأسد وزيراً للدفاع، وتولّى جديد مسؤولية الحزب بالكامل مع احتفاظه بولاءاته العسكرية، وأقرّت سلسلة ترفيعات كبيرة لضباط علويين استلمت أهم القطاعات في الجيش، فيما تمّ تنصيب الدكتور نور الدين الأتاسي صُورياً كرئيس سنّي للجمهورية، وعلى غير المأمول والمتوقّع شملت التصفيات ضباطاً من طوائف أخرى، حيث تم استبعاد عدد من أهم الضباط الاسماعيليين و الدروز من الجيش، وكان من بينهم ﺤﻤﺩ ﻋﺒﻴﺩ، وطلال أﺒﻭ ﻋﺴﻠﻲ ﻭﻓﻬﺩ ﺍﻟﺸﺎﻋﺭ، وذلك بدعوى تكتلهم الطائفي الذي يناقض عقيدة البعث القومية..!!!

على أن الضحية الأكبر للانقلاب الثاني كان ﺴﻠﻴﻡ ﺤﺎﻁﻭﻡ نفسه، فبعد الإجراءات المذلّة التي تعرض لها أمين الحافظ وكتلته السنية، وكذلك ميشيل عفلق والبيطار وشبلي العيسمي وإيداعهم سجن المزة بظروف مهينة، تنبّه حاطوم إلى المخطط العلوي الذي يسير بثبات وتركيز، وتأكّد له ذلك عندما شملت التسريحات عدداً كبيراً من الضباط و أعضاء الحزب الدروز، فأعلن حاطوم رفضه لهذه الإجراءات واعتبرها طعناً شخصياً فيه، فقام وزير الدفاع الجديد حافظ الأسد بسحب صلاحياته بالكامل وسط ذهول الأخير الذي شعر بالخيانة.

نتيجة ذلك حدثت قلاقل في السويداء استنهضت الجبل، وفي برقية أُرسلت للقيادة القطرية للحزب هدد أعضاء الحزب في السويداء ﺒمقاطعة القيادة القطرية وأوامرها بالكامل ﺇﺫﺍ ﻤﺎ ﺍﺴﺘﻤﺭﺕ ﻋﻤﻠﻴﺔ ﺘﺼﻔﻴﺔ العناصر و ﺍﻟﻀﺒﺎﻁ ﺍﻟﺩﺭﻭﺯ من الجيش والحزب، وبعد زيادة حدّة التوترات هناك، أرسلت القيادة القطرية ﻟﺠﻨﺔ ﺤﺯﺒﻴﺔ ﻋﻠﻴﺎ ﻟﻠﺴﻭﻴﺩﺍﺀ ضمت الرئيس السوري نور الدين الأتاسي، والأمين العام المساعد صلاح جديد، فيما اعتذر حافظ الأسد عن الذهاب وبقي في دمشق، هنا ﺍﻏﺘﻨﻡ ﺤﺎﻁﻭﻡ ﻭﺃﻨﺼﺎﺭﻩ ﻓﺭﺼﺔ ﻭﺼﻭﻝ ﺍﻟﻠﺠﻨﺔ إلى السويداء ﻭﺍﻋﺘﻘﻠﻭﺍ كامل أفرادها، ظناً منه أنه يستطيع استخدامهم كرهائن في مفاوضاته ﻤﻊ حافظ الأسد في دمشق.

اتصل سليم حاطوم بالأسد الذي كان قد متّن أقدامه جيداً في الجيش والحزب، وعرض عليه شروطه التي تتلخص في إعادة اعتبار الكتلة الدرزية، وكان ردّ حافظ الأسد صادماً، فبدلاً من سعيه للتفاوض لإطلاق سراح أصدقائه الأتاسي وجديد فقد أرسل في 8 أيلول 1966 قوة عسكرية قوامها وحدات مدرّعة بالإضافة لكتيبة للصواريخ، وهدد بقصف السويداء وتدميرها فوق رؤوس ساكنيها، من غير أن يقيم أي اعتبار لغضب الدروز الذين كانوا فعلياً فقدوا أي تأثير لهم في الجيش والحزب، وكان هذا أول ظهور سلطوي عنفي واضح للأسد الذي تعوّد دوماً أن يعمل في الخفاء ويبتعد عن الواجهة.

نتيجة هذا الرد الناري تدخل “المشايخ” الدروز للإفراج عن الرهائن، وفشلت خطة حاطوم وهرب إلى الأردن ليعلن ويطلق من هناك حرباً شعواء على الأسد، فقد عقد حاطوم مؤتمراً صحفياً ﻓﻲ عمان يوم 13 ﺴﺒﺘﻤﺒﺭ (ﺃﻴﻠﻭﻝ ) 1966 قال فيه:
“إﻥ ﺍﻟﻔﺌﺔ ﺍﻟﺤﺎﻜﻤﺔ ﺘﻌﻤﺩ إﻟﻰ ﺘﺼﻔﻴﺔ ﺍﻟﻀﺒﺎﻁ ﻭﺍﻟﻔﺌﺎﺕ ﺍﻟﻤﻨﺎﻫﻀﺔ ﻟﻬﺎ ﻭﺘﺤﻝ ﻤﻜﺎﻨﻬﻡ ﻤﻥ ﺍﺘﺒﺎﻋﻬﺎ ﻓﻲ ﻤﺨﺘﻠﻑ ﺍﻟﻤﻨﺎﺼﺏ، وقد ﺒﻠﻐﺕ ﻨﺴﺒﺔ ﺍﻟﻌﻠﻭﻴﻴﻥ ﻓﻲ ﺍﻟﺠﻴﺵ ﺨﻤﺴﺔ ﻤﻘﺎﺒﻝ ﻭﺍﺤﺩ ﻤﻥ ﺠﻤﻴﻊ ﺍﻟﻁﻭﺍﺌﻑ الأخرى”.

وفي مقابلة صحفية خاصة نشرتها جريدة النهار في اليوم التالي لذلك قال حاطوم: ” ﺇﺫﺍ ﻤﺎ ﺴُﺌِﻝ ﻋﺴﻜﺭﻱ ﺴﻭﺭﻱ ﻋﻥ ﻀﺒﺎﻁﻪ الأحرار ﺴﻴﻜﻭﻥ ﺠﻭﺍﺒﻪ أﻨﻬﻡ ﺴﺭﺤﻭﺍ ﻭﺸﺭﺩﻭﺍ ﻭﻟﻡ ﻴﺒﻕَ ﺴﻭﻯ ﺍﻟﻀﺒﺎﻁ ﺍﻟﻌﻠﻭﻴﻴﻥ، إﻥ ﺍﻟﻀﺒﺎﻁ ﺍﻟﻌﻠﻭﻴﻴﻥ ﻤﺘﻤﺴﻜﻭﻥ ﺒﻌﺸﻴﺭﺘﻬﻡ ﻭﻟﻴﺱ ﺒﻌﺴﻜﺭﻴﺘﻬﻡ ﻭﻫﻤﻬﻡ ﺤﻤﺎﻴﺔ صلاح جديد وحافظ الأسد”.

ثم ﺒﺘﺎﺭﻴﺦ 28 من ذات الشهر صرّح لجريدة الحياة بما حرفيته: “إﻥ ﺍﻟﻤﺠﻤﻭﻋﺔ ﺍﻟﺤﺎﻜﻤﺔ ﻓﻰ ﺩﻤﺸﻕ ﻋﻘﺩﺕ ﺍﻟﻌﺯﻡ ﻋﻠﻰ ﺘﻨﻔﻴﺫ ﺨﻁﺔ ﻁﺎﺌﻔﻴﺔ ﺒﻐﻴﺔ إﻗﺎﻤﺔ ﻨﻅﺎﻡ ﺍﻨﺘﻬﺎﺯﻱ ﻴﺤﻤﻝ ﺸﻌﺎﺭ ﺩﻭﻟﺔ ﻋﻠﻭﻴﺔ ﺫﺍﺕ ﺭﺴﺎﻟﺔ ﺨﺎﻟﺩﺓ”.

بعد فشل خطة خاطوم اعتقل العشرات من الضباط الدروز المتبقين بشكل وحشي، ووجهت إليهم تهم بمحاولة الإنقلاب على النظام الحاكم، وتأسيس تنظيمات طائفية تعادي وحدة الأمة، وصدر حكم بالإعدام ضد حاطوم الهارب بتهمة العمالة لإسرائيل والصهيونية، وقد أثارت هذه الإجراءات الشارع الدرزي بشكل أكثر جدية هذه المرة، وهو ما دفع قائد الثورة السورية الكبرى ﺴﻠﻁﺎﻥ باشا الأطرش ﻭﺍﻟﺫﻱ ﻜﺎﻥ ﻻ ﻴﺯﺍﻝ ﻴﺤﻅﻰ ﺒﺎﺤﺘﺭﺍﻡ ﻜﺒﻴﺭ لإرسال ﺒﺭﻗﻴﺔ ﻤﻔﺘﻭﺤﺔ ﻟقيادة الجيش في كانون الأول 1966 قال فيها مهدداً: “أﻭﻻﺩﻨﺎ ﻓﻰ ﺍﻟﺴﺠﻭﻥ ﻤﻀﺭﺒﻭﻥ، وﻨﺤﻤﻠﻜﻡ ﻤﺴﺅﻭﻟﻴﺔ ﺍﻟﻨﺘﺎﺌﺞ، ﻟﻘﺩ ﺍﻋﺘﺎﺩ ﺍﻟﺠﺒﻝ ﻭﻤﺎ ﻴﺯﺍﻝ أﻥ ﻴﻘﻭﻡ ﺒﺎﻟﺜﻭﺭﺍﺕ ﻟﻁﺭﺩ ﺍﻟﺨﺎﺌﻥ ﻭﺍﻟﻤﺴﺘﻌﻤﺭ ﻭﻟﻜﻥ ﺸﻬﺎﻤﺘﻪ ﺘﺄﺒﻰ ﻋﻠﻴﻪ ﺃﻥ ﻴﺜﻭﺭ ﻀﺩ ﺃﺨﻴﻪ ﻭﻴﻐﺩﺭ ﺒﺒﻨﻲ ﻗﻭﻤﻪ، وهذا هو رادعنا الوحيد الآن، مبدئياً نقتصر على المفاوضات”.

إثر ذلك أمر حافظ الأسد بتحويل الضباط الدروز إلى المحاكمات واستهلك الوقت بالإجراءات القضائية لحين امتصاص النقمة وتمكينه من السيطرة على السويداء، وبالمحصلة تمت تهدءة الجبل بإطلاق العديد من الضباط الدروز لكن دون أن يعودوا إلى مراكز عملهم.

هذه دلالة أخرى على أن خبث الأسد الذي كان يبني حكمه الطائفي، ويتهم الآخرين بذلك بل ويحاسبهم وينتقم منهم بناء على هذه التهمة.

بدأ الصدام مع القاعدة السنيّة

في الحقيقة بدأ صدام البعث مع المجتمع السني التقليدي منذ بدايات وصوله للسلطة، وذلك تحت تأثير عدة أبعاد:
1- البعد الاقتصادي: النابع من طبيعة الحزب الإشتراكية وإصداره منذ بدايات تسلمه السلطة لمرسوم التأميم، وقد تسبب هذا المرسوم بإضرار هائل للقاعدة الاقتصادية المدارة بالأساس من كبار البرجوازيين والملّاك السنّة، فقد شمل التأميم مئات آلاف الهكتارات من الأراضي الزراعية، وكبرى الشركات الصناعية كشركات الططري وعداس والشهباء والأخضري بحلب، وشركات المغازل والمناسج والشركة العربية المتحدة (الدبس) بدمشق، وكذلك شركة الأخشاب في اللاذقية، ولم تنظر القاعدة السنيّة إلى الأمر من الزاوية الاشتراكية العقائدية لحزب البعث، بقدر ما اعتبرته لصوصية وسرقة من العلويين القرويين لأرزاقهم الموروثة، وانتقاماً طبقياً حاقداً منهم، وقد دعم هذه الفكرة توظيف جديد والأسد لآلاف من العلويين في الشركات المؤممة ومنحهم الكثير من الأراضي على حساب الملّاك الأصليين.

2- البعد الحقوقي والديمقراطي: منذ تسلّمه السلطة أصدر البعث العديد من المراسيم الهادفة لقمع الحريات وخنق الرأي العام، فعدا عن إجراءات قانون الطوارئ والتأميم، أصدرت السلطة الانقلابية القرار رقم 4 تاريخ 13/3/1963 والذي نصّ على إلغاء أهم 17 صحيفة ومطبوعة في البلاد، تلاه بتاريخ 25 من ذات الشهر قانون آخر يقضي بعقوبة (العزل المدني) على حوالي 30 صحفياً ومنعهم من مزاولة المهنة، وحرمانهم من حقوقهم المدنية كالتوظيف والترشح للانتخابات والانتخاب، وذلك بدعوى إساءتهم لإيمان الشعب العربي في سورية بالقومية العربية.. وبثهم الأفكار الشعوبية التي تزعزع الشعب بقوميته، وحصلوهم على أموال من الهيئات الرجعية أو الجهات الأجنبية..

3- البعد الطائفي (وهو الأهم والأعمق تأثيراً): فعدا حملات التسريح السنيّة والتطويع العلوية، بدأ نفور أهل المدن السنة من الثقافة العلوية الوافدة يتوسّع شيئاً وشيئاً، وقد تسبب ذلك بالفعل بغليان داخل الشارع السني ما لبث أن بدأ بالانفجار.

الثورة الحموية الأولى

كانت حماة الحاضن السنّي الأكثر تزمتاً في سورية، والقاعدة الأكبر لتنظيم الإخوان المسلمين وغيرها من التنظيمات الإسلامية الأخرى، وقد جاءت الثقافة العلوية الوافدة عن طريق العسكر والضباط والمدنيين العاملين في مؤسسات الدولة لتزيد الاحتقان، فقد لاحظ أهالي حماة المتدينون أن عموم العلويين ينكرون الطقوس والشعائر الدينية المعتادة للسنة، ويجاهرون باعتقادهم بربوبية علي بن أبي طالب، ويسخرون من الذات الإلهية والصحابة ومقدسات السنّة، وينشرون ثقافة الخمور والتحرر الجنسي في الجيش والدوائر الحكومية، أضف إلى ذلك عقيدة البعث الإلحادية المستمدة من الشيوعية اللينينية، ثم إجراءاته الإدارية على هذا الصعيد فقد كان حزبيو حماة يثيرون حفيظة كثير من أهل المدينة بأفكارهم ونقاشاتهم الساخرة من الدين الذي يعتبرونه فكراً رجعياً متخلّفاً، وقد تجسّد ذلك بكثير من الصور والإجراءات، فقد نشر أحد مؤسّسي حزب البعث زكي الأرسوزي في مجلة (الجيش والشعب) مقالاً شكك فيها بقصة الخليقة وتحدث عن الجاهلية على أنها أرفع مظهر للنفسية العربية وأن العهد الجاهلي هو العهد الذهبي للعرب وأن الإنحطاط بدأ مع ظهور الإسلام، ثم قامت السلطات البعثية بإلغاء كلمة “مسلم” من البطاقة الشخصية، تبعها إلغاء علامة مادة التربية الإسلامية من مجموع علامات الشهادتين الإعدادية والثانوية، وتحويل مالية وزارة الأوقاف (ذات الموارد الضخمة) إلى الموازنة العامة، و اعتقال مجموعةٍ كبيرةٍ من رموز الحركة الإسلامية وقادتها في حماة، و إبعاد وإضطهاد سياسيها كان على رأسهم أكرم الحوراني، وهو ما اعتبرته التيارات الدينية مخططاً لإلغاء هوية الأكثرية السنية في البلاد.

أضف إلى ذلك أيضاً أن التحدي أخذ بعداً طبقياً واضحاً، فعلويو ريف حماة لديهم مشكلة طبقية متأصّلة مع سكان المدينة، فقد كان العلويون فلاحين معدمين بغالبيتهم وكانو يعملون كمرابعين وخدم لدى السنّة الإقطاعية، وكان الأخيرون يعاملوهم معاملة دونية ارستقراطية حيناً وطائفية حيناً آخر، والآن عندما اتيحت الفرصة للعلويين للتسلل عبر الحزب والجيش والحكومة التي كان لها مقرات إدارية في قلب المدينة، فلم يتوانَوا عن استفزاز أهل حماة والانتقام منهم، فمثلاً صار أعضاء فرع الحزب يرددون جهاراً نهاراً شعارات من قبيل (يا أخي قد أصبح الشعب إلها – آمنت بالبعث ربا وبالعروبة ديناً).

أخيراً وفي السابع من نيسان عام 1964 تفجّرت كل هذه الإرهاصات والتراكمات عندما خرجت احتجاجات طلابية في ثانوية عثمان الحوراني بمنطقة الحاضر رداً على اعتقال السلطة طالباً كتب على سبّورة صفه الآية القرآنية: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)، فاحتجَّ الطلاب البعثيون ودارت مصادمات بينهم وبين الطلبة الإسلاميين، تدخلت المخابرات على إثرها واعتقلت الطالب وقدمته لمحكمة أمن الدولة التي حكمت عليه بدورها بالسجن لمدة عام مع تغريمه مبلغاً من المال.

على إثر ذلك قاد الشيخ مروان حديد – العائد حديثاً من مصر و المتأثر بالفكر المتشدد لحسن البنّا- مجموعة من طلابه واعتصموا في مسجد السلطان الأثري بحماة، وأخذ يدعو أهالي المدينة عبر مذياع المسجد إلى الإضراب، ويبين لهم خطر البعثيين وحقدهم على الإسلام والمسلمين، وبالفعل استجاب التجّار وأغلقوا محلاتهم، فأرسلت السلطة الانقلابية قطيعاً من الجيش بقيادة سليم حاطوم وحاصرت الجامع والسوق، وطلبت من مروان حديد وطلابه الاستسلام، فلم يسمع لهم حديد ظناً بأن الجيش لن يجرؤ على الاقتراب من المسجد، فقامت دبابة T54 بإطلاق عدة قذائف على المئذنة التاريخية للمسجد فهوت، ثم تابعت الدبابة طلقاتها من المدفع عيار (100) ملم على قبة المسجد وعلى أجزاء من السوق، فأحدثت تدميراً كبيراً وقضى في الهجوم حوالي 80 مدنياً، في النهاية استسلم مروان حديد نتيجة صراخ الصبيان الذين معه وبكائهم وعويلهم، وقبض عليه ومن معه بشكل وحشي وأوسعوا ضرباً وإذلالاً وسط هتافات طائفية للجنود المهاجمين تقول (خود دين وهات سلاح دين محمد ولّى وراح)، وأحضر الجيش أسلحة إسرائيلية وضعت أمامهم والتقطت لهم الصور، ونشرت صباح اليوم التالي تحت عنوان رئيسي في الصحف (عصابة الإخوان استلمت أسلحة إسرائيلية)، ثم اقتاد المهاجمون مروان حديد إلى دار الحكومة (السرايا), حيث كان الرئيس أمين الحافظ بانتظاره ومعه مجموعة من الضباط الآخرين، وعندما رآه على هذه الشاكلة اندفع المقدم العلوي عزت جديد وأمسك بلحية حديد وقال له: هذه المكنسة لن أراها ثانيةً، ثم أقيمت محاكمة عسكرية من محاكم أمن الدولة برئاسة مصطفى طلاس حكمت على مروان حديد بالإعدام، ومن الملاحظ هنا أن حافظ الأسد وصلاح جديد ورغم أنهما هما من ما أمرا بإرسال الجيش فقد حرصا على الابتعاد عن واجهة المشهد، وورطا ضباطاً من طوائف أخرى ودفعوهم للتصادم مع أهالي حماة، وهذا الأمر سيتكرر لاحقاً في عدد من الحوادث كما سنرى.

توسّع الثورة

عندما بدأت أخبار قصف حماة ووقوع 80 مدنياً قتلى تتوارد إلى المدن السورية الاخرى بدأت هذه تشتعل وتعلن إضرابها واحتجاجها على السلطة البعثية، تباعاً فمن جامع خالد بن الوليد في حمص إلى مسجد الروضة في حلب، إلى دمشق التي بادر محاموها بعد اجتماع عقدوه في قصر العدل الى إصدار بيان دعى إلى الاضراب الى ان تطلق الحريات العامة وتعود الحياة الدستورية ويلغى قانون الطوارئ وتشكّل حكومة انتقالية محايدة تشرف على انتخابات حرة نزيهة.

وعندما دخل الاضراب يومه الثالث في دمشق بدأت دوريات الحرس القومي تطوف الشوارع وتحطم أبواب المحلات التجارية وتتركها مفتوحة دون حراسة، وقد وصفت وكالة الصحافة المشتركة الوضع في دمشق حينها كما يلي: “بدأت جماعات الحرس القومي الذي يحمل كل منهم مخلاً ومنشاراً بفتح أبواب المخازن في قلب دمشق اليوم، وقد تحدت معظم أسواق دمشق الحكومة باستمرار بالاضراب، كما استمر في المدن االسورية الاخرى، وقد ظهرت دلائل ازدياد النقمة الشعبية بانضمام المحامين الى الاضراب وقيام الزعماء الدينيين بشجب إراقة الدماء في حماة، وتوقيع الأطباء عريضة احتجاج على أحداث حماة، ودعوة نقابة المهندسين حكومة البعث الى اجراء انتخابات وعودة الحياة الديمقراطية البرلمانية”.

ونتيجة هذا الجو المشحون ألغي حكم الإعدام بحق مروان حديد ورفاقه وأخرجوا من السجن وأخذ قيادات حزب البعث بالتودد للناسوتوقفت الاحتجاجات.

لكن بعد أقل من عام تكررالمشهد ثانية وبدأ في دمشق هذه المرة، حيث عمّت الإضرابات سوق الحميدية والحريقة، واعتصم المئات داخل الجامع الأموي وكان بينهم الشيخ حسن حبنّكة، فجاء الجيش مجدداً بقيادة سليم حاطوم قائد المغاوير وحاصر المسجد، ثم اقتحمه وحطّم إحدى بواباته بالدبابات واقتحم صحن المسجد في سابقه هي الأولى من نوعها، وأوسع جنود حاطوم بضرب المعتصمين بالرصاص فقتل العشرات منهم، كان بينهم عجّز وأطفال يؤمون المسجد بالصدفة، واقتيد الباقون إلى السيارات العسكرية الشاحنة، تحت ضربات البنادق والتعذيب الوحشي والإهانات الطائفية إلى سجن المزة العسكري، وشكلت المحكمة الميدانية العسكرية برئاسة الضابط البعثي صلاح الضلّي، وعضوية رباح الطويل وسليم حاطوم ثم جرى إطلاق معظم السجناء لاحقاً بعد تدخّل عدد من مشايخ عقل الدروز مع حاطوم والسنة مع حافظ الأسد.

بعدها بأسابيع اجتمع العلماء المسلمون بقيادة الشيخ حسن حبنكة الميداني مرة أخرى، واتفقوا على عدم السكوت على هذه الإهانة الفاضحة، فانطلقت مظاهرات جديدة قوبلت بعنف شديد فأنهتها بسرعة، ثم انتقلت المظاهرات إلى جامع خالد بن الوليد في حمص، وأيضاً تم اقتحام المسجد وضرب المصلين واعتقال العشرات منهم.

ويبدو أن هذه السلوكيات العنفية قد ساهمت فعلاً في ضبط الشارع ومنعه من التحرك مجدداً، فقد أظهرت السلطات البعثية عنفاً غير متوقع، وتبين بأنها لا تقيم وزناً لأية محرمات، وتحدث بعض الشهود على اعتصامات الجامع الأموي كيف أن الجنود المهاجمين وكان جلّهم من العلويين يشتمون الله والسنّة ويتوعدون بدوسهم بالأقدام هم وقرآنهن ومشايخهم، وقد فعلوا يومها على الأقل، وهو ما جعل الناس يدركون أن واقعاً جديداً سيحكم رقابهم بالقوة، وكانت هذه البدايات المنطقية للبعض ليفكروا بالعمل المسلّح ضد النظام كما سنرى تالياً.

تفريغ الجيش ونكسة حزيران

هزم الجيش السوري شرّ هزيمة أمام الإسرائيليين في حزيران عام 1967، وسرت شائعات عن خيانات مقصودة واتفاقات تحت الطاولة، وجرى الحديث عن الانسحاب من القنيطرة دون قتال وبموجب أمر انسحاب من وزير الدفاع حافظ الأسد، كانت نقمة الناس كبيرة، وكانت التصفيات المتلاحقة التي قام بها حافظ الأسد وصلاح جديد لخيرة الضباط السوريين ووضع ضباط علويين مكانهم بالتنسيب المباشر ودون خضوعهم للتدريبات اللازمة، بالإضافة لكون الأخيرين منشغلون ببناء مملكتهم الطائفية والمالية ولا يمتلكون عقيدة قتالية إلا فيما يخص حماية الأسد وجديد وطائفتهما، كان لذلك أثر كبير في الهزيمة.

يقول الحوراني في مذكراته: “لقد استمر إصرار انقلابيي الثامن من آذار من العسكريين على إستراتيجية تصفية الجيش السوري إلى ما قبل حرب حزيران 1967م، بسبب التكالب على السلطة تحت مختلف الذرائع، وبحجة تبني حرب التحرير الشعبية، مما أضعف قدرة الجيش السوري على القتال”.

يضيف حوراني: “وهكذا نجد وزير خارجية النظام الديكتاتوري إبراهيم ماخوس يصرح قبل يوم واحد من حرب حزيران بحضور بعض الدبلوماسيين بأن الشعب العربي الكبير بما يملكه من طاقات وقوى مصمم على أن تكون نهاية الإمبريالية في المنطقة”.

أصبح موقف السلطة ضعيفاً جداً أمام الشعب، ولامتصاص بعض النقمة أفرج مجدداً عن مروان حديد الذي كان اعتقل عشية الانقلاب الثاني في العام 1966، كما تم تنفيذ حكم الإعدام بحق سليم حاطوم صبيحة 26 حزيران 1967 والذي كان قد عاد من الأردن من تلقاء نفسه عشية الحرب بدعوى أنه يريد القتال ضد
إسرائيل، ونظراً للكراهية الشديدة في أوساط السنة سيما في حماة ودمشق ضد حاطوم الذي انتهك كل الحرمات وأمعن وحشية في القضاء على التحركات الشعبية، فقد اعتقد الأسد أن ذلك سيمتص بعض النقمة الشعبية عليه باعتباره كان وزير الدفاع خلال هزيمة حزيران.

فعلياً لقد استخدم الأسد حاطوم في كل المهمات القذرة ودفعه إلى الواجهة دوماً، وبقي هو بالخلف يخطط ويراقب المشهد، فقد أرسله لينفذ إنقلاب 23 شباط ويحاصر أمين الحافظ ويعتقله، ثم قمع من خلاله ثورتي حماة ودمشق، وقد قام حاطوم بتنفيذ هذه الأدوار القذرة لصالح الأسد الذي تمكّن من ترسيخ سلطته، ثم سرعان ما ضحى بصديقه عندما احترقت ورقته تماماً، وقام بقتله بدم بارد، هكذا كان يرسم الأسد مستقبل حكمه.

الطليعة المقاتلة:

بعد خروجه من السجن وما شاهده وتعرض لك من تعذيب وحشي على أيدي ضباط وعناصر علويين، آمن مروان حديد أنه لا يمكن مخاطبة هذا النظام إلا بالسلاح، ففاتح قيادة الإخوان المسماة الدوليين (نظراً لعلاقاتهم الخارجية الواسعة) بضرورة التوجه للعمل المسلّح وطلب دعمهم، لكن قيادة الإخوان التي كانت على اطّلاع بتمكن العلويين من السلطة رفضت دعوات حديد، ودعته للتخلي عن نواياه العسكرية، لكن الأخير لم يرضَ ومضى إلى تشكيل الطليعة المقاتلة التي ستكون نواة الصراع والذريعة التي اتخذها الأسد للقضاء على الإسلاميين في سورية فيما بعد.

وبالفعل بدأ حديد منذ بداية السبعينات ومع تسلّم الأسد للسلطة بتشكيل التنظيم المسلّح للطليعة بشكل سرّي بعد أن توارى عن الأنظار، وكان حديد ينظر لمسألة استلام الأسد للسلطة في تشرين الاول 1970 (الحركة التصحيحية) من بعد طائفي محض، إذ لم يكن يعتبره وطائفته مسلمين بالأساس، فيما دستور سورية ينصّ على أن يكون الرئيس مسلماً، وزاده الأمر غضباً عندما أصدر موسى الصدر فتوى شرعية تعتبر العلويين شيعة وبالتالي مسلمين تلاه تأييد أحمد كفتارو السنّي للفتوى وهو ما اتخذه الأسد مبرراً دستورياً لاستلام رئاسة البلاد، لقد استشاط حديد غضباً وبدأ بمسارعة الخطى لتأسيس تنظيمه، وكان عنف حافظ الأسد ووحشيته المفرطة في تعامله مع الحراك الشعبي، ثم ترسيخه لثقافة وعقيدة البعث المناهضة للدين في الدولة، كان ذلك يعطي زخماً شعبياً لظهور تنظيم إسلامي مسلح في تلك المرحلة، ثم وقعت أحداث الدستور.

ففي العام 1973 عندما عزم الأسد على إصدار مرسوم جديد ودائم للبلاد يخلّده من ناحية ويثبت سلطاته من ناحية أخرى، استبعدت مسودة الدستور التي أرسلت للبرلمان أية إشارة للدين الاسلامي، حتى أنه لم يشترط أن يكون رئيس الدولة مسلماً بالأساس، ثارت ثائرة رجال الدين في حماة ودمشق وحلب وبقية المحافظات، وأرادوا أن يفعلوا شيئاً قبل إقراره، وحيث إن قمع نظام الأسد كان حديدياً فقد اتفق رجال دين من حماة ودمشق وحلب على إصدار بيان رافض للدستور وتوزيعه بشكل سري على الناس بقصد إطلاق جولة جديدة من الاحتجاجات، وبالفعل أصدروا بياناً بتوقيع عدد من رجال الدين الكبار وحاذروا أن يكون بينهم أخوانياً حتى لا يقلل ذل من شأن البيان ويجعله حزبياً، تم توزيع البيان سراً وبالبريد إلى البيوت في بعض المدن الرئيسية، ثم صارت لهجة نقد الدستور أعلى وصار الحديث عنه في المنابر، واشتعلت المظاهرات مجدداً في حماة وهجم المتظاهرون على مراكز الحزب والشبيبة وحطموا محلات بيع الخمور، وفي دمشق انتقد الشيخ حبنّكة الدستور علناً، ورغم الوحشية التي تعامل بها الأسد مع الاحتجاجات إلا أنه رضخ وحاول تهدئة الناس بإقرار إسلام رئيس الدولة، واعتبار الإسلام مصدراً لتشريع قانون الأحوال الشخصية، لكنه لم يرضَ بأكثر من ذلك وهو ما لم يعجب كثيرين، في هذه الأثناء كانت المخابرات السورية تعتقل عدداً من قادة الأخوان في المحافظات السورية، لكنها تحاشت الاقتراب منهم في دمشق حيث كان حافظ الأسد يحتاج مزيداً من الهدوء في العاصمة.

بدوره مروان حديد كان يعدّ العدة متنقلاً بين دمشق وحماه، وبالفعل اجتذب إليه عدداً كبيراً من المريدين المؤمنين بالعمل المسلّح، وكانت المخابرات السورية تبحث عنه وتراقبه واستطاعت أخيراً تجنيد أحد مخبريها في صفوفه وهو مصطفى جيرو، وفي صبيحة يوم 30 حزيران 1975 و في أحد المنازل بمنطقة العدوي بدمشق، وبعد أن خرج أحد طلابه ليأتيهم بمستلزمات البيت وحاجياته، قُرِعَ الباب وظنَّ مروان حديد أن طالبه قد عاد، وإذ به يجد نفسه مطوقاً بقوة كبيرة من رجال الأمن الذين حاولوا إلقاء القبض عليه بعد أن أطلقوا عليه الرصاص وأصابوه بكتفه، فخرج طلبته من الداخل وبدؤوا بتبادل إطلاق النار مع المهاجمين، واستمرت المواجهة لساعات قتل فيها أحد أعضاء الطليعة وتمكن عناصر الأمن من إلقاء القبض على البقية وبينهم زوجة حديد وزوجة أحد طلابه بالإضافة لمروان حديد نفسه.

ثارت حميّة من تبقوا من التنظيم وغضبوا غضباً شديداً، لكنهم تواروا عن الأنظار خشية أن يكون رفاقهم قد أفصحوا عنهم تحت التعذيب، وبعد استنفار لشهور بدؤوا بالاجتماع مجدداً لإطلاق عمليات التنظيم بشكل فعلي، وسموا أنفسهم في البداية مجموعة “مروان حديد” تيمناً بمؤسسها، ولم يخفوا عدائهم المطلق للنصيريين، وكتبوا كثيراً في ذلك، وهو ما كشفت عنه مذكرات أحد عناصر تنظيم الطليعة في دمشق.

أخذ أعضاء المجموعة بتنظيم صفوفهم بحذر، وقد تسلم قيادة التنظيم عبد الستار الزعيم في حماة الشيخ عرفان المدني مواليد دمشق، وكانت أولى عملياته اغتيال محمد غرة رئيس فرع مخابرات حماة وهو ابن خالة حافظ أسد في مطلع حزيران 1975، ثم وصلت أخبار مقتل مروان حديد تحت التعذيب في سجن المزة بدمشق صبيحة يوم 30 حزيران1975، وقرر التنظيم توسيع نطاق عملياته، والتي شملت في المرحلة الأولى اغتيال ضباط وأعضاء حزب وأساتذة جامعات يجمع بينهم أنهم جميعهم علويون، ثم تطور نشاط التنظيم ليشمل بالإضافة لحماة ودمشق حمص وحلب.

التصعيد:

نجحت الثورة الإسلامية في إيران بالإطاحة بحكم الشاه محمد رضا بهلوي، ورغم أن الخميني قائد الثورة لم يخفِ نيته تصدير الثورة الشيعية إلى الدول المجاورة، إلا أن نظام الأسد أعلن تأييده بقوة للثورة الإسلامية في مواجهة صدام حسين وفصيله المنشق عن البعث، وأصبح التلفزيون السوري يتغنى بالثورة التي أعادت مجد الإسلام في إيران فيما السلطات على الأرض تعتقل رجال الدين والمصلين من المساجد و الطلبة في الجامعات.

تنامت النقمة الشعبية على نظام الأسد، وظهر للناس لأول مرة أنه ليس مشروعاً طائفياً قُطْرِيّاً، بل امتداد لمشروع إقليمي شيعي كبير يهدف للإطاحة بالمسلمين، وظهر ذلك في كثير من أدبيات الطليعة المقاتلة والإخوان والتنظيمات الإسلامية الأخرى في تلك المرحلة، حينها قررت الطليعة المقاتلة توسيع نطاق عملياتها ضد (النصيريين) و شهد يوم 16 حزيران 1979 تطوراً نوعياً على صعيد الصدام بين النظام والطليعة ، حيث قام النقيب إبراهيم اليوسف في مدرسة المدفعية بحلب بقتل حوالي 60 طالباً من زملائه كان معظمهم من العلويين، وقد تبنت الطليعة حينها هذه العملية وقالت إنها رد على وحشية النظام النصيري في قمع الحراك الإسلامي والشعبي، وبرروا بأن مدرسة المدفعية تشير بحد ذاتها إلى حجم طائفية النظام، ففي دورة ذلك العام كان عدد طلاب المدرسة 270 طالباً كان بينهم فقط 30 من بقية الطوائف بمن فيهم السنة، بينما كان البقية جميعهم من العلويين.

ثم بدأت عمليات الطليعة تتوسع في المحافظات وشملت إلى الاستمرار في سياسة اغتيالات الشخصيات العلوية، استهداف مراكز الحزب والجيش، بدوره النظام صعّد أيضاً وباتجاه أكثر تاثيراً على المعارضين، حيث كان يعمد لمضايقة واعتقال أفراد عائلات المنتمين للطليعة والأخوان وأحياناً انتهاك أعراضهم، وهذا أمر يغيظ جداً المتدينين، ويبدو أن النظام كان يقصد بذلك توريط الطليعة أكثر وأكثر لتقوم بعملية انتقام تسيء لحاضنتها الشعبية، وكذلك تمهيداً لشن هجوم ماحق عليهم، وقد نجحت سياسة الأسد هذه التي أملاها عليه الروس كما يشير أيمن شربجي في مذكراته، وأخذت بعض عمليات الطليعة طابعاً عبثياً كإحراق مؤسسات التجزئة ومكاتب شركة الطيران السورية، وكان المبرر دوماً أن هذه أدوات النصيرية في قتال المسلمين، ثم تمادى الأمر للقيام ببعض عملياتهم في الأسواق وسط الزحام، رغم إدراكهم للرد الوحشي للنظام، وبالفعل سقط بعض المدنيين في تبادل لإطلاق الرصاص كما حدث في عملية شارع مدحت باشا عندما هاجمت الطليعة سيارتين للأمن، وكذلك سقط مدنيون أكثر في عملية الأزبكية.

سياسة تمكين العلويين:

في هذه الأثناء كان حافظ ما يزال يبني قاعدته العلوية الموالية المتينة بالاستعانة بمقربين له من الطائفة، كأخيه رفعت الأسد قائد سرايا الدفاع، وعلي حيدر قائد القوات الخاصة، وعلي دوبا رئيس المخابرات العسكرية، وعلي الصالح قائد الدفاع الجـوي، و كان هؤلاء هم اللجنة العسكرية المسؤولة عن تنقلات الضباط، وقد عُيّن بعض الضباط السنة كنوع من الديكور للتغطية على التوجه الطائفي للنظام، أمثال وزير الدفاع مصطفى طلاس السنّي، ورئيس الأركان يوسف شكور المسيحي، و اللواء ناجي جميل في قيادة سلاح الجو، عُيّن هؤلاء تحديداً لتبديد الانطباع أمام الغرب حول سيطرة العلويين، في الحقيقة لقد قمع الأسد حتى العلويين ممن رفضوا الانصياع له، وممن كانوا يظهرون انتماءات قبلية لبعض خصومه السابقين كصلاح جديد ومحمد عمران، حتى رجال الدين العلويين تم تطويعهم و تسخيرهم بالكامل لخدمة صورته ورمزيته، و تم تأسيس العديد من أجهزة المخابرات والأمن التي استوعبت آلافاً من العلويين المعدمين، وأحدثت آلاف الوظائف لأبنائهم في أجهزة الدولة الأخرى، وبعد أن كان العلوي شخصية دونية في المجتمع أصبح يحظى باحترام ويخشاه الناس نظراً لسلطته التي ليس لها حدود، وقد أحدث ذلك بالفعل نقلة نوعية في حياة العلويين لم يكونوا ليحلموا بها، و ساهم بعض رجال الدين في الطائفة بتكريس الأسد كرمز ديني، ولم يلبث أن اتخذه بعض كرب حقيقي، مستعيناً ببعض الإشارات والخرافات الدينية التي تم تطويعها لخدمة هذه الفكرة.

كان مخطط النظام حديدياً محكماً للسيطرة الطائفية، فقد كان يأتي بالمتطوعين العلويين من القرى النائية والمعدمة، ويطوعهم في سلكي الجيش والمخابرات دون أن يتمتعوا بأدنى ثقافة، بل كان حريصاً على أن لا يحصلوا على ثقافة عالية، لذلك كان يتم الاكتفاء بشهادة الإعدادية وأحياناً الابتدائية لتطويعهم في أجهزة المخابرات، وكان هؤلاء المهاجرون الجدد يأتون إلى المدن بكل ما يحملوه في عقولهم من حقد طائفي وطبقي، وكانت طبيعة عملهم الأمنية والعسكرية وسلطتهم المطلقة تعطيهم فرصة لإطلاق نوازعهم وتفريغ أحقادهم، أضف إلى ذلك أن طبيعة المواجهات مع التنظيمات الإسلامية وربط البعث لها بخلفيات صهيونية وأمريكية ساهم في إحكام السيطرة على عقول أفراد المخابرات والجيش، وأصبح تحريكهم لا يتطلّب سوى تغذية هذه الأفكار في عقولهم.

وللابقاء على هذه المنظومة العقائدية وعزلها عن التأثر بالمجتمع السني المدني، تم بناء ضواحي ومجمعات سكنية محروسة ومحاطة بالأسوار ليسكن بها عناصر الأمن والجيش ضمن كانتونات طائفية منفصلة، وتم توزيع هذه المستوطنات بطريقة مدروسة لتحيط بالمدن الرئيسة وتحكم السيطرة عليها، ففي دمشق مثلاً بنيت ضواحي الضباط والعناصر العلويين عند مدخلي المدينة الجنوبي في المعضمية و المزة، وعلى طريق اتستراد درعا الدولي، وشمالاً في حرستا وبرزة وشرقاً في جرمانا وغرباً في دمّر، وتكرر الأمر في محافظات أخرى سيما حمص واللاذقية، في اللاذقية تحديداً تم تغيير ديموغرافية المدينة بالكامل، فقد استولى العلويون على كثير من المناطق الساحلية التي يسكنها السنة والمسيحيون.
بالتوازي مع تمكين العلويين، كان يجري تشتيت وتقزيم البيئة السنية من ثقلها الاقتصادي والاجتماعي، وكذلك عزل مثقفيها وتشتيتهم، كان ذلك يتم بكل الوسائل المتاحة، فمن لم يعتقل أو يقتل بحجة انتمائه للاخوان، تم تضييق الخناق عليه واستفزازه لاجباره على الخضوع أو الهروب خارج البلاد، وقد تمادى رفعت الأسد قائد سرايا الدفاع كثيراً بذلك، ففي الخامس من تشرين الأول عام 1981 أطلق المظليين والمظليات وبحماية من سراياه بحملة لنزع الحجابات عن النسوة في شوارع دمشق، وتمت أهانة المقدسات الإسلامية بكل الوسائل، وكانت تصرفات السرايا وسواهم من قطع الجيش مغرقة في الطائفية والحقد ضد الغالبية السنية، وكان عناصر سرايا الدفاع يهتفون خلال حملاتهم “لبيك حافظ لبيك…. لبيك لا شريك لك لبيك” وكانوا يجبرون الناس على ترديد مثل هذه الشعارات في الجيش وأجهزة الدولة.

في الحقيقة لقد تعامل العلويين مع السنّة على أنهم جميعاً أخوان أو متعاطفين معهم، فمع الاعتقالات المنظمة التي كانت تخططها قيادات أجهزة المخابرات لتفريغ الطبقة المثقفة السنية بحجة انتمائها للأخوان، وكان ينفذها العناصر المتطوعين الجهّل ظن العلويون أن جميع السنّة متورطون بالفعل ، وأنه يجب تطويعهم وإقصاؤهم بأية وسيلة ممكنة، كانت هذه أداة فعالة استخدمها الأسد لصناعة خومه.

على صعيد آخر كانت هناك إجراءات أخرى تتخذ على الأرض بدعوى (التخلّص من الرجعية الدينية)، فبينما كان يتم إقفال المساجد ومنع الصلاة في وحدات الجيش والأماكن العامة وإجبار الطلاب على الاختلاط ذكوراً وإناثاً في المدارس والسماح لدور السينما ببث أفلام تتضمن مشاهد جنسية، أسس جميل الأسد شقيق حافظ الآخر “جمعية المرتضى” وهي جمعية طائفية بكل ما تعني الكلمة، وتهدف كما أعلن جميل ذاته إلى تنصير أبناء السنة في الجزيرة وبادية حمص وحماة بدعوى أن فلاحي هذه المناطق كانوا نصيريين وأجبرتـهم السلطات العثمانية على اعتناق المذهب السني.

لقد ضاق الخناق على الناس بشكل كامل، وأصبحت حياتهم كالجحيم، وكان الأسد يعد العدّة لكتابة السيناريو الأخير في تاريخ الحراك الشعبي السوري، وفي شباط 1982 اكتسح الجيش حماه بعد أن استدرج أفراداً الطليعة المقاتلة للتمترس فيها، وارتكب إحدى أكبر المجازر بالقرن العشرين، وليبدأ بعدها فصل جديد في بناء جمهورية الخوف العلوية.

نتابع في الجزء الثالث مرحلة ما بعد القضاء على الاسلام السياسي، وتمتين جذور نظام الأسد في سورية، وصولاً إلى تنصيب بشار الأسد رئيساً للبلاد…

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *