الثورة السورية والصراع السنّي – العلوي

بقلم :اياد شربجي

الجزء الأول : العلويون وسيناريو الصعود

قد لا يختلف اثنان اليوم على أن مسار الثورة السورية قد انحرف بقوة عما بدأ به في آذار 2011 سواء من ناحية الشكل أو المضمون؛ شكلاً تحوّل من مظاهرات سلمية تحمل الورود وأغصان الزيتون ويشارك بها الأطفال والنساء والعجائز والطلبة بما يشبه كرنفالات احتفالية، إلى مواجهات عسكرية عنفية مدمرة يخوضها الكبار ويحتفلون فيها بقتل الشبيحة والشيعة، مضموناً تراجعت دعوات التحرر وإسقاط الديكتاتور بهدف الوصول بسوريا إلى دولة حرة عصرية تضعها على خارطة الأمم المتقدمة، أمام تقدم لدعوات مسكونة بالتاريخ وأمجاد السلف، وتنادي بإقامة دولة الخلافة الإسلامية وإسقاط الأسد النصيري.

السؤال المركزي هنا: هل انعراج مسار الثورة السورية هذا هو نتيجة حتمية لطبيعة المجتمع السوري المنحدر في غالبيته من بيئة محافظة تقليدية تعرضت للقمع والقهر طيلة عقود؟، أم أنه حصيلة مسار وسياق مفتعل وطارئ رُسم له بعمد؟

للوصول إلى جواب واقعي منعزل عن أحكامنا المسبقة، يجب أن لا نكتفي بمعاينة مرحلة الثورة وأحداثها ذات الثلاث السنوات بمعزل عن قرابة 50 سنة عاشتها البلاد تحت حكم عائلة الأسد، و حفرت فيها خروقات أفقية وشاقولية عميقة داخل المجتمع السوري غيرت فيه منظومة القيم والقناعات بشكل جمعي، بل يجدر بنا الرجوع إلى ما قبل ذلك وتحديداً إلى بدايات استيقاظ المارد الطائفي الذي بات يحرّك الأحداث اليوم.

سأحاول في هذا الملف رصد البعد الطائفي للصراع في سورية، وكيف ولد وتربّى حتى استيقظ بهذا الشكل المدمّر تحت ظل نظام عائلة الأسد، وذلك عبر عدة أجزاء متتالية، سأقوم فيها بإعادة رسم مسار الأحداث ابتداءً برصد بدايات تاريخ الصراع الطائفي بين السنة والعلويين ووصول الأسد المؤسس إلى سدّة الحكم وتأسيسه لنظام طائفي بلبوس علماني قومي، مروراً بتقلّد الأسد الابن للسلطة ومتابعته على نهج أبيه، انتهاء بانطلاق الثورة السورية في آذار 2011 وما وصلت إليه الأمور في يومنا هذا، وسأربط ما استطعت من الأحداث ببعضها وبخلفياتها وإجراء التقاطعات اللازمة في محاولة لفهم السياق كاملاً.

ورغم أن منهج هذا الملف سيكون مغرقاً بالعبارات والتوصيفات الطائفية ، وسيحملني ككاتب تبعات لا أريدها، إلا أنه لا بديل عن تسليط الضوء على الحقائق، فمهما حاولنا المواربة لا يمكننا فصل حدث الثورة الحالي عن بعده الطائفي، والهروب والتعمية على هذه الحقائق لن تساعدنا على الوصول إلى نتائج حقيقية، وهنا أرجو أن تكون أية محاججة معاكسة مبنية على معلومات مثبته لا أمنيات واتهامات بالنوايا، آخذين بالاعتبار أن التعابير الاسمية الواردة في متن الملف وصفية وليست تخصيصية، فعندما أقول (علويين أو سنّة) فأنا لا أشملهم جميعاً ككتلة واحدة، بل أتحدث عن صفتهم الجمعية.
الجدير ذكره أيضاً أن مهمة بهذا الحجم تتطلب عملاً بحثياً كبيراً لن يتسع له ملف صحفي، لذا فإنني سأمرّ بالإشارة على بعض المفاصل الرئيسية دون الخوض في كثير من الفاصيل.


* العقل العلوي الجمعي:

بداية كي نستطيع تفسير ما يراه البعض استماتة كثيرين من الطائفة العلوية وحتى المعدمين منهم في الدفاع عن نظام الأسد وتقديمهم أولادهم بسخاء قرباناً له ولبقائه، وكذلك فهم الظواهر العنفية الغريبة التي برزت خلال الثورة السورية (امتهان المقدسات وتدميرها – حفلات التعذيب اللاآدمي – ذبح الأطفال بالسكاكين) لا بد من العودة إلى الخلفيات التاريخية للموضوع لرصد المسببات والدوافع، و معرفة كيف تشكّلت الشخصية العلوية التقليدية ومنظومتها القيمية، وكيف أثّر ذلك بمجرى وتطور سير الأحداث على الأرض.

إن فهم كيفية تكوين العقل العلوي الجمعي سوف يجعلنا على دراية بطريقة عمل هذه الماكينة، وبالتالي توقّع الكثير من سلوكياتها وفهم مآلاتها، ذلك أن كل فعل آدمي ينتج حتماً عن تفاعل عدة مؤثرات؛ عقلية وعاطفية و فيزيولوجية، وهي مجتمعة من تقرر شكل السلوك وكيفيته، ولا يمكن بحال من الأحوال أن نقول مثلاً أن ثمة مجموعة بشرية تستمتع بتعذيب الآدميين وسلخ جلودهم لمجرد رغبتها بذلك، قد يحصل هذا على نطاق الأفراد والمجموعات الضيقة ويكون بمثابة انعكاس لتشوه نفسي مرضي، أما على مستوى الجماعات الكبيرة فالأمر متعلّق بمنظومة متكاملة تنتج مثل هكذا أفعال ناجزة عن الطبيعة البشرية.

لذلك ليس عبثاً كل هذا العنف الذي شاهدناه منذ بداية الثورة وما نزال من قبل الشبيحة وعناصر الأمن، وليس مشهداً عابراً تلذذهم بالقتل والذبح وتقطيع الأوصال وسط ضحكات مجلجلة هستيرية، وهتافات إيمانية تنادي الحسين وعلي.

لا شيء مجاني ويقع بمحض الصدفة في هذا المشهد، فكيف ولمَ يحصل ذلك، هذا ما يجب علينا أن نفهمه ضمن سياقه التاريخي.


من هم العلويون؟

تاريخياً ينسب العلويون أنفسهم إلى الشيعة الجعفرية الاثني عشرية، وهم فعلياً يتفقون مع الشيعة عامة بالرواية التاريخية لمرحلة الرسول وما بعده، ولكنهم يختلفون عنهم بالنظريات الدينية والتفاسير القرآنية وبسند بعض الرجالات، ولعل التسمية الأكثر دقّة للعلويين هي (النصيرية) نسبة إلى محمد بن نصير النميري، والذي يعتقد العلويون أنه “باب” ورسول الإمام الثاني عشر محمد المهدي الذي اختفى و غاب في “الغيبة الصغرى” وأن ابن نصير هو سفيره الوحيد الذي ينقل عنه تعاليمه الفقهية والدينية ريثما يعود ليقاتل في نهاية الزمان، بينما يعتقد عموم الشيعة الاثني عشرية بأن سفراء الإمام المهدي هم أربعة ليس أحدهم محمد بن نصير، بل إن معظمهم يشككون بابن نصير ويعتبرونه مدعياً منحرفاً، ومنهم من يكفّره وأتباعه جملة وتفصيلاً ويتهمونهم بالانحلال والإلحاد، ونرى ذلك في كثير من أدبيات الاثني عشرية، ومنها ما قاله الطبرسي المتوفّى عام 620 للهجرة في كتابه (الاحتجاج، توقيعات الناحية المقدّسة):

“كان محمد بن نصير النميرى من أصحاب أبي محمد الحسن عليه السلام، فلمّا توفّي ادّعى البابية لصاحب الزمان عليه السلام، ففضحه اللّه بما ظهر منه من الإلحاد والغلوّ والتناسخ، وكان يدّعي أنه رسول نبيّ أرسله علي بن محمد عليه السلام، ويقول بالإباحة للمحارم”

ونتيجة باطنية معتقداتهم وسريّتها، وعدم التزامهم المشاعر والطقوس الإسلامية وعدم تحريمهم لمحرماتها، فقد كفّر السنّة العلويين بدورهم، وهنا تبرز الفتوى الشهيرة لابن تيمية الذي قال فيهم:

“هؤلاء القوم المسمون بالنصيرية هم وسائر أصناف القرامطة الباطنية أكفر من اليهود والنصارى، بل وأكفر من كثير من المشركين وضررهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم أعظم من ضرر الكفار المحاربين مثل كفار التتار والفرنج وغيرهم” (ملاحظة ضمن هذا السياق، ليس صدفة عندما قال ابراهيم طالب على شاشة التلفزيون السوري عام 2011 ذات العبارة بعد أن ألبسها للمتظاهرين، سيما وأن الأخير ذكر فتوى ابن تيمية ذاتها في لقاء سابق، وهذا ما سيعطينا دلالة على عمق تأثير ثقافة التظلّم والمناكفة في العقلية العلوية التقليدية)

* الصدام الأول

رغم أن كلاً من الشيعة والسنّة يرفضون الاعتراف بهم وإن بنسبة متفاوتة، فقد كان العلويون أقرب دوماً و أكثر التصاقاً بالشيعة، بل ويعتبرون أنفسهم عاشوا مظلمتهم في العصرين الأموي والعباسي، وأنهم شاركوهم ثوراتهم كثورة القرامطة وثورة النفس الزكية وغيرها، وقد دعم شعورهم ذلك دفعهم لثمن الصدام الدموي بين الدولة العثمانية مع نظيرتها الصفوية في إيران تحت حكم الشاه (اسماعيل الصفوي ) ، حيث اقتحمت جيوش السلطان (سليم الأول) سوريا عام 1515 واستباحت حلب ومعرة النعمان توابعهما أسبوعاً كاملاً قتلت خلاله آلافاً من العلويين الشيعة الحمدانيين بسبب تأييدهم للصفويين، فيما أرغمت الباقين على الهروب و الانعزال في الجبال.

من يومها وتلك المذابح حاضرة في الذاكرة العلوية، وهي تأتي بحسب العقلية ذات الجذور الشيعية امتداداً واستمراراً لواقعة الطف بين الحسين ويزيد، وقد أصبحت هذه المجازر سبباً ومبرراً دائماً لشكّ العلويين بالسنّة والتخوّف المستمر منهم وعدم استئمانهم، دعم ذلك نظرة أبناء سنّة الساحل السوري الازدرائية والدونية نحوهم، فاستوطن العلويون الجبال واعتزلوا بعيداً عن المدن الساحلية، و في تلك البيئة الجغرافية القاسية، ونتيجة العزلة والجهل والرغبة بالانتقام بدأت تطبخ منظومة عصبية كونت ثقافة اجتماعية حاقدة تجاه السنة.

وبسبب فقرهم المدقع وشعورهم بفوقية أهل المدن، شكل الشباب العلويون العديد من العصابات و التي كانت تقوم بعمليات سطو وجرائم انتقام في مناطق الساحل، وهو ما ساهم بزيادة الشرخ والشقاق، وجعلت السنة يرسمون صورة وحشية وغير آدمية للعلويين.

وربما تعكس هذه الصورة ما ذكره ليون كاهون في كتابه (رحلة إلى جبال العلويين عام 1878) عندما قال:
“عندما انطلقت نحو الجبال، لم يكن هناك شخص واحد في تلك المدينة (أي اللاذقية) إلا وكان مقتنعاً بأنني ذاهب إلى موت محقق، ذلك أنه لم يغامر أي من سكان المدينة بالذهاب إلى مناطق العلويين فقد كانت تمثل بالنسبة إليهم أرضاً مجهولة تماماً”.

وبحسب محمد كرد علي في كتابه (خطط الشام) ، فقد “كانت كلمة النصيري في عهد العثمانيين أشنع كلمات التحقير” و لا يبتعد يوسف الحكيم الذي تدرج في مناصب القضاء من أيام العثمانيين وحتى عهد الاستقلال عن الفرنسيين عن هذا الرأي، فيقول: “كان دين الدولة العثمانية الإسلام على المذهب السني، وكان العلويون ينظر لهم كغير كمسلمين”
وبالفعل ظل العلويون مضطهدين خلال العهد العثماني الذي استمر أربعة قرون، فمنعت عنهم الوظائف الحكومية، حتى الصغيرة منها التي لا تتطلب شيئاً من العلم ، وكانوا عرضة للامتهان من رجال الحكم و أهل المدن.


* الدولة العلوية الأولى والحلم الضائع

استمر الأمر كذلك بعد خروج العثمانيين في سورية إثر الثورة العربية الكبرى عام 1916 ثم وقوعها تحدت الانتداب الفرنسي، فلم يحظ العلويون بأي احترام اجتماعي نظراً لتقوقعهم وفقرهم و توجّسهم من بقية السوريين سيما في الساحل، وقد استغل الفرنسيون ذلك وتحالفوا مع عدد من الزعماء المتشددين الذين ساهموا بمؤلفاتهم ودعاويهم بمزيد من التشويه في عقيدة العلويين واستعدائهم للسُنة أمثال سليمان المرشد زعيم جماعة (الفيسية) التأليهية، وسليمان الميدي زعيم جماعة (السنجرية)، وتم تطويع كثير من الشباب العلويين لخدمة المحتلين، وانخرط أبناؤهم في صفوف ومؤسسات الجيش الفرنسي المحلي، وتطبيقاً لسياسة (فرّق تسد) أعطت فرنسا العلويين حكماً ذاتياً عام 1920 تحت اسم “دولة جبل العلويين” استمرت حتى العام 1936، وكان هذا أول نهوض حقيقي في تاريخ العلويين الذي كانوا فيه محكومين دوماً.
قبيل الاستقلال عن المحتل الفرنسي، انقسم وجهاء الطائفة بين مؤيد للوحدة مع سوريا الداخلية، وبين معارض لها، و بعث بعض وجهاء الطائفة ببرقية للحكومة الفرنسية يطالبونها فيها بعدم الانسحاب من سوريا خوفاً من تعرضهم للاضطهاد السني، و كان من أبرز الموقعين على هذه البرقية سليمان الأسعد، (الذي ترجم خطأ سليمان الأسد جد حافظ الأسد) و سليمان المرشد الزعيم الروحي للمرشدية، وجاء في الوثيقة ما نصه :

– إن الشعب العلوي الذي حافظ على استقلاله يختلف بمعتقداته الدينية وعاداته وتاريخه عن الشعب المسلم السني.

– إن الشعب العلوي يرفض أن يلحق بسوريا المسلمة، لأن الدين الإسلامي يعتبر دين الدولة الرسمي، والشعب العلوي، بالنسبة إلى الدين الإسلامي يُعتبر كافرا. لذا نلفت نظركم إلى ما ينتظر العلويين من مصير مخيف وفظيع في حالة إرغامهم على الالتحاق بسوريا عندما تتخلص من مراقبة الانتداب ويصبح بإمكانها أن تطبق القوانين والأنظمة المستمدة من دينها.

– إن منح سوريا استقلالها يعني سيطرة بعض العائلات المسلمة على الشعب العلوي في كيليكيا واسكندرون وجبال النصيرية.

– إن روح الحقد والتعصب التي غرزت جذورها في صدر المسلمين العرب نحو كل ما هو غير مسلم هي روح يغذيها الدين الإسلامي على الدوام. فليس هناك أمل في أن تتبدل الوضعية. لذلك فان الأقليات في سوريا تصبح في حالة إلغاء الانتداب معرضة لخطر الموت والفناء، بغض النظر عن كون هذا الإلغاء يقضي على حرية الفكر والمعتقد، وها إننا نلمس اليوم كيف أن مواطني دمشق المسلمين يرغمون اليهود القاطنين بين ظهرانيهم على توقيع وثيقة يتعهدون بها بعدم إرسال المواد الغذائية إلى إخوانهم اليهود المنكوبين في فلسطين.

لكن لم يكن للانفصاليين ما أرادوا، وخرجت فرنسا من سورية في النهاية، وبقي العلويون بالنسبة لمعظم السنّة في المنطقة مجرد خونة مع استثناءات لبعض الشخصيات النضالية والمثقفة التي برزت من الطائفة كصالح العلي وبدوي الجبل وغيرهم، والحقيقة أن سنّة أهل المدن، سيما اللاذقية وجبلة وحماه أمعنوا في إذلال العلويين، وهذا ما أشار إليه نيكولاس فان دام في كتابه الصراع على السلطة في سورية:

” ﻜﺎﻥ ﺼﻐﺎﺭ الفلاحين من ﻤﺯﺍﺭﻋﻲ ﺍﻟﺘﺒﻎ ﻤﻀﻁﺭﻴﻥ ﻟﺒﻴﻊ ﻤﺤﺼﻭﻟﻬﻡ ﻟﻠﺴﻤﺎﺴﺭﺓ ﻤﻥ ﺍﻟﺴﻨﻴﻴﻥ ﺍﻟﻘﺎﻁﻨﻴﻥ في ﺍﻟﺴﻭﺍﺤﻝ ﻤﻘﺎﺒﻝ ﻤﺒﺎﻟﻎ ﻀﺌﻴﻠﺔ، ﻭﻫﻨﺎﻙ ﻅﺎﻫﺭﺓ ﺠﺩﻴﺭﺓ ﺒﺎﻟﻤﻼﺤﻅﺔ ﺘﺩﻝ ﻋﻠﻰ ﺸﺩﺓ ﻓﻘﺭ ﺍﻟﻌﻠﻭﻴﻴﻥ، ألا وهي ﺃﻥ ﺃﻓﻘﺭ العائلات ﻜﺎﻨﺕ ﺘﻀﻁﺭ ﻟﻠﺘﻌﺎﻗﺩ ﻋﻠﻰ ﺘﺸﻐﻴﻝ ﺒﻨﺎﺘﻬﺎ ﻜﺨﺎﺩﻤﺎﺕ ﻓﻲ ﻤﻨﺎﺯﻝ العائلات ﺍﻟﺜﺭﻴﺔ، ﻭﻤﻌﻅﻤﻬﺎ ﻤﻥ ﺍﻟﺴﻨﻴﻴﻥ في المدن ﺍﻟﺫﻴﻥ ﻜﺎﻨﻭﺍ ﻴﻨﻅﺭﻭﻥ ﻟﻠﻔﻼﺤﻴﻥ ﺍﻟﻌﻠﻭﻴﻴﻥ ﺒاﺯﺩﺭﺍﺀ”.

* بداية الصعود

بعد تأسيسه في العام 1947 لم يستقطب حزب البعث عدداً ملحوظاً من المنتسبين من أهالي المدن السنية الذين تجمعهم روابط بينية؛ دينية وعائلية واجتماعية تقليدية أكثر منها حزبية أيدلوجية، لكن الحزب كان حلاً وفرصة لكثيرين من الأقليات ممن كانوا يجدون في هدفه القومي العروبي رابطة و قوة جمعية تزيد كثرتهم وتأثيرهم أمام المارد السني، ولأن أهداف الحزب كانت واضحة ومعلنة في سعيه للوصول إلى السلطة، فقد دفعت كثير من العائلات العلوية المعدمة أبناءها للانتساب للحزب الذي بدأ يتسلل إلى الجيش مصدر القوة والهيبة في البلاد، وقد لاحظ أكرم الحوراني وعبد الكريم النحلاوي ذلك وبدؤوا ينبهون من مخطط العلويين ويستعدونهم على الملأ ويحرضون ضدّهم، وهو ما ساهم بمزيد من التكتّل في صفوف المجندين والضباط العلويين وزيادة التنسيق فيما بينهم.

في 8 آذار 1963 بدأت النكسة الحقيقية الكبرى للحياة الديمقراطية في سورية عندما انقلب حزب البعث على الرئيس ناظم القدسي والحكومة المنتخبة برئاسة خالد العظم، و كان من نتائج (الثورة)، إلغاء التعددية السياسية والاقتصاديّة وقيام دولة الحزب الواحد في سوريا وإنفاذ قانون الطوارئ منذ عام 1963، فيما تبنّى الاتحاد السوفياتي هذا الوليد الاشتراكي الجديد، وتولّى إقناع المجتمع الدولي الاعتراف به.

كانت اللجنة العسكرية التي قامت بالانقلاب مؤلفة من 14 عضواً ثلثهم من العلويين ﻫﻡ عثمان كنعان، وسليمان حداد، وحافظ الاسد، وﻤﺤﻤﺩ ﻋﻤﺭﺍﻥ، وصلاح جديد، وكان الثلاثة الأخيرون هم ﺍﻟﻘﻴﺎﺩﺓ ﺍﻟﻌﻠﻴﺎ ﻟﻠﺠﻨﺔ ﺍﻟﻌﺴﻜﺭﻴﺔ ذاتها.

وبدهاء من الأسد وتحالفاته المتشعبّة التي أقامها داخل اللجنة العسكرية وخارجها، فقد قامت اللجنة العسكرية بترفيعه في العام 1964 من رتبة رائد إلى لواء مباشرة، ثم عُين قائداً لسلاح الجو فوزيراً للدفاع في العام 1966.

خلال تلك الفترة وما تلاها، ووسط استغفال حيناً، وتآمر حيناً، وتهديد واعتقال حينا آخر، بدأ المؤثرون في اللجنة العسكرية سيما حافظ الأسد ومحمد عمران بتسريح الضباط السنة وخصوصاً الدمشقيين الذين كانوا بلغوا مجد قوتهم تحت قيادة المقدم عبد الكريم نحلاوي قبيل الانقلاب، وبدأ ملء الفراغ الناشئ بمنتسبي حزب البعث من الأقليات والمعدمين وسيما العلويين منهم.

وهذا ما يشير له الكاتب نيكولاس فان دام في كتابه:

” حيث ﺘﻡ ﺍﺴﺘﺒﺩﺍﻝ ﻨﺤﻭ ﻨﺼﻑ ﻋﺩﺩ ﺍﻟﻀﺒﺎﻁ ﺍﻟﻤسرّحين ﻭﺍﻟﺒﺎﻟﻎ عددهم حوالي 700 بعلويين “
و يتحدث ﺍﻟﻠﻭﺍﺀ عبد الكريم زهر الدين القائد الأعلى للقوات المسلحة السورية إبّان الانقلاب عن حملة التطهير الممنهجة التي تمت لمعظم ﻭﺤﺩﺍﺕ ﺍﻟﺠﻴﺵ ﺤﻭﻝ ﺩﻤﺸﻕ من قبل اللجنة العسكرية بتحالف رئيسي بين الأسد وعمران وجديد ، يقول زهر الدين في كتابه (ﻤﺫﻜﺭﺍﺘﻲ ﻋﻥ ﻓﺘﺭﺓ الاﻨﻔﺼﺎﻝ) :
“ﺘﻡ ﺍﺴﺘﺒﺩﺍل معظم الضباط الدمشقيين ﺒآخرين ﻻ ﻴﻀﻤﺭﻭﻥ لدمشق ﻭﺃﻫﻠﻬﺎ إلا ﺍﻟﺤﻘﺩ ﻭﺍﻟﻜﺭﺍﻫﻴﺔ”

* إبعاد الخصوم

على أن تجنيد العلويين في الجيش لم يكن يتم فقط على أسس طائفية، بل حتى قبلية وعائلية، و كان محمد عمران الأشدّ تطرفاً وأكثر أعضاء اللجنة العسكرية تجنيداً لأقاربه من الطائفة، وهو ما كوّن حولة كتلة تنتمي له بقوة، لاحظ حافظ الأسد ذلك وانتظر الفرصة المناسبة، ثم حدث أن قال عمران في اجتماع حزبي: “ﺇﻥ ﺍﻟﻔﺎﻁﻤﻴﺔ ﻴﺠﺏ ﺃﻥ ﺘﺄﺨﺫ ﺩﻭﺭﻫﺎ من جديد” في إشارة إلى العلويين، فاستغل الأسد هذا الخطأ باعتباره يناقض عقيدة حزب البعث العلمانية القومية، فضلاً عن أنه أثار حمية وغضب بقية أعضاء اللجنة العسكرية من غير العلويين، فتحالف مع الدرزي سليم حاطوم والسني أمين الحافظ والعلوي صلاح جديد، وطردوا عمران من اللجنة العسكرية، لتبدأ بعدها سلسلة لا تنتهي قادها حافظ بكل احترافية للتخلّص من رفاقه واحداً تلو الآخر بدءاً من أمين الحافظ مروراً بسليم حاطوم، ولتنتهي بمنافسه الأخير والأكثر صلابة صلاح جديد، والذي كان يتمتع ببعض الاحترام بسبب عقيدته القومية الحقيقية.

فبعد هزيمة حرب 1967 انتقد جديد أداء وزير الدفاع حافظ الأسد خلال الحرب وقراره المشبوه بسحب الجيش وإعلان سقوط القنيطرة بيد إسرائيل قبل أن يحدث ذلك فعليًا، وتفاقمت هذه الخلافات مع توجه صلاح جديد نحو خوض حرب طويلة مع إسرائيل، بينما عارض الأسد ذلك، ووصلت الخلافات بينهما إلى أوجها خلال أحداث أيلول الأسود في الأردن عام 1970، حيث أرسل صلاح جديد الجيش السوري لدعم الفلسطينيين، لكن الأسد امتنع عن تقديم التغطية الجوية للجيش وتسبب في إفشال مهمته، وعلى إثر ذلك قام جديد بعقد اجتماع للقيادة القطرية لحزب البعث والتي قررت بالإجماع إقالة الاسد مع رئيس الأركان مصطفى طلاس من منصبيهما، لكن الأسد لم ينصع للقرار، و بحركة عسكرية خاطفة بمساعدة بعض القطع الموالية له في الجيش تمكّن الأسد من الانقلاب على رفاقه السابقين وعلى رئيس الجمهورية في حينه نور الدين الأتاسي، ثم اعتقلهم وسجنهم وشتتهم فيما يعرف بالحركة التصحيحية، ليصبح حافظ الأسد الزعيم العلوي الوحيد ومركز استقطاب الطائفة، وفي 21 من نفس الشهر عيّن الأسد نفسه رئيساً للوزراء بالإضافة لاحتفاظه بمنصب وزير الدفاع، ثم ليحصل على صلاحيات رئيس الجمهورية في 22 شباط 1971 و يثبت في 12 آذار 1971 رئيساً للجمهورية العربية السورية لمدة سبع سنوات جرى تجديدها خمس مرات لاحقاً، وليكون الأسد بذلك أول رئيس علوي في التاريخ السوري.

* العلويون في دمشق

لم يصل حافظ الأسد إلى سدة السلطة في قلب دمشق إلا وكان قد رتّب الأجواء جيداً من حوله، وكعسكري سابق يدرك أن ميزان القوة الحقيقي يقع في أيدي الجيش، فقد وضع العلويين في المفاصل الأكثر تأثيراً في الجيش، مع الحفاظ على مناصب صورية لبعض السنة كرئيس الأركان مصطفى طلاس، فيما وضع معظم السلطة الحزبية والمدنية والاقتصادية بأيدي السنّة محققاً بذلك عدة أهداف مرّة واحدة:

– استرضاء الغالبية السنية وإشعارها بأن الأسد يقود نظام حكمه وطني وغير طائفي
– نيل التزكية والتغطية الدولية
– الاستفادة من القاعدة السنية الاقتصادية القوية لدعم نظام حكمه.

ورغم أن هذا السيناريو نجح في السنوات الأولى خلال حكم الأسد، إلا أنه لم يعمّر طويلاً، فقد بدأت مظاهر(علونة) الدولة تزداد وضوحاً، وتحكم حزب البعث بمفاصل كثيرة وتمتع بامتيازات غير قانونية، فيما كان الجيش يفقد هويته الوطنية لصالح الأسد وحزبه ويمارس سلطته لخدمتهم، و بدأ السوريون يلحظون أن العلويين يتدفقون بالمئات والآلاف إلى المدن الرئيسية سيما الساحل ودمشق وأنهم أخذوا يغيرون ديموغرافية بعض المناطق و يتوازعون أهم المراكز الحكومية بينهم، مبدين مشاعر وسلوكيات انتقامية وثأرية غير مبررة ضد أبناء المدن، وهو ما اعتبره مجتمع المدينة السني استخفافاً به وتحدياً له في عقر داره، ومحاولة مكشوفة لتحييده من قبل ريفيين رعاع اجتماعياً و منحلّين أخلاقياً ودينياُ يتحركون ضدهم بدوافع عدائية دينية وطبقية، وزاد تلك النقمة الصبغة القومية العلمانية التي فرضها نظام البعث على البلاد، والتي لم تتواءم مع قاعدة شعبية محافظة، توجد فيها قوى وتيارات سياسية فاعلة تؤمن بريادة وقوامة الدين على المجتمع كالإخوان المسلمين وغيرهم، و قد بدأت أولى المواجهات بين نظام البعث (النصيري) والتنظيمات الإسلامية في العام 1976..

للبحث تتمة , الجزء الثاني  غدا

 

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *