بقلم: اياد شربجي
انتصار الأسد, الطليعة والتجييش الطائفي
يقول كثيرون ممن عايشوا مرحلة الثمانينات أن الحكمة تقتضي عندما نتناول موضوعاً شائكاً ومعقداً -كالمواجهة بين التيارات الإسلامية ونظام الأسد- أن يكون الحديث منصباً عن المسببات لا النتائج، عمن أشعل الحريق لا من أخذ شعلة منه، وهؤلاء يدللون على كلامهم بأن تسلّح التيارات الإسلامية لم يأتِ إلا متأخراً بعد ما عانوه من جور وظلم واستهداف منظم، وأن أولى المواجهات المسلحة مع النظام لم تبدأ فعلياً إلا بعد 13 سنة من نظام حكم البعث وتحديداً في العام 1976 تاريخ أول عمل عسكري للطليعة المقاتلة.
يبدو هذا الحديث مقبولاً من حيث المنطق الجدلي، إلا أنه بالتأكيد لا يمكن فصل الأحداث عن بعضها، فهي لم تأت ككتلة واحدة على أية حال، بل جاءت نتيجة تراكمات وتفاعلات و تشابكات يجب أن نفهمها، ورغم أنه من حكم المؤكد أن نظام حكم الأسد كان يسير وفق مخطط مرسوم للوصول إلى سلطة مطلقة تحكم سورية بالحديد والنار واستخدمت في سبيل ذلك كل الأساليب المتاحة، إلا أنه لا يمكن بحال من الأحوال تجاهل الأخطاء الكارثية والقاتلة التي وقعت فيها بعض التيارات الإسلامية في ذلك الوقت، والتي ساهمت من حيث لا تحتسب في منح الزخم والمبرر لنظام الأسد لتحقيق مراميه ولدعم وترسيخ بعده الطائفي واستخدامه بشكل بشع، فكيف إذا كان ما حدث البارحة على زمن الأب يحدث اليوم على زمن الابن، وتتكرر فصوله دون أن نتعلّم منها؟
بالعودة إلى تلك المرحلة، فإن المتابع لأدبيات المعارضة الإسلامية في مرحلة ما بعد انقلاب 8 آذار 1963 سيلاحظ كيف أنها لم تبخل هي أيضاً بإظهار الغل الطائفي، و منطق بعض القيادات الإسلامية التي ظهرت بعد حادثة 1964 بحماه –ولو أن يراه البعض جاء كرد فعل- كان إلغائياً إلى درجة كبيرة تجاه أبناء الطوائف الأخرى وعلى رأسهم العلويين بالطبع، بالإضافة أيضاً للقوميين الذين كانوا يتحدثون عن سورية كدولة ذات بعد قومي لا عقائدي، واعتصام مروان حديد في جامع السلطان ذاك العام والكلمات التي نطق فيها عبر مذياع المسجد ووجدت الكثير من التأييد من حوله إنما كانت تغصّ بالمعاني الرافضة للآخر طائفياً، و مطلبه بإحقاق الشريعة كنظام حكم للدولة لم يكن ليقبل المساومة، وكان هذا من بدايات الأخطاء القاتلة التي سيكون لها أثر كبير في تفاعل الأحداث لاحقاً، و التي استغلها نظام البعث للتمترس في مواجهة الإسلاميين مستعيناً بما بلغه من قوة داخل الجيش، وما امتلكه من مناصرين من الطائفة مشحونين مسبقاً ويعانون من عقدة الاضطهاد والتظلّم في عقليتهم الاجتماعية.
بالمقابل فإن انغماس حزب البعث في استخدام بعده الطائفي في السلطة وانعكاس ذلك في سلوكه على الأرض هيّء الأجواء تماماً لظهور تنظيم مسلّح ذي صبغة طائفية في نهاية المطاف، ومن يقرأ أدبيات ومذكرات قادة الطليعة كأيمن شربجي (دمشق) وعدنان العقلة (حلب) سيرى البعد الطائفي الواضح لطبيعة الصراع الذي نشأ حينها، إذ لم يكن نضالهما لبناء دولة وتأسيس حكم رشيد وعادل بقدر ما كان سعياً لـ (إسقاط النصيريين والانتقام لأعراض المسلمين)، بالإضافة لذلك فقد ارتكب التنظيم العديد من الأخطاء في صراعه من السلطة، إذ كان يكفي للشخص أن يكون علوياً ليكون هدفاً مشروعاً للتصفية، كما قام بالعديد من الأفعال الجرمية كالاعتداء على بعض مؤسسات الدولة المدنية كتفجير رئاسة الوزراء ووزارة الإعلام، وكان لبعض أعماله العسكرية غير محسوبة العواقب كحادثة مدرسة المدفعية والأزبكية أثر تدميري كبير استفاد منه نظام الأسد للقضاء على الإسلام السياسي بكافة أشكاله، حتى أنه أُتخذ ذريعة في هذه المعمعة للقضاء على التيارات السياسية المعارضة الأخرى التي لم تلجأ للعنف كبعض التيارات الشيوعية و القومية.
* تحضيرات ما قبل الحسم
منذ بداية الثمانينات كانت التحضيرات جارية على قدم وساق لإنهاء معركة الأسد مع البيئة السنيّة الحاضنة بشكل عام و المعارضة الإسلامية بشكل خاص، وكانت عمليات الطليعة المقاتلة تمنحه المبرر لذلك، وبالفعل صار خطاب الطليعة أكثر تشدداً وعنفاً تجاه (النصيريين) وأتباعهم سيما إثر الانتهاكات والاستفزازات التي تعرضت لها البيئة المحافظة التقليدية في المدن الرئيسة، وكذلك توارد الأنباء عن عمليات التعذيب الوحشي في السجون التي لم تقتصر على القيادات فقط بل طالت آلافاً من النخب السنية المثقفة، و بين الفترة من نهاية العام 1980 وحتى بداية 1982، صار واضحاً أن نظام الأسد يحضّر لعملية اجتثاثية كبيرة في مدينة حماة نظراً لرمزيتها الطائفية والتاريخية وكونها معقل رئيس لنشاطات المجموعات الإسلامية.
لقد أخذت هذه التحضيرات عدة أوجه؛ إجرائياً و اقتصادياً وطائفياً و إعلامياً و عسكرياً:
إجرائياً: عمد نظام الأسد إلى اتخاذ كثير من الإجراءات لترتيب الأجواء، فعدا عن استمرار نفاذ قانون الطوارئ، وكبت الحريات العامة وتضييق الخناق على الإعلام والإعلاميين، فقد تم حل النقابات المهنية في 9/4/1981 وذلك بعد تحرّك بعضها ومطالبتها بمطالب تتعلق بالحريات العامة، وجرى اعتقال جميع المعترضين وزجهم بالسجون، ثم أعيد تشكيل النقابات بالكامل وجرى تسمية بعثيين ومتعاونين مع المخابرات في قيادتها ومفاصلها المؤثرة، وكان يتم انتقاء أولئك بعناية بحيث يكونون موالين باستماتة ولا يقيمون أي قيمة للأخلاق والمحرمات ولم يكن مانعاً لو توافر أولئك من كل الطوائف وإن كانت الحظة للعلويين بطبيعة الحال، الأمر سُحب على كافة المفاصل القيادية في الحزب ومؤسسات الدولة والجيش، وجاءت تلك الحملة تطبيقاً لمقولة حافظ الأسد التي باح بها لاحقاً عبد الحليم خدام نائب الرئيس المنشق (المرحلة وسخة اعتمدوا على الوسخين).
بالإضافة لهذه الإجراءات العامة اتخذت إجراءات خاصة بحق الإسلاميين، كصدور القانون 49 للعام 1980 القاضي بإعدام كل من انتسب للأخوان المسلمين، والذي كان يُساق بموجبه 150 إسلامياً كل أسبوع للإعادم بتوقيع من وزير الدفاع السنّي الوفي مصطفى طلاس، كما خطب رفعت الأسد في المؤتمر القطري للحزب في ذات العام داعياً إلى سنّ قانون أكثر وحشية أسماه “قانون التطهير الوطني”.
اقتصادياً: ورّط نظام الأسد جزءاً من الطبقة الاقتصادية السنيّة خصوصاً في دمشق وحلب بشبكة علاقات وشراكات مع الضباط وأبناء النظام والطائفة قائمة على الامتيازات والمحاصصة والمحسوبيات، واعتمد مع آخرين سياسة الاستيعاب وضمان حماية المصالح مقابل الصمت، فيما أنشئ على التوازي مع ذلك طبقة اقتصادية مُحدثة من العلويين القادرين على التمتع بالامتيازات والاستثناءات، وكان على رأسهم شقيق زوجته محمد مخلوف، بالإضافة إلى علي دوبا وعلي أصلان وشقيقه رفعت الأسد، ولقد كان الأخيرون قادرين على التأثير بمصالح طبقة الصناعيين والتجار الأصيلة، وبهذه الطريقة لجم الأسد هذه الطبقة التي كانت في السابق فاعلة ومحركة للأحداث السياسية في سورية.
طائفياً: عرف الأسد أنه لارتكاب عمل بحجم الجريمة الدموية الضخمة التي يخطط لها فإنه يحتاج لأوفياء لا يخشى منهم انشقاقات أوعصياناً أو تمرداً على ما سيحدث، وبطبيعة الحال فإن العلويين الفقراء وقليلي التعليم هم المؤهلون الوحيدون للقيام بهذا الدور، سيما بعد أن أفرغ الأسد الطائفة طيلة أعوام من مثقفيها وسياسيها وكان بينهم عدد من آل الخير وكنج، والعبّاس، وجنيد، وخير بك، والأحمد، الذين كانوا منتظمين ضمن صفوف حزبي العمل الشيوعي والبعث الديمقراطي، بالإضافة إلى اعتقال وتشتيت مريدي شركاء الأسد السابقين محمد عمران وصلاح جديد، أضف لذلك والسبب الأهم أن العلويين كمجتمع طائفي يشعرون بتهديد تاريخي من قبل الغالبية السنية، وجاءت عمليات الطليعة التي أعلنت نيتها إسقاط (النظام النصيري) واستهدفت بالفعل أبناء الطائفة اغتيالاً وتفجيراَ لتدعم لديهم قناعاتهم تلك، ولتربط الأحداث في مخيلتهم كالتالي: الطليعة إخوان والإخوان سنة وكل السنة إخوان و طليعة، بل وكل السنة عثمانيون، وكلهم يريدون قتل العلويين وذبحهم.
وجاء الوقت ليُردّ للأسد الدين الكبير في رقاب العلويين بعد أن انتشلهم من القاع ومنحهم امتيازات هائلة صار استمرارها مرهون باستمرار الأسد نفسه، وفي سابقة تعد الأولى منذ وصوله للسلطة وتحديداً في آب 1980 اختار حافظ الأسد الاحتفال برمضان في مسقط رأسه القرداحة بدلًا من جامع بني أميّة الكبير في دمشق كما كان يجري التقليد، وجمع الأسد من حوله زعماء الطائفة العلوية، وأوصاهم برصِّ الصفوف والاستعداد للمواجهة القادمة، وبالفعل فقد قام رجال الدين الجدد الذين صنعهم الأسد بذات طريقته المعتادة بالحشد للمواجهة، مستخدمين في ذلك كل الخرافات والموروثات الشعبية اللازمة، ومستغلين جهل العامة وشعورها بالخوف، وليصبح للأسد بالنسبه لهم منذ ذلك الحين رمزية دينية كولّي للطائفة، بل إن البعض اعتبره عليّ هذا الزمان، وآخرون ذهبوا إلى أبعد من ذلك عندما اعتبروه إلهاً خالصاً، وهذا ما سيتضح لاحقاً في كثير من السلوكيات التي ستتكرر بعهد الأسد الأب ثم ابنه ومنها السجود لصورة الأسد ومناداته كربّ يحيي ويميت ويخلق ويرزق .
إعلامياً: تفرغت وسائل الإعلام السوري بكافة أشكالها للحديث وبشكل مستفيض عن عصابة الأخوان المسلمين العميلة للصهيونية والرجعية، وعن جرائمها التي تقوم بها بحق المدنيين (استفادت كثيراً من بيانات الطليعة حول عملياتها العسكرية لمنح مصداقية لروايتها)، وركزت هجومها الإعلامي على مدينة حماة وذلك عن طريق الاعترافات التي كانت تبثها لمن تعتقلهم من نشطاء تنظيم الاخوان والطليعة، وكانوا يتحدثون فيها تحت التعذيب عن وجود أطنان من الأسلحة في حماة قادمة من أمريكا وإسرائيل والعراق وأنور السادات الخائن، وكل ذلك بهدف تدمير الدولة السورية الممانعة لإسرائيل، وإقامة نظام خلافة يقطع الرؤوس والأيدي.
في مقابل هذا الهدف الإعلامي الداخلي، كان هناك هدف خارجي يتطلّع لنيل شرعية المجتمع الدولي في جهود السلطات لمكافحة الإرهاب، وكان لهم ما أرادوا لاحقاً، إذ كشفت تقارير استخباراتية ظهرت مؤخراً أن عدداً من الدول الغربية كانت على علم مسبق بتحضيرات النظام السوري لاقتحام حماه وتدميرها.
عسكرياً: لقد كان التخطيط لمعركة حماة يتطلّب عزل تأثير بقية المدن السورية وسيما دمشق عنها، وقد بدأت هذه التحضيرات بسلسلة سلوكيات قمعية فعاله اقترحها عليه صديق الأسد الوفي الرئيس السوفيتي بريجينيف وضباط مخابراتهKGB و الخبيرون في التعامل مع هكذا نوع من القلاقل الشعبية، لقد كان عنوان هذه المرحلة استخدام الاستفزاز مقروناً بالقوة المفرطة و القمع الشديد لكسر شوكة الناس وإشعارهم بالعجز والإحباط ثم اجبارهم على الاستسلام للأمر الواقع والرضوخ، وبالفعل هذا ما كان فعله الأسد لتحقيق هذا الهدف وأهداف أخرى في ضربة واحدة، فعندما نزلت المظليات بأمر من رفعت الأسد في صيف 1981 إلى المناطق المحافظة في مدينة دمشق سيما الحريقة والحميدية والقنوات وبدأن ينزعن الحجابات فقد هدفت هذه العملية أيضاً إلى استدراج بعض عناصر الطليعة المقاتلة للظهور بدافع النخوة والغيرة وحماية الأعراض، وبالفعل ثارت حمية اثنين من أفراد الطليعة وهاجموا المظليات فقام أفراد من سرايا الدفاع متنكرون كباعة جوالين بإلقاء القبض عليهم واستخلاص معلومات هامة منهم تحت التعذيب لتفكيك خلايا الطليعة، فقد كان أحد الإجراءات المطلوبة في هذه المرحلة إنهاك الطليعة محلياً في المحافظات سيما العاصمة حتى لا يكون لها دور لاحقاً فيما سيحدث في حماه، رافق ذلك ايضاً محاولات السيطرة على الطبقية الدينية، فقد قام الأسد بالاستدعاء المتكرر لكبار رجال الدين الدمشقيين إلى القصر الجمهوري وتوجيه رسائل واضحة لهم تارة بالحسنى وأخرى بالتهديد المباشر بأن ينأوا بأنفسهم عما يحصل بل و أن يساعدوا أجهزة المخابرات بكشف تنظيم الطليعة، لكن الأسد كان حريصاً على بقاء الهدوء نسبياً في العاصمة، لذلك كان يحافظ على شعرة معاوية ويبدي بعض اللين والاستجابة في بعض المواضع، وكان يظهر بأنه لم يكن يعرف مسبقاً ببعض انتهاكات الأمن بحق المواطنين واستفزازهم، بل كان يعتذر لهم ويشتم أجهزة مخابراته أمامهم بحجة أنهم جهلة.
* مجازر طائفية جوّالة في المحافظات:
بطبيعة الحال لم يقتصر الأمر على دمشق ، بل إن العاصمة شهدت أقل مقدار من القمع والقصف التمهيدي قياساً إلى المحافظات الأخرى ذلك أنها مركز حكم الأسد وسلطته السياسية ولا يريد لهذه الجبهة أن تضطرب أكثر من مقدار معيّن، لكن بالنظر إلى مجمل سياق الأحداث، لا يحتاج الأمر لكثير من الملاحظة حتى نكتشف أن حافظ الأسد عمد إلى توزيع القمع على كل المناطق التي يتوقّع أنها ستنجر للتدخل في المعركة القادمة، لذلك عمل على تجزيئها واحدة تلو الأخرى، وإلهائها وإشغالها بنفسها، سأذكرهنا بعضاً فقط من هذه المجازر نظراً لكثرتها، آخذين بعين الاعتبار توصيفاً واحداً ومتكرراً لها لا يمكن تجاهله وسيكون دليلاً ملازماً طيلة حكم الأسد، المجرم دوماً من الطائفة العلوية، والضحية دوماً من السنة، على أن هذه الهوية لم تخفِ نفسها على أية حال، فقد كانت عمليات الإعدام تترافق من قبل المهاجمين بالإضافة للعنف المفرط بعبارات طائفية واضحة الدلالة مثل (لبيك حافظ لبيك… لبيك لا شريك لك لبيك) و (خود دين وهات سلاح دين محمّد ولّى وراح) و (حزب الإخوان… حزب الخوّان):
– مجزرة جسر الشغور 10 آذار 1980: حيث قامت الوحدات الخاصة بقيادة العميد علي حيدر باقتحام المدينة بحجة تأمين أهلها ملاذاً للطليعة المقاتلة، و إخراج97 مواطناً بريئاً من الرجال والنساء والأطفال من بيوتهم، و إطلاق النار عليهم وقتلهم و تدمير البيوت وإحراقها، وتم التمثيل بالجثث، و من بينهم طفل تم التمثيل بجثته وشقه إلى نصفين أمام والدته فمات على الفور.
– مجزرة سجن تدمر 27 حزيران 1980: إثر محاولة فاشلة لاغتيال حافظ أسد داخل القصر الجمهوري بدمشق أثناء مراسم وداع رئيس النيجر، قام خلالها عنصر من الحرس الرئاسي متعاون مع الطليعة المقاتلة بإلقاء قنبلتين يدويتين انفجرتا فأطاحت إحداهما بأحد عناصر حماية الأسد الشخصية بينما أصيب، طارت مجموعة من عناصر النخبة بقيادة الرائد معين ناصيف صهر رفعت الأسد بطائرات هليكوبتر من مطار المزة العسكري إلى سجن تدمر، وقامت المجموعة باقتحام مهاجع السجن وارتكاب مجزرة قتل فيها أكثر من ألف سجين أعزل من الاسلاميين والإخوان وكثير من النخب المثقفة التي تم اعتقالها ظلماً وافتراءاً.
– مجزرة سوق الأحد بحلب 13/7/1980: قامت قوة عسكرية مؤلفة من 20 سيارة زيل عسكرية محملة بالعناصر باقتحام سوق الأحد الشعبي المزدحم بالناس، وأخذت تطلق النار عشوائياً على الناس، فسقط منهم 192 بين قتيل وجريح، وذكر شهود على الحادثة أن العناصر المهاجمة كانت تهتف خلال الهجوم بعبارة منحوتة عن هتافات الحجاج في الطواف حول الكعبة (لبيك حافظ لبيك…. لبيك لا شريك لك لبيك).
– مجزرة سرمدا في يوم 25/7/1980: طوقت الوحدات الخاصة قرية سرمدا وجمعت النساء والأطفال وقتلت ثلاثين رمياً بالرصاص في ساحة القرية، ثم ربطت 15 من شباب القرية بالسيارات والدبابات وسحلتهم على مرأى من الناس المرعوبين.
– مجزرة حي المشارقة بحلب صبيحة عيد الفطر 1180: بينما كان الناس يتزاورون مهنئين بعضهم بعضاً بالعيد، وإذ بقوة عسكرية بقيادة المقدم هاشم معلا تطوّق حي المشارقة الشعبي، وتخرج الرجال من بيوتهم، ثم تطلق النار عليهم فقتل منهم 86 مدنياً أغليهم من الأطفال الذين تجمعوا في إحدى الحارات للاحتفال بالعيد.
– مجزرة تدمر النسائية 1980: أخرجت قوات الأمن حوالي 120 امرأة كانت اعتقلتهن كرهائن لأولادهن وازواجهن الملاحقين إلى منطقة قريبة من سجن تدمر ، ثم حفرت البلدوزرات أخدوداً كبيراً، وسيقت إليه النساء ليقفن على طرفه، ثم جرى إطلاق النار عليهم فسقطن في الأخدود، وجرى ردمهن بالتراب بينهما كان منهن من يصرخن ولم يمتن بعد، فدفنّ وهنّ أحياء.
* أما في حماة:
فقد كان العمل جارياً لترتيب أجواء المجزرة، وضمن سياق الخطة ذاتها (الاستفزاز والقهر) فقد كانت تتم هناك أبشع عمليات التنكيل وبشكل طائفي فج، وكان الأمن السوري كلما ضربت الطليعة هدفاً في أي مكان كان الانتقام الأكبر يحدث في حماة على وجه الخصوص، ويطال الأهالي والبسطاء.
في نيسان 1980 اقتحمت الوحدات الخاصة المدينة وقامت بتمشيط حماة وإهانة أهلها وسيما الوجهاء منهم وتم قتل بعضهم بشكل وحشي جداً، من هؤلاء
الدكتور عمر شيشكلي 45 عاماً رئيس جمعية أطباء العيون في سورية، قلعت عيناه وألقيت جثته في حقل قرية مجاورة للمدينة.
خضر شيشكلي 80 عاماً أحد زعماء (الكتلة الوطنية) وصاحب (بيت الأمة) أيام العمل ضد الاستعمار الفرنسي، حرقوه بصب الأسيد عليه في بيته، ثم نهبوا ما فيه من تحف أثرية.
الدكتور عبد القادر قنطقجي طبيب جراحة عظمية، ألقوا جثته بعد التعذيب على طريق الشيخ غضبان.
خرجت الحملة واستمرت الإهانات والاستفزازات المركزة حتى يوم 11تشرين الأول عام 1981 حيث استغلت أجهزة المخابرات مناسبة تبديل الهويات الشخصية وبدأت بحملة قمعية جديدة ، فتحركت فروع المخابرات والكتائب الحزبية المسلحة يعيثون في المدينة فساداً، واقتحم آلاف من سرايا الدفاع المدينة وراحوا يسيرون بالشوارع وهم ينادون بشعارات العبودية للأسد والإهانة للإسلام وصاروا يضطهدون الناس على اختلاف بشتى الوسائل ويعتقلون الناس، و نصبت السلطة حواجز ثابتةً وطيارة تفاجئ المواطنين للكشف عن هوياتهم، وكانت تأمرهم أن يسيروا إلى الحواجز وهم رافعي الأيدي ويحملون هوياتهم ثم عند الوصول للحاجز تتم إهانتهم رجالاً ونساءً ولم يستثنوا المواطنين العاديين أو المثقفين أو رجال الدين، وكانوا يضربونهم بأعقاب البنادق ويوسعونهم إهانة، ويأمرون بعضهم بإدارة وجوههم إلى الجدار رافعي الأيدي لساعات، وكان يتم اختيار أفراد منهم ويقومون بحلق نصف شعر رؤوسهم، أو أحد طرفي شواربهم، أو نتف لحية شيخ مسن أو حرقها بقداحات الغاز، وقد طُلب من أحد الرجال المسنين في (حي البارودية) –وهو يبغ السبعين- أن يرقص أمام الجنود الذين يسخرون منه، فعاد إلى بيته ولم يخرج حتى مات كمداً بعد شهر.
ومن أنواع الاضطهاد التي مورست أيضاً إرغام المارة على الاستلقاء أرضاً ورفع الأرجل في الهواء لتلقي وابل العصي والكرابيج، أما إذا اُتهم أحدهم باستقبال أحد الملاحقين، فكانوا يمسكون المتهم من يديه ورجليه، ويلوحون به في الهواء يقذفون به من سطح بيته إلى الشارع مهما كان الارتفاع، كما كانوا يطلبون من آخرين في الساحة الرئيسة الركوع لصورة حافظ، وعندما يرفض أحدهم أو يتلكأ فكانت تفقأ عينه بكل وحشية أو ربما يقتل ، وأمام هذا المشهد المرعب كان البقية يرضخون ويهتفون لحافظ الأسد بينما عناصر سرايا الدفاع يقهقهون ويسخرون منهم.
وخلال صلاة الجمعة كانت سرايا الدفاع تطوق مسجداً أو أكثر، وتحمّل المصلين في سياراتها العسكرية، لتنتزع منهم الاعترافات تحت التعذيب الوحشي حول المقاتلين و المعارضين للسلطة، فيعود الرجال والكهول والفتيان مكسوري الخاطر، وأحذيتهم بأيديهم وهم بالكاد يستطيعون المشي على الأقدام المدماة المتورمة، وأبصارهم منكسة إلى الأرض، فيهرع الأطفال يتعلقون بالآباء ويجهشون بالبكاء.
كانت مشاهد قمة في الإذلال والقهر، لم يسلم منها حتى المواطنون المسيحيون وإن بدجة أقل، فقد صوب أحد عناصر المخابرات في القلعة سلاحه وضرب صليب كنيسة السيدة العذراء الكائنة في (حي المدينة) فكسره، كما تطاول بعضهم على الفتيات المسيحيات وتحرشوا بهن، و دوهمت بيوتهم بحجة البحث عن السلاح والملاحقين، وتم تحقير أحد المطارنة بشكل بشع فهاجر لاحقاً إلى الولايات المتحدة.
وبلغ الاستفزاز أوجه حين عمدت السلطة إلى تفجير البيوت بألغام الديناميت على أثر وشايةٍ أو تقرير من أي عميل يفيد أن أحد المعارضين زار البيت أو تردد عليه، وكان التفجير يتم فوق رؤوس الساكنين وهم داخل منازلهم ودون إنذار للإخلاء، وأحياناً كان عناصر الأمن والجيش يطلقون النار على الجيران رشاً لأنهم لم يبلغوا على وجود عناصر معارضة للسلطة في تلك البيوت، ومن بين البيوت التي تم تفجيرها بهذه الطريقة:
بيت عبد الكريم قصاب في حي الشيخ عنبر .
بيت نزار عمرين في حي العليليات .
بيت أحد قنفوذ في حي الفراية .
بيت حمدو الخرسة في حي السخانة .
بيت الشيخ أحمد بوظان في حي العليليات . وعشرات البيوت الأخرى.
* الاستدراج والمجزرة
قبل شباط 1982 بأسابيع قليلة خفف الجيش والأمن قبضته عن وسط مدينة حماة ، وكان الأمر فخاً ومكيدة لأعضاء تنظيم الطليعة ليحتلوا المدينة ويتمترسوا فيها ويكشفوا أنفسهم، وبالفعل خرج المئات من أعضاء التنظيم من أماكن اختبائهم وأقاموا الحواجز والدشم على معظم أجزاء المدينة، وشعروا بالتحرير والانتصار وخرجوا ببيانات تحدي نارية تتوعد النظام بينما كان الأخير يجمع قواته حول المدينة، على أن الغريب في الموضوع أن عديدين من قيادات الأخوان والتنظيم كانوا يدركون تماماً الفخ و أن المواجهة لما تحدث بعد، لكن في ذلك الحين كانت الأمور قد تعقدت بالتنظيم والإخوان إلى درجة لا يمكن وصفها بعد التصفيات الرهيبة في صفوفهم والحصار والخنق وقلة الموارد، ولم يكن هناك مفرّ أمامهم من المواجهة، فاستعدوا لها، وفي صباح 2 شباط 1982 بدأت قوات الأسد بقصف المدينة بالراجمات والمدافع وبدأ الدمار ينتشر، ومع تقدّم القوات في الأيام التالية كان المقاومون قد انهكوا وأحسّوا بما هو قادم، فأخذوا يرددون بين أنفسهم عبارات من قبيل (قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار) و (ليقضي الله أمراً كان مفعولاً) بالإضافة لعبارات التشهّد والتكبير.
تألفت القوات المهاجمة من حوالي 20 ألف مقاتل يتوزّعون بين سرايا الدفاع ووحدته الأكثر إجراماً الوحدة 259 ، واللواء 47 دبابات، واللواء 21 ميكانيك والفوج 21 إنزال جوي وحدات خاصة فضلاً عن مجموعات من مخابرات وفصائل حزبية مسلحة.
لن أستفيض بذكر ما حصل في مجزرة حماه فهي إجمالاً معلومات معروفة للجميع، لكن باختصار طيلة ثلاثة أسابيع أشبعت القوات المهاجمة المدينة تدميراً وحرقاً حتى مسحت أحياء بأكملها عن الخارطة، و سقط ما بين 30 ألف إلى 40 ألف مدني قتلوا إعداماً وتمثيلاً بوحشية لم يشهدها القرن العشرون وأبيدت عائلات بأكملها عبر ثلاثة عقود ولم يبق منها أحد ورُقّنت قيودها لاحقاً في النفوس، وفقد في المجزرة حوالي 15 ألفاً وهدم 88 مسجدًا وثلاث كنائس، فيما هاجر عشرات الآلاف من سكّان المدينة؛ هربًا من القتل والذّبح والتنكيل، وتم إذلالهم خلال هروبهم وأجبروا على الخروج بمسيرات تأييد لقاتليهم.
وصفت صحيفة النوفيل أوبزرفاتور الفرنسية بتاريخ 30 ابريل 1982م المشهد بما نصّه :
“في حماة، منذ عدة أسابيع، تم قمع الانتفاضة الشعبية بقساوة نادرة في التاريخ الحديث.. لقد غزا حافظ ورفعت أسد مدينة حماة، بمثل ما استعاد السوفيات والأمريكان برلين، ثم أجبروا من بقي من الأحياء على السير في مظاهرة تأييد للنظام”.
و حول عملية الاستدراج والذريعة التي اتخذها الأسد للقضاء على حماه يقول أكرم الحوراني في مذكراته :
” تعرضت حماه للعدوان الطائفي الحاقد مرتين بذريعة القضاء على ثورة قلة من الإخوان المسلمين المتعصبين بقيادة الشيخ مروان حديد في المرة الأولى عام 1964 وعلى ثورة بضع مئات من الإخوان المسلمين في المرة الثانية عام 1982 بقيادة عدنان العقلة تلميذ الشيخ مروان حديد ، إذ كان باستطاعة الدولة أن تقضي على ثورة الإخوان دون تعريض المدينة لهدم أحيائها ودون قتل عشرات الألوف من أبنائها ، ودون الاعتداء على نسائها ، ودون استخدام مايملكه الجيش من راجمات الصواريخ وأسلحة القتل والدمار”
وهو ما أكده حمد الشوفي سفير سورية السابق في الأمم المتحدة وأحد رفاق حافظ الأسد الذي هرب مطلع الثمانينات وحكم عليه الأسد بالإعدام، يقول الشوفي في أحد حوارات كتاب “ملفات المعارضة السورية” لتمام البرازي :
“النظام نصب فخاً لحماة وأرد أن يضربها لتحقيق هدفين أولاً أن تكون هذه المدينة درساً لبقية المدن السورية بشكل عام ولدمشق بدرجة خاصة، وثانياً أن يضع في رقبة كل علوي ثأراً دموياً فيشعر بأنه إذا تغير النظام فإن الأذى سيطاله شخصياً، وأنت تعرف تقاليد الثأر في حماة”.
* ما بعد مجزرة حماة
بالتأكيد كانت حماة هي الضربة القاصمة للإسلام السياسي في سورية، فقد تمكن حافظ الأسد من إحداث شرخ عميق في الضمير السوري، وفرّغ القاعدة الإسلامية والسنيّة من رموزها وأعطى درساً قاسياً لبقية الشعب السوري بالرضوخ والاستسلام، لكن رغم ذلك بقيت بعض الجيوب المقاتلة سيما في دمشق وحلب تحاول أن تفعل شيئاً رغم أنها شعرت بأن الأمر يشارف على النهاية، واستمرت بعض العمليات حتى العام 1982 إنما لم يكن لها تأثير حقيقي على الأرض، على أن الإخوان وبعد فشل إعلان النفير الذي أطلقوه في العراق والهزيمة الكبرى التي منيت فيها قواعدهم في حماة، أرادوا أن يفعلوا شيئاً ليحافظوا على توازن الرعب في المفاوضات التي سعى إليها حافظ الأسد معهم بعد ذلك لإنجاز اتفاق ينهي المسألة برمتها بعدما أحكم السيطرة على الأرض.
ورغم أن الإخوان المسلمين بتنظيمهم السياسي كانوا يعزلون أنفسهم في البداية عن خطاب ونهج الطليعة المقاتلة ويتنصلون من نهجها العسكري والطائفي، إلا أنهم عادوا وتواصلوا مع تنظيم الطليعة بشكل مباشر بعد أحداث حماه، ليس ذلك فقط بل إنهم–وبحسب ما ذكر أيمن شربجي في مذكراته- عرضوا على الطليعة بصريح العبارة أن تبايع تنظيم الأخوان مقابل أخذ الدعم وتوسيع العمل العسكري وضم متطوعين جدد، لكن يبدو أن الطليعة لم توافق على هذه الصيغة الابتزازية، يقول شربجي:
“أخبرنا الأخ القائد أبو عمر رحمه الله تعالى عن إرسال عشرة آلاف ليرة سورية من قبل أحد قياديي الإخوان المسلمين في الخارج مقابل تفجير عبوة ناسفة في أي مكان بدمشق، بحيث يكون لتفجيرها صدى إعلامي، وقد أرفقت بوعد بزيادة المبلغ بعد تنفيذ العملية.، وقد أدى هذا النبأ إلى تأثر الأخ القائد رحمه الله تأثراً شديداً وأليماً، فلسنا بالمرتزقة الذين يضحون بدمائهم في سبيل المال. ولئن كنا في ضائقة مالية خانقة فليس معنى ذلك أن نترك أهدافنا التي نسعى لها ومن أجلها فقدنا إخواننا الأبرار وتحملنا المصائب والصعاب وضحينا بكل ما نملك وبأرواحنا، إننا نعمل من أجل قضية الإسلام في هذا الوطن ولن نقوم بأي عمل يحرفنا عن هذه القضية.، وقد كتب الأخ القائد رسالة مريرة ضمنها ما في صدره من ألم وحزن على ما آلت إليه أوضاع المسلمين في سورية، وعلى هذه المعاملة التي لا تخدم المسلمين في هذا البلد والتي نلقاها من إخواننا في الخارج.
وقد كان يود إرسال هذه الرسالة إلى كافة أعضاء القيادة في الخارج، ولكن غلب على ظنه أنها لن تؤثر كما لم تؤثر سابقاتها من قبل، لذلك أحجم عن إرسالها”.
لاحقاً أسس الإخوان بالفعل تنظيماً عسكرياً جديداً ضخوا فيه الكثير من الأموال لكنه سرعان ما تفكك، و هناك اعتقاد لدى كثيرين أنهم هم من أنشؤوا تنظيماً آخر يسمّي نفسه “جيش تحرير سورية” والذي قام بالعديد من العمليات الفاشلة عادت بالضرر على المدنيين أكثر من النظام، من ابرز عمليات هذه التنظيم:
1- انفجارعبوة ناسفة بالبناء المجاور لوكالة سانا بتاريخ 31/7/1985 أسفر عن قتل امرأة وطفلها مع عدد من المارة، وفي نفس اليوم وبعد الظهر وقع انفجار في منطقة المرجة وسط العاصمة دمشق أسفر عن قتل أجير بائع حلويات من آل شهاب.
2- تفجير سيارة براد محملة بكمية من الديناميت تحت جسر تشرين بتاريخ 13/3/ 1986.
3- انفجار بدوار الزبلطاني داخل عربة ناتج عن مواد متفجرة بتاريخ 9/6/1985.
4- انفجار بحاوية قمامة في ركن الدين بتاريخ 27/7/1985 .
ورغم أن النظام كان ماضياً بعمليات التطهير في كل مكان استكمالاً لضربة حماة، إلا أن قوى عدة تدخلت في منتصف الثمانينات لصالح أجندات مختلفة، فبتاريخ 16/4/1986 حدثت عدة تفجيرات مجهولة الهوية مجموعة من باصات السفر الذاهبة إلى اللاذقية بشكل متزامن وذلك من كراجات حلب وحمص وحماة ودمشق بتاريخ ، وكذلك تفجير قطار بين حلب و اللاذقية أسفرت الانفجارات عن قتل وجرح ما يقارب 500 شخص، وقد تبين لاحقاً أن القوات اللبنانية التي يقاتلها الأسد في لبنان هي من فعلت ذلك، وقد اتهم الاعلام السوري بشكل رسمي المخابرات الإسرائيلية مع عملائها في لبنان بتنفيذ العملية.
إجمالاً انتهى الأسد من القضاء على تنظيم الطليعة وكافة التنظيمات الأخرى في العام 1988، وأصبحت الساحة مفتوحة أمامه رحبة ليبني مملكته الأسدية العلوية.
* استمرار التخلص من المنافسين
في نهاية العام(1983) مرض الأسد ودخل المستشفى، وشعر أن شقيقه سيسبب له مشكلة نظراً لنوازعه التي لم يخفها في الوصول للسلطة، فشكّل لجنة سداسية تدير الحكم لم يسمّ بينها رفعت نظراً لخلافاته الكثيرة مع بقية طاقم الأسد، لكن في ذلك الحين كان رفعت قد بنى مملكته الخاصة و عمادها سرايا الدفاع ذات الـ 60 ألف جندي غالبيتهم الغالبة من العلويين المخلصين، وكانت تملك أفضل الأسلحة وتنتمي بقوة لرفعت الأسد.
فنزلت سرايا الدفاع إلى الشوارع تحيي القائد رفعت، وتطالبه باستلام الحكم، وكان الأخير يحاول الانقلاب عن أخيه، لكن بقية الطاقم العلوي الرئاسي كانوا يسيطرون بدورهم على مفاصل قوية جداً في المخابرات والجيش فوقفوا في وجه هذا المشروع.
يقول حمد الشوفي عن تلك المرحلة:
” مرض حافظ الأسد وشارف على الموت، وكانت هناك خلافات بين المقربين، وخصوصاً بين رفعت وقادة المؤسسة العسكرية، علي دوبا وعلي أصلان وعلي حيدر و شفيق فياض وعلي أصلان ومحمد خولي، وهي خلافات على السلب والنهب وليست عقائدية، وكل واحد يريد احتكار شيء لنفسه، رفعت يريد احتكار تجارة السجائر الأجنبية وآخر هو محمد مخلوف شقيق زوجة حافظ الأسد عارضه ونافسه، ثم اختلفوا على تجاره تهريب السيارات، وعندما مرض حافظ الأسد شعر الباقون بأن رفعت و في حال سيطرته على السلطة فإنه سيقص رقابهم، وتسابق الجميع في حرب دعائية في الشوارع، المخابرات وجماعة على دوبا و ومحمد الخولي من جهة وسرايا الدفاع من جهة أخرى، فريق رفع صور حافظ والآخر صور رفعت، وصلت الأخبار لحافظ، وعندما علم أن الجميع متضامن ضد رفعت، وكي لا يفقد ولاء المجموعة العسكرية التابعة لرفعت اتفق معه على سيناريو للخروج”.
وعندما تماثل حافظ الأسد للشفاء، وخوفاً من حدوث انقلابات داخل الطائفة والجيش، حاول استيعاب شقيقه عندما عينه نائباً صُورياً للرئيس، وريثما تمكّن حافظ من ترتيب الأجواء وتشليح شقيقه لمسؤولياته ومصادر قوته شيئاً فشيئاً، أنجز في العام 1985 اتفاقاً قضى بخروج رفعت من البلاد بمقابل مبلغ مالي كبير بالإضافة للاحتفاظ ببعض الامتيازات المالية، لكن منذ ذلك الوقت بدأ الأسد يدرك بأن عليه أن يجد خليفة له، ولم يتوقع القادة العلويون المخضرمون حينها أن ذلك الخليفة سيكون شاباً صغيراً عمره 22 سنة سيبدأ بالظهور لاحقاً هو باسل.
* الأسد المنتصر
خرج الأسد من مرحلة الثمانينات منتصراً على عدة جبهات، فعدا القضاء على آخر تواجد للإسلاميين في العام 1988، فقد ظهر مع مطلع التسعينات كلاعب دولي كبير، وذلك إثر تحالفه مع إيران، وانتصاره على خصومه في لبنان و تسليم الغرب كحاكم فعلي لها كمكافئة على مشاركته قوات التحالف لحرب الخليج ضد صدام حسين، والأهم أن اسرائيل كانت راضية عن الأسد منذ بداية الثمانينات، فهي تحالفت معه ضمناً(وإن كان بشكل غير مكتوب، أو هو مكتوب ولا ندري) على عدة ملفات كبرى، فعلياً الأسد ورغم أنه بالظاهر يدّعي ممانعة ومقاومة إسرائيل إلا أنه فعلياً هو من ساعدها على ترسيخ أقدامها وقوتها في المنطقة، ففي لبنان شاركت القوات السورية بقمع فتح وكافة الفصائل الفلسطينية التي كانت تقاتل إسرائيل وأجبرها على الخروج من لبنان أو الانضمام لجوقة ممانعة الأسد التي تتكلم ولا تفعل (الجبهة الشعبية القيادة العامة)، الأسد أيضاً حفظ جبهة إسرائيل وحماها طيلة فترة حكمه رغم المناوشات الشكلية التي كانت تجري بين وقت وآخر، يفسر ذلك حمد الشوفي في معرض ردّه على السؤال: لماذا إذا ًحصلت مواجهات عسكرية بين سورية واسرائيل بين الحين والآخر؟:
“يحصل هذا كلما كانت هناك مصلحة للطرفين أو لإسرائي وحدها، مثلاً عندما حدثت الانتفاضة في فلسطين بادرت أمريكا إلى إحياء مساعي التسوية السلمية، ويكون من مصلحة اسرائيل أن تُفشل المبادرة الأمريكية دون أن يتحمل المسؤولية شارون أو شامير، ولذلك ينبغي أن يرفضها طرف عربي، وحافظ الأسد جاهز لهذا الرفض، المواجهة بين سورية واسرائيل كلام ودعاية، الحدود مقفلة منذ العام 1973 ولم يقع فيها حادث واحد يعكر أمن الدولة اليهودية، ولم يقع حادث تسلل فدائي واحد وعدد الفلسطينيين المعتقلين في سورية أكثر من عدد المعتقلين منهم في اسرائيل”.. أما فيما يخص حزب الله الذي يواجه اسرائيل، فلم يعدُ كما يبدو كونه ورقة ضغط يستخدمها نظام الأسد لتحقيق بعض المصالح التي تتطلب أحياناً خوض لعبة تكسير العظام، وقد تكشّف لاحقاً خلال الثورة السورية الحالية أمر فصيل كحزب الله عندما صمتت جبهة الجنوب منذ العام 2006 ثم توجهت بنادق الحزب نحو المدن السورية.