في سوريا, لاوضع خاصا للكاتب

بقلم :فواز حداد

ألاستبداد هو أصل كل فساد

ثمن ما منحته الثورة للكتاب والمثقفين السوريين هو الشعور  أكثر من أي وقت مضى أنهم باتوا جزءاً من الناس الذين يكتبون عنهم، لا شيء يميزهم عنهم. فلم يعد ثمة فرق سواء كتبوا عن أنفسهم أو عن غيرهم، ما دام يجمعهم مصير واحد، يعانون المصاعب ذاتها، ويعيشون الأخطار نفسها، معرضين  للاعتقال والملاحقات والشبهات والرصاص… وللمضايقات يومياً بالتفتيش عند الحواجز (في دمشق وحدها 370 حاجز)، وربما للموت مصادفة، وهي مصادفة ليست نادرة الحدوث (هناك 90 نقطة للقنص متوزعة فوق الدوائر الرسمية والأبنية السكنية العالية). ولا يستبعد وقوعهم مع المارة العابرين في تقاطع تحتدم فيه على حين غرة اشتباكات عشوائية، ويكون الموت من نصيبهم جراء تبادل اطلاق النار بالخطأ بين الشبيحة وجنود الجيش النظامي واللجان الشعبية.

يستيقظ الكاتب صباحاً أسوة بغيره على أصوات المدافع وراجمات الصواريخ، هذا لا يعني أن هديرها يتوقف ليلا، ويسمح له بالنوم ، بل يغافله النعاس على إيقاعها، فلا مواعيد للنوم أو الصحو. مع بداية سيطرة الجيش الحر على الريف، وتسلل  كتائب الثوار إلى أطراف العاصمة دمشق، أصبح سماع القصف والانفجارات أمراً مألوفاً. في الأيام الأولى، هب الدمشقيون من رقادهم مذعورين، لا يعرفون فيما  إذا كانت المدافع تقصفهم، أو تمر القذائف فوق بيوتهم. مبعث هذا الخلط، أن قمة جبل قاسيون أصبحت منصة لإطلاق الصواريخ، تقصف بساتين المزة وداريا والمعضمية وجديدة عرطوز…فيتخيلونها من قوة صوتها تعبر نوافذ غرفهم. بعد أشهر قليلة، أصبحت الأصوات عادية، حتى أن الهدوء بات ينذر بالقلق ويسبب الأرق.

الكتاب الذين أعلنوا مواقفهم كناشطين مع الثورة، فهم إما في المناطق المحررة، أو رحلوا خارج سورية، أو في الداخل، سواء الذين جهروا بمواقفهم أو لم يجهروا ، يعملون بصمت ويتحركون بحذر، متخفيين في أماكن سرية، وعلى علاقة  وثيقة بالناشطين الشبان من تنسيقيات الأحياء والمدن والأرياف، يتابعون مجريات الثورة، يكتبون مقالات رأي، بعضهم بأسمائهم الحقيقية وبعضهم الآخر بأسماء مستعارة، يحللون ويفضحون أساليب النظام في القمع. لا يتجولون في الشوارع، اسماؤهم مسجلة في لوائح يحملها الجنود عند الحواجز.

أما اتحاد الكتاب العرب في سورية، فغائب عن الوعي، لا وزن له  ولا تأثير، يحاول النجاة بنفسه، فلا موقف حازم أو واضح، يدعو بخجل إلى التهدئة وإلى الحوار، هذا في البدايات. أما الآن فيؤيد الحل الأمني والعسكري. بينما الكتاب الذين وقفوا جهراً وبقوة مع  النظام، ينفذون ما يردهم من تعليمات، فيدافعون عنه بشراسة بحجة التصدي لمؤامرة حيكت في الخارج، تستهدف النظام العلماني التقدمي حامي الأقليات. هؤلاء  قلة، ارتبطت مصالحهم مباشرة مع الدولة، أغلبهم يعملون في المؤسسات الاعلامية، الجرائد والأقنية الفضائية الرسمية. ما اضطر النظام إلى الاستعانة بمتطوعين ترشحهم الأجهزة الأمنية بناء على علاقات مسبقة بينهم، من السلك الجامعي، وسياسيين لبنانيين محترفين، وأبناء النظام المتخرجين من حزب البعث ومنظماته الشعبية الرديفة ممن لديهم شهية عارمة للظهور، هيأتها لهم فرصة الحاجة لمن يمارس التحليل السياسي، بالتحايل على الحقائق، فأسبغت عليهم امتيازات بلغت حد توظيف عناصر حراسة وحماية ترافقهم، مع عائد مادي جيد، إضافة إلى منصب يتناسب مع ما يقدمونه من خدمات، ووعود بمناصب أكبر في المستقبل.

حالة حصار

يعيش الكتاب حالة حصار، تحركاتهم محدودة جداً، التشديد الأمني يمنعهم من التنقل إلا ضمن نطاق ضيق، لا يسمح لهم أحياناً بتأمين حاجيات عائلاتهم، ثمة مناطق كثيرة تحت سيطرة النظام يكون الاعتقال فيها على الشبهة دون أي دليل ملموس. لا أمان، الخطر وارد في أي مكان وأي لحظة. حياتهم اختلفت مع الثورة، وعاداتهم اليومية تعرضت للخلل. أصبحت أكثر نمطية. لم يعد بالوسع سوى التركيز على الاخبار اليومية المتدفقة على مدار الساعة، يلاحقونها من الصباح حتى المساء، يعقبها الليل على المنوال نفسه، فالعمليات القتالية لا تتوقف ليلاً. يتابعون معها أخبار التحركات الدبلوماسية حول الأزمة السورية المستعصية، والأحداث المصورة في المحطات الفضائية، ويتصلون بالأصدقاء والمعارف والأقرباء بواسطة الانترنت والفيسبوك  والسكايب، ودائماً تحت رحمة مفاجآت عدم انتظام الكهرباء وانقطاعاتها  الدورية وغير الدورية، لا يمكن التكهن بالزمن اللازم لإعادة وصلها، بعد دقائق أو ساعات، احياناً تستغرق يوما أو أكثر.

مخبرون في كل مكان

بالنسبة إليّ، شكلت وسائل الاتصال تعويضاً عما عانيته من تضييق، منعني من اللقاءات الشخصية، أو على الأقل أصبحت معقدة وغير ميسرة. مقابلة صديق كانت تأخذ مني نصف ساعة من الزمن للوصول إلى مقهى «الهافانا» أو الروضة». في العام الثاني للثورة، باتت تستغرق  ثلاث ساعات وأكثر، لاضطراري إلى ارتياد طرق التفافية قد تعيدني إلى المكان الذي جئت منه. أغلب الشوارع مغلقة أمام السيارات، خاصة التي تمر إلى جوار مقر أمني أو حكومي. الاختناقات المرورية تسهم فيها كثرة الحواجز التي باتت من فرط ازدحام السيارات المتوقفة تشكل دروعاً بشرية تحمي الجنود من هجمات الثوار، دون استثناء الطرق الرئيسة الداخلية، فمثلاً الطريق إلى مقهى «الروضة» وهو يقع في قلب العاصمة، مغلق من ساحة «السبع بحرات»، مروراً بشارع «العابد»، حتى شارع «الحمراء». لا يمكن تحديد موعد والتقيد به. من الطبيعي تأجيله إلى يوم آخر أو الغاؤه لصعوبة التنقل. حالة المقاهي أيضاً لا تشجع على الاستئناس بصحبة الأصدقاء، تفتقد إلى الأجواء المسترخية، ولا تخلو من المخبرين، يقومون برصد أي تجمع صغير والتقاط صور بالموبايلات ترفق بتقارير أمنية عن كل شخص يدخل المقهى، وكثيرا ما اقتحمها رجال الأمن والشبيحة، واعتقلوا الجالسين لمجرد إخبارية عن وجود مطلوبين. وتفرغ من الرواد قبل الساعة السادسة مساء. طوال ما يقارب العامين والأحوال على هذه الشاكلة، وتزداد سوءاً من يوم لآخر.

كوابيس النهار والليل

حمَّى الأحداث وجنون القتل تلاحقني في أحلامي، كوابيس في النهار وكوابيس في الليل. ودائما أفتقر إلى المزيد من الأخبار، فالثورة متوزعة في أرجاء سورية، تخفت في منطقة، لتشتد في أخرى: دمشق، حمص، حماة، حلب، درعا، أدلب، دير الزور… والأرياف المحيطة بها من بلدات وقرى، تلك التي لم نسمع بها من قبل، تخرج من دائرة التهميش، إلى دائرة الضوء، أماكن نائية مغمورة، تظاهرات أهاليها السلمية تتصدر نشرات الأخبار، يثابرون أسبوعياً على التظاهر وأحياناً يومياً، المدهش صلابتهم وثقافتهم وتعاضدهم حتى الموت مع المناطق الثائرة والمنكوبة، شعارهم: «الشعب السوري واحد». اكتشاف سورية المجهولة وتعرف السوريين إلى بعضهم بعضاً، كان واحداً من ايجابيات الثورة. إن دل إلى شيء فإلى الوعي الكامن في شرائح المجتمع، التحلي بالمسؤولية والاخلاص والايثار والتكافل الجماعي، وكشفت عن قدرات خارقة لأناس لم ينطووا على مآسيهم الشخصية، فقدوا الآباء والأبناء والأزواج والزوجات، بل صارت دافعاً للمقاومة. أصبح للوطن قيمة كبرى يهون معها الموت، للحرية أضحياتها، ولقد كرموها بأغلى ما لديهم.

 ليست حياة الكاتب مريحة على الرغم من العزلة التي يطمح إليها، مادامت عزلة محفوفة بالقلق. يدرك أن عزلته قسرية، لا يستطيع التجوال في المدينة، والاطلاع عن قرب على ما يجري، ولو كان الحدث على بعد مئات الأمتار من بيته، إضافة إلى استحالة السفر بأمان داخل حدود الدولة، وصعوبته  خارجها. بلد مقطع الأوصال، يضم اقطاعيات تشق على الحصر تابعة لجيش النظام أو الجيش الحر، وأيضاً للعصابات المسلحة. الاشتباكات لا تهدأ في أرجاء البلاد من أدناها إلى أقصاها، ولا يستبعد أن تصل فجأة إلى الحي الذي يسكنه. المنزل لا يمنح شعوراً بالاطمئنان، قد يداهم في أية لحظة من قبل جنود النظام أو رجال الأمن والشبيحة، وربما قذيفة تدخل من الشرفة أو تثقب السقف (قبل أشهر قليلة ضربت قذيفة هاون الطابق الثامن من بنايتي). لا ضمانة، لا فرق بين مدينة وبلدة وقرية. التهديد متواصل، بالموت أو الاصابة بعاهة قد توفرها مصادفة عارضة بتفجير عند منعطف الشارع، أو قطع الطريق، أو المرور أمام حاوية للنفايات، أو سيارة مركونة  إلى جوار الرصيف.

الهروب من الموت

تعيش سورية تحت وطأة حرب يدور الجزء الأكبر منها في الأرياف والبلدات والمدن التي نجحت في التمرد، وآوت لديها الجنود المنشقين عن الجيش العقائدي، لا تختلف فيما بينها إلا في حجم التدمير الممنهج الذي أصابها وأعداد الشهداء الذين سقطوا، وضاعف قصف الطائرات اليومي من تهجيرهم. فحمص التي هدمت أغلب أحيائها وهاجر سكانها، حلّ الآلاف منهم في دمشق، سكنوا في أحيائها  وضواحيها، استأجروا منازل حسب قدراتهم المادية، والكثيرون منهم أقاموا في الحدائق والمدارس والملاجئ. فلاحقهم جنود النظام وشبيحته، اعتقلوا شبانهم واضطهدوا رجالهم ونسائهم. مئات آلاف اللاجئين من المدن والقرى تركوا بيوتهم خراباً إلى داخل سورية أو الدول المجاورة هرباً من القتل، وبعضهم بلا مأوى يتنقل من مكان لآخر. لم توفر العقوبات الجماعية أسلوباً وحشياً لم ترتكبه، فقصفت الأفران في وقت الذروة، ومحطات الوقود المزدحمة، والحصيلة أعداد أكبر من الشهداء الأطفال والنساء وكبار السن.

دمشق المحتلة

تحت سمع العالم وبصره، يعيش السوريون محنة واحدة، متعددة الجوانب ومرشحة للتفاقم، يتشاركون الوقود القليل، والخبز الأقل، والبرد القارس، وأمراض أصبحت مزمنة، وعاهات دائمة، والنزر الضئيل من الكهرباء، والكثير من الرعب والموت  وشظف الحياة.

من يتجول اليوم في شوارع دمشق العاصمة، المدينة الوادعة، الآمنة والهادئة، هذا ما كانته، وهو زمن يبدو الآن بعيداً جداً، كأنه لن يعود أبدا، يجد نفسه وسط ثكنة عسكرية، تعج بمناظر فظة ومستهجنة، الأسوار الاسمنتية العالية، استحكامات الأكياس الرملية، وعسكر بلباس الميدان الكامل، يستوقفونك بخشونة، يرطنون بالشتائم، ويستفزونك بغلاظة، يسددون أسلحتهم نحوك ويسألونك عن هويتك. هذا جيش احتلال.

ومنهم  أيضاً الكثيرون الذين يؤدون الخدمة العسكرية، تلاحظهم غير راغبين بما يقومون به، يتعاملون مع الناس بلطف، يتبادلون الكلام معهم بخجل، متعبين يعانون من الحر والبرد، وأيضاً من الجوع. عندما تصادفهم تطمئن، ليسوا قلة، ولا نادرين. هذا جيش البلاد الذي يحاول النظام تشويهه والقضاء عليه. هؤلاء الشبان معرضون للموت من الجانبين، من ضباطهم إذا راودتهم الشكوك فيهم، ومن الثوار لأنهم جنود.

دمشق مدينة محتلة، رهينة النظام، ومفتوحة على الدمار. الأحزان لأهاليها، والأفراح لمؤيدي النظام، يطلقون الرصاص بوفرة وكثافة احتفاء بخطابات الرئيس. عربات الزيل كتب عليها «الأسد أو لا أحد»، «الأسد أو نحرق البلد». الجنود يهتفون: «الله، سورية، بشار وبس».  قصف وانفجارات وتفجيرات، طائرات الميغ والسوخوي الروسية تحلق في السماء، يُسمع دويها ثم تُرى بالعين المجردة، تطلق صواريخها من بعيد على أبنية يظللها الغبش الرمادي، لتظهر بعد قليل مآذن الجوامع تبتهل إلى السماء من خلال الدخان المتصاعد.  طائرات الهيلوكوبتر تحوم ثم تنقض على الأرض تمشط البساتين والحقول، كأنها تقوم برش المبيدات على الحشرات، بينما هي ترش الرصاص على كل ما يتحرك. جبل قاسيون الذي تعودنا على الاطلالة منه على منظر دمشق الساحر في الليل، زرع بمنصات لإطلاق الصواريخ.  القناصون يعتلون الدوائر الحكومية ومعظم الأبنية السكنية العالية.  الطرق الرئيسة والفرعية والأزقة والساحات والأسواق تتقاسمها اللجان الشعبية وشبيحة مدججين بالأسلحة وجعب الذخيرة. تراهم جالسين على الكراسي والكنبات المنهوبة ، يشربون المتة والشاي ويدخنون الأركيلة ، وخلفهم كتب على الجدار: «شبيحة للأبد لأجل عيونك يا أسد».

 الكتابة بالنسبة إلى الكاتب تعني العيش. لكن الظروف الاستثنائية  القاهرة تمنعه من الكتابة والعيش معاً.  مشاهد تدمير المنازل والأفران والمساجد والكنائس لا تخلو منها نشرة أخبار. القنص طال الأطفال والنساء والشيوخ، والقنابل أتت على المزروعات والأشجار والحيوانات.  مشاهد تستحوذ على ملكات الكاتب، وتعطل خياله، لا يستطيع التفكير بمعزل عنها.  أشياء لا يمكن أن تخطر له، تتجسد أمام عينيه، تتجاوز كل ما يمكن توقعه؛ أن تشكل الدولة ميليشيات حاقدة، وألا يزيد جيش بلاده «حماة الديار» عن غزاة ينهبون البيوت والمحلات التجارية، حتى ازدهرت أسواق طائفية خصصت لبيع المنهوبات، وانتشار الخطف لقاء فدية، تقوم به عصابات قتل وسرقة انتشرت جراء الفوضى التي شجع عليها النظام من اجل خلط الأوراق،  وقد يستولي الخاطفون على المال، ولا يرجع المخطوف إلى اهله. رجال الأعمال والتجار، يتجنبون ركوب سياراتهم الفارهة الحديثة، ويستقلون سيارات متواضعة  صغيرة الحجم للتمويه .

لا يستطيع الكاتب تجاهل ما يجري. سواء كان مهدداً بشكل مباشر بسبب مواقفه أو لم يكن مهدداًً. تسكنه مأساة بلده، قد يتفتت إلى شيع متقاتلة، أو ينفرط  إلى دويلات صغيرة متعادية . يخشى ما هو قادم، ويتكهن بما يمكن توقعه، وهو الأسوأ دائماً. الكتابة عسيرة وشاقة، يفتقد الكاتب إلى التركيز الذي هو بأمس الحاجة إليه ليكتب شيئاً ما، ليشعر أنه يتنفس نزرا يسيراً من الهواء يبقيه على قيد الحياة. الكتابة  في هذه الأحوال، ليست لغواً، إنها عذاب، إزاء تدمير اجتماعي وروحي واخلافي، يقف امامه عاجزاً، ومع هذا يحاول.

الأصدقاء في تناقص، منهم من اعتقل أو قتل، أو تخفى، أو انكفئ في بيته لا يغادره إلا للضرورة القصوى. أو مات متحسراً على وطن ينتحر بأيدي أبنائه، ويتحلل إلى خرائب وركام وجثث. أما الذين نجحوا في الرحيل إلى بلد مجاور أو بعيد، فقد ندموا على الهجرة، يحنون إلى الأهل والأصدقاء والأجواء الحميمة، والناشطون منهم  افتقدوا صلاتهم بالعمل على الأرض، واضطروا إلى الصمت كيلا ينكل بعائلاتهم؛ جميعهم يفتقدون سورية، مع أن مدنهم وقراهم  ومنازلهم احترقت، وجاء دور العاصمة، دمشق مقبلة على الاحتراق.

قبل الثورة، كان الكتاب السوريون يشعرون أنهم يقيمون في معسكر اعتقال كبير بحجم سورية، لكونهم محرومين من التعبير عن آرائهم، والكتابة في بلدهم، ما دفع اعداداً منهم إلى نشر مقالاتهم وكتبهم في الخارج، غالباً في بيروت، حتى ملأت مقالاتهم صحف العالم العربي. معسكر الاعتقال الذي كان افتراضياً  تجسد بمعسكر واقعي، أصبح بحجم سورية، هذه المعسكر آخذ في التضاؤل، سورية تتحرر، ومساحة الحرية تكبر، تسري فيها أنهار من الدماء، للحرية ثمن باهظ.

 كان من  أولويات النظام  القضاء على الجنود المنشقين والثوار حملة السلاح. لكن في الوقت نفسه، لم يتسامح مع المتظاهرين الشبان ولا المعارضة السياسية، ولم يتغاض أيضاً عن الأدباء الناشطين في المجالات الانسانية. سجل مؤخراً القبض على الكثير من الباحثين والأدباء ومنهم : ابراهيم الخريط قاص وروائي، أعدم ميدانياً أمام عائلته وألحقوا به ابنه. محمد رشيد الرويلي، كاتب وروائي عثر على جثته متفسخة بعد شهرين من اختطافه إثر اجتياح قوات الجيش لمدينته دير الزور . محمد نمر المدني، كاتب وباحث، قتل تحت التعذيب في أحد فروع المخابرات.  هؤلاء المثقفون سلاحهم الوحيد هو القلم، أما جريمتهم فمشاركتهم في التظاهرات السلمية والأعمال الاغاثية على الرغم من انتسابهم إلى اتحاد الكتاب التابع للدولة ولحزب البعث الحاكم.

لم تشهد سوريه نظاماً أكثر فتكاً وبطشاً منه، وإذا كان يزعم أنه يحارب الإرهابيين والمتطرفين الاسلاميين، فقد مارس الارهاب على شعبه طوال أربعة عقود. ذريعة الارهاب اختلقها  لإقناع امريكا وأوربة بأنه يقاتل الارهابيين أعداؤهم. الجيش الحر ليس ارهابياً، بل جزء من الشعب، تكوينه الأساسي من الجنود المنشقين عن الجيش النظامي الذين  رفضوا إطلاق النار على المدنيين من الأهالي العزل  في المناطق الثائرة. الاسلاميون القادمون من البلدان المجاورة وغيرها، لا يزيدون عن ألفي مقاتل، يحاربون النظام لاعتقادهم أن الدين يحضهم على الجهاد، ومساعدة اخوانهم المسلمين المنتفضين ضد سلطان جائر. وإذا كانت هناك مشكلة في وجودهم فهي مشكلة سورية، فلا أحد يستعيرها او يجيرها لأهدافه.

في بلدة صغيرة في شمال سورية تدعى «كفرنبل» ، يبتدع  شباب من الفنانين المغمورين، أصبحوا أشهر من نار على علم، رسومات كاريكاتورية وكتابة لافتات تعبرعن الحس الشعبي الدقيق في التعبير. كتب على إحداها بسخرية: «في ظل تخاذل العالم سيتحول السوريون إلى ارهابيين» نعم ، قد تُحول مماطلات  الدول الشعب الأعزل إلى قنابل انتحارية من فرط يأسه من إنكار ثورته. شعب بات وحيداً يستنجد الله بهتاف يخرج من صميم الروح: «يا الله ما النا غيرك يا الله». ما الذي يمنع السوريين في هذه الحالة من الالتحاق بالجهاديين؟  إن الذين يخافون من المد الارهابي يسهمون بتقاعسهم في إقامة حاضنة له. لا، لم يكن لآلة القتل القدرة على الاستمرار في ذبح الشعب السوري، لو أن الغرب اعتقد فعلاً أن الانسانية لا تبيح له تحت أية ذريعة، إعطاء المهل للقاتل كي يمضي في جرائمه.

يستذكر الشعب السوري تاريخاً لن يعيد نفسه، مجزرة حماة التي صمت عنها المجتمع الدولي في عام 1982، وذهب ضحيتها عشرات الآلاف من أهالي حماة، نجح فيها الرئيس الأب في تأديب سورية بعقوبة كانت كفيلة  بكتم أنفاسها أربعة عقود. هذه المجزرة الهائلة لن تجعل الأبناء يرضخون كما رضخ الآباء، حتى لو تواطأ المجتمع الدولي، أو تجاهل وصمت، أو اكتفي بإطلاق التهديدات؛ الثورة مستمرة.

منذ بداية الثورة، أعلنت موقفي المؤيد لها في عدة مقالات نشرت في الصحافة العربية. وبعد مضي أكثر من سنة ونصف، غادرتُ سورية، ليس بسبب تهديد مباشر، أو التعرض لخطر، يستحيل التنبؤ بما يمكن أن يحدث. كل من يعتقل، بصرف النظر عن السن أو المكانة أو العمل، سيكون مصيره مجهولاً تماماً، يعتمد على الحظ والمصادفة. في الحروب الهمجية، الحظوظ  معدومة، والمصادفات قاتلة. عشت منذ بدء الاحتجاجات في حلقة مفرغة، داخل دوامة من  أخبار تحطم الأعصاب، صور شهداء شبان في زهرة العمر، تركوا دراستهم الجامعية والتحقوا بالثورة، عائلات بأكملها ماتت تحت الركام، ناشطون شبان أعدموا ميدانياً، معتقلون على الحواجز أو أثناء المداهمات قتلوا دعساً بالبساطير، وفعست رؤوسهم بالأحجار. متطوعو اسعاف وإغاثة اعتقلوا وأعيدوا جثثاً هامدة. أطفال قتلوا برصاص القنص عن قصد، نساء صرعى أجسادهن ملقاة في الشوارع لا يستطيع أحد الاقتراب منهن خوفاً من القناصة….الخ . سعيد من يجد من يدفنه سواء في قبر أو حفرة، بدلاً من أن يترك طعماً للكلاب.

السبب في رحيلي الشعور بالشلل والإحساس بالاختناق في حيز ضيق. إنها الحاجة إلى إيجاد مسافة بيني وبين الدمار في بلدي، ربما أستطيع أن أكتب شيئاً. هذا الحدث الهائل لا ينبغي أن يمر من دون الـتأمل فيه، رواية تحتوي على مشهدية  عاصفة مفتوحة على كافة الاحتمالات، ربما كنت واحداً من الذين سيكتبونها.  وإذا كان لي التعبير عن حق شعبي في الحرية والعيش بكرامة.، فهذا المقال في هذا الاتجاه، دفاع عن شعب  أوكل  النظام اخضاعه لسفاحي أجهزة الأمن، وللمجرمين القتلة من الجيش العقائدي، وللشبيحة الذبيحة سفاكي الدماء. ما يظهر في الاعلام قدر ضئيل لا يكاد يذكر مما يجري فعلاً، ومن دون أية مبالغة لاستدرار العطف والتأييد. يكفي القول أن عمل القناصة، قتل الرجال الذين يجهدون للحصول على ربطة خبز، والأطفال الذين يعانون من البرد، والنساء اللواتي يحاولن انقاذ أولادهن…

المؤسف ان سياسات الدول اختارت متعمدة  النظر إلى الثورة من منظار انتهازي، منظار المصالح التي تبرر لهم ترك شعب بكامله للموت وللنزوح، وألا ينظر إليها على أنها ثورة ضد الطغيان، فلم ير المجازر اليومية،  ولا  الستين ألف قتيل، ولا إعدام الآباء أمام زوجاتهم وأطفالهم، ولا اغتصاب الفتيات أمام امهاتهن، ولا القصف بالصواريخ بعيدة المدى، ولا الرغيف المغمس بالدم… ولا الفيديوهات التي يسربها النظام متباهياً بتفنن شبيحته في القتل والتمثيل بالجثث، فيديوهات تشكل إدانة كاملة  لما يرتكبه بوحشية وصلف.

 نحن السوريين لن ننسى؛ الغرب تعمد العمى.

ما نؤمن به، رغم كل ما يشاع عن الاسلام والارهاب، أن الدين والأخلاق قيم سامية، وأن السياسة ليست على عداء مع الضمير. وأن ثقافة الغرب رائدها العدل، لكن البون شاسع إلى حد التناقض، بين ثقافته وسياسات حكوماته، وطموحات زعمائه الذين يحلو لهم التشدق بالحريات وحقوق الانسان، ويتجاهلون القمع والمذابح والمجازر مع انه بوسعهم  وضع حد لها، بوقف اطلاق النار. لكن ولنتذكر، للسياسيين الغربيين  جذور في ثقافة الحق والعدل ،وجذور في اتقان الرياء والنفاق. أيهما سيرجح؟ ندرك أن الخيار صعب. لكن إن توفر الضمير ، لن يحتاروا.

نعرف، أنه في حال نجح النظام الدكتاتوري في القضاء على الثورة، فلن يكون إلا بمباركة غربية. والفضيحة عندئذ لن تكون دولية فقط، بل إنسانية أيضاً

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *