سوريا من الربيع الى العاصفة

  مازال الحديث عن العقود الخمسة الأولى من القرن العشرين المنصرم في سورية حيث لم تكن الهوية الوطنية العربية عاصماً للثوار الذين حملوا السلاح من الانجرار إلى الفتن الطائفية والعنصرية ، وحسب ، وإنما قبل ذلك ومعه ، وعلى التوازي مع ذلك كانت الساحة الوطنية تموج بالجمعيات والمنتديات والحركات المدنية والسياسية التي تناضل ثقافياً وفكرياً ومعرفياً لحماية النسيج الاجتماعي الوطني عبر مواجهة النعرات الطائفية والمذهبية بالاعتصام ورفع شعار الدين لله والوطن للجميع ، وكذلك مواجهة الدعوات العنصرية والشوفينية بتعزيز قيم ومبادئ المواطنة والمساواة بين المواطنين ، وقد كانت الهوية الوطنية العربية عنوان المواجهة المدنية والمسلحة  خلال تلك العقود من القرن العشرين المنصرم ، وقد تعزز ذلك النهج الوطني رغم أن التحدي الوطني انتقل من مواجهة سياسة التتريك إلى مواجهة الاستعمار الفرنسي وكان الخطاب الوطني يكاد يكون متناغماً سواء في ساحات المواجهة المسلحة ، أو على منابر الجوامع والكنائس والمنتديات والجمعيات وخلايا الحركات السياسية على تنوع منطلقاتها وغاياتها ، والشواهد على ذلك تكاد لا تحصى فكراً وأدباً وتراثاً تاريخياً ودينياً وشعراً وفناً .

               يكفي أن نشير في هذا المجال إلى أن حكومة الاتحاد والترقي التركية كانت بالإضافة إلى السياسة العنصرية التي اتبعتها ضد الأمة العربية بمكوناتها كافة إلا أنها بالإضافة إلى ذلك كانت تحاول اللعب على بث الفرقة بين المواطنين في سورية على أساس عرقي : عرب وأكراد وشراكسة وتركمان وأرمن ثم على أساس ديني مسلمين ومسيحيين ، ثم على أسس طائفية بين المسيحيين ، ثم على أسس مذهبية بين المسلمين ، وعندما حل الاستعمار الفرنسي مكان التركي في احتلال حصته من سورية الطبيعية وبدأ باحتلال الساحل السوري بما في ذلك متصرفية لبنان كشف فوراً عن نواياه بإقامة دويلات طائفية ومذهبية وعنصرية بدأ بلبنان ثم كانت محاولته الثانية في اللاذقية  والثالثة في دمشق والرابعة في السويداء والخامسة في حلب والسادسة في جزيرة الفرات والسابعة في الاسكندرونة وكيليكيا التي قدموها ترضية للأتراك فيما بعد عندما أفشل الثوار في جبال “اللكّام” مؤامرة الاستعمار الفرنسي بأقامة “الدولة العلوية” ، لكن ، ورغم المحاولات المستميتة التي بذلها الأتراك ، ومن بعدهم الفرنسيين ورغم الإمكانيات الدولية الهائلة التي كانت متوفرة لكلا القوتين لم تشهد الساحة في سورية في تلك المرحلة وحتى جلاء قوات الاستعمار الفرنسي تشكيل ، أو حتى دعوة لتشكيل حركة أوحزب أو مؤسسة سياسية لطائفة أو مذهب أو عرق فقد كان الشعب الأعزل المحاصر يواجه كل تلك التحديات العنصرية والطائفية والمذهبية بمزيد من التلاحم الوطني والمقاومة الوطنية في شتى المجالات الفكرية والعقائدية والسياسية وحتى بالمقاومة المسلحة وعلى امتداد ساحات الوطن متمسكاً بوحدته الوطنية .

              فمنذ عشرينيات القرن المنصرم ، ومع إرهاصات تشكل الأحزاب والحركات السياسية في سورية نلحظ ، ومن باب التوثيق التاريخي ذلك الإصرار الوطني على تواجد كل الطيف الوطني في سورية ، طوائف وأعراق ومذاهب ، في الهيئات التأسيسية لتلك الأحزاب والحركات بينما كانت الغائية الاستراتيجية لتلك الأحزاب والحركات تنطلق من مبدأ المواطنة المتساوية في سورية وتتجاوزها إلى سورية الطبيعية ، أو إلى الوطن العربي ، أو إلى العالمية والأممية هكذا تأسس الحزب الشيوعي السوري والحزب القومي السوري والكتلة الوطنية وحزب الشعب وعصبة العمل القومي العربي وحزب البعث العربي وحزب الاشتراكيين العرب وحزب البعث العربي الاشتراكي وحركة القوميين العرب … وهكذا من خالد بكداش وعصام المحايري وجلال السيد وسعد الله الجابري ألى وهيب الغانم ومحمد الخير وأكرم الحوراني وزكي الأرسوزي وهاشم الأتاسي ومشيل عفلق وصلاح البيطار وهاشم الأتاسي وشكري القوتلي وجميل مردم بك ومن سعيد اسحاق إلى فارس الخوري إلى مصطفى السباعي وعصام العطار وصبري العسلي وخالد العظم وفخري البارودي وعشرات عشرات الشخصيات الوطنية التي ساهمت في مأسسة النضال الوطني في أحزاب وحركات سياسية وطنية بالتزامن والتكامل مع الكفاح المسلح في مواجهة الاستعمار الفرنسي … لم يخطر على بال أحد من أولئك الوطنيين في تلك المرحلة التاريخية تأسيس حزب كردي أو عصبة علوية أو حركة درزية أو حزب مسيحي أو حزب تركماني أو حركة أرمنية أو حركة شركسية أو حزب دمشقي أو عصبة حلبية رغم أن الاستعمار الفرنسي كان قد أعلن قيام “دولة العلويين” و”دولة الدروز” و”دولة دمشق” و”دولة حلب” و”دولة دير الزور”  .

               صحيح أن ذلك النضال الوطني أفشل مخططات تقسيم دولة سورية الحالية لكن استقلال دولة سورية ترافق مع شعور عارم بالغضب الوطني حيث ترافق ذلك الاستقلال بتلك الخطوط التي رسمها سايكس وبيكو على الاتحاد والانفراد ، والتي تحولت إلى حدود تفصل عائلات عن بعضها بعضاً ، وتفاقم ذلك الغضب الوطني مع سلخ لواء الاسكندرون ، ثم مع إعلان “دولة المستوطنات الصهيونية” في فلسطين فبدت دولة سورية وكأنها في حالة حصار من الجهات الأربع ، وهنا برزت مسألة الهوية مرة اخرى لتكون الأساس في البنيان الوطني فهاهو رئيس الجمهورية يقول وهو يرفع علم الاستقلال لن يرتفع علم فوق هذا العلم إلا علم دولة الوحدة العربية ، ثم يأتي البرلمان المنتخب بعد الاستقلال ليشرّع دستور 1950 الذي ينص في ديباجته التي هي المصدر الذي يستمد منه الدستور مواده على الكفاح من أجل تحقيق الوحدة العربية لم تكن هوية القومية العربية ترفع كهوية شوفينية أو عرقية ، وإنما كهوية وطنية للمساواة بين مختلف أطياف الشعب بدليل أن البرلمان الذي شرع الكفاح لتحقيق الوحدة العربية برئاسة رشدي الكيخيا فعل ذلك قبل أن تدخله اية قوى سياسية ترفع راية القومية العربية وهذا دليل أن الهوية الوطنية العربية كانت الهوية التي يحملها الشعب في سورية على سجيته ، وبالتالي ، فجميع القوى السياسية كانت تستجيب لذلك المطلب كمنطلق وطني .

                هكذا فأن الشعب في “دولة سورية” ماكاد يمتلك إرادته وقراره في فترة شبه ديمقراطية من عام 1954 إلى عام 1958 حتى انتظم في إطار مقاومة شعبية لمواجهة عدوان 1956 على بور سعيد ، ثم تطوع العديد من المناضلين في صفوف الثورة الجزائرية وعمت الاعتصامات البلاد لتحرير فلسطين والاسكندرون وعربستان وكان لذلك كله تأثير طاغ على المركز ، أو إقليم القاعدة في مصر فاستجاب جمال عبد الناصر وقامت الجمهورية العربية المتحدة ….

                لقد كان الهدف من هذا الحديث الذي طال أكثر مما ينبغي التأكيد على أن ما يجري الآن في سورية لن تقتصر نتائجه على دولة سورية ، ولعل هذا ما يفسر كل هذا الذي يجري فيها ، فرياح الربيع العربي إذا انطلقت من سورية ستكون هي العلاج للتعثر ومحاولات الإجهاض والاحتواء التي يتعرض لها الربيع العربي في تونس ومصر وليبيا واليمن… فرياح الربيع العربي من سورية ستهزم العواصف التي تثار بفعل فاعل بين المحيط والخليج …

                أرادوها … سورية من الربيع إلى العاصفة ، لعل تلك العاصفة تعصف بالربيع العربي بين المحيط والخليج كما يتوهمون … ، لكن هناك من يحلم ، ونحن منهم ، أن سورية تتجه من العاصفة إلى الربيع العربي الذي سينثر أريج الياسمين بين المحيط والخليج … إنه الحلم يولد من قلب المأساة والأحزان … إنه الرهان الأخير ، ربما ، لعجوز مثلي …!

 

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *