هجرت مدفعية النظام عددا كبيرا من مسيحيي مدينة حمص، وهجرت تصرفاته العنيفة أعدادا لا يستهان بها من مسيحيي حماه، وذهب هؤلاء وأولئك إلى منطقة وادي العيون ووادي النصاري، التي يقطنها مئات آلاف المسيحيين الأرثوذكس، حتى ليقدر من فيهما بنيف وقرابة ثمانمائة الف مواطنة ومواطن .
وكان النظام قد حاول استغلال هذا الوضع بترويج أنباء كاذبة حول قيام \”الإرهابيين\” بتهجير المسيحيين من حمص، غير أن منتسبي الجيش الحر من مسيحيي المدينة نقلوا صورة حقيقية لما جرى تقول إن التهجير تم بسبب القصف المدفعي والصاروخي الرسمي، وأن من غادر حارته أو بيته تلقى وثيقة تتضمن تعهدا بأن يغادره ساكنوه من أبناء الأحياء الأخرى، الذين اضطرهم القصف عينه لهجر منازلهم واللجوء إلى أحياء المسيحيين، بمجرد عودة أصحابها أو أي فرد منهم إليها، بينما أجرت لجان شعبية جردا لما في البيوت من أثاث وأدوات كهربائية وتجهيزات، وتم بالفعل إعادة المنازل إلى أصحابها، حين عاد هؤلاء ولو لبضعة أيام إلى مدينتهم من المناطق التي تم تهجيرهم إليها .
واليوم، حدث شيء مخيف هو أن بعض الكتائب الجهادية هدد المسيحيين في منطقة الغاب، وبالتحديد في بلدتي محرده والسقيلبية وسط سوريا، بالويل والثبور وعظائم الأمور، إن لم يطردوا عسكر النظام وشبيحته من بلدتيهما، الأمر الذي أثار موجة ذعر كبيرة بين الأهالي، الذين لم يشاركوا يوما في القتال ضد الكتائب أوالجيش الحر، وقاموا بإيواء الآلاف من إخوانهم مسلمي منطقة الغاب وقراها في بيوتهم، وأكرموا وفادتهم وعاشوا معهم على \”الحلوة والمرة\”، كما يقول اللسان العربي، عندما هجرهم النظام بالقوة من قراهم على الجانب الشرقي من الغاب وخاصة من قلعة المضيق.هذا التهديد استغلته السلطة للزعم بأن هناك مخطط أصوليا لتهجير المسيحيين من وطنهم يشبه تهجير مسيحيي العراق على يد هؤلاء، وبأن القوى التي فعلت ذلك هناك ستقوم به هنا، وزاد من تأكيدها على هذه الأكذوبة أن مسيحيي قرية \”المسمية\” الحورانية في أقصى جنوب سوريا تلقوا تهديدات مماثلة من \”جبهة النصرة\” طاولت وجودهم فيها، بحجة أنهم يدعمون الشبيحة وجيش النظام.
لمن لا يعلم من جبهة النصرة وغيرها من الجبهات: تضم منطقة وادي النصاري أكبر تجمع مسيحي في المشرق العربي، وهي على تماس يومي مع مناطق مسيحية في لبنان، لذلك فكر الفرنسيون بضمها إلى دولة مسيحية هناك مقابل ضم طرابلس والمناطق المسلمة المحيطة بها الى سوريا ، لخلق أغلبية مسيحية كاسحة في بلاد الأرز. ولولا مقاومة مسيحيي الواديين وموقف الموارنة الذين ربما خافوا الغلبة العددية الأرثوذكسية، وخشوا فقدان مكانتهم المميزة بين نصارى لبنان، لربما كان المخطط قد نفذ. إذا أضفنا إلى ذلك أن بعض المعتاونين مع السلطة من عملائها المسيحيين، شرعوا يحرضون سكان الواديين على طلب السلاح وتدريب عشرات الآلاف من شبابههم على استعماله، وأنه يوجد الى جانب هؤلاء عشرات آلاف الشبان المدربين عسكريا بحكم خدمتهم في الجيش والقوات المسلحة، وراعينا أن المنطقة واسعة المساحة وفيها كتلة مسيحية تكاد تكون خالصة، وأنها تشطر أو يمكن أن تشطر وسط سوريا وتقطع طريق حلب عند حمص وحماه، وطريق اللاذقية ومدينة طرطوس في الساحل، أدركنا أية حماقة تكمن في دفع هؤلاء السوريين إلى أحضان النظام، وفي قتالهم إلى جانبه، وما سيعنيه ذلك من انقلاب في موازين القوى ضمن منطقة وسط سوريا بأكملها، ومن إطاله لأمد الحرب وتحويلها إلى حرب أهلية بأسوأ معاني الكلمة، وأخيرا من خلق شريط أرضي واسع جدا وجبلي يربط طرطوس بحمص، التي قيل لبعض الوقت إن معظم سكانها قد هجروا أو طردوا منها لأنها ستكون عاصمة دولة علوية لن تقتصر، بانضمام الواديين، على الشريط الساحلي وإنما ستقوم في القسم الشمالي الغربي والأوسط من سوريا، لتقطعها إلى نصفين ستتحكم فيهما تحكما مفتوحا، أدركنا أية جريمة يرتكبها المتطرفون بحق وطننا وشعبنا إن هم هاجموا محردة والسقيلبية والمسمية، علما بأن هزيمة من سيقاتلونهم من المسيحيين هنا لن تكون سهلة، لاتصالهم بمسيحيي لبنان المسلحين جيدا والمدربين على القتال والمتطرفين سياسيا ومذهبيا من جهة، واتباع النظام من مواطني الساحل المسلحين جيدا والمدربين على السلاح من جهة أخرى، ولوعورة المنطقة التي يمثلها الواديان ، هذا إن نحن تجاهلنا معنى نشوب معركة بهذه الأبعاد وعلى هذا القدر من التشابك مع أوضاع بلدان مجاورة وخطط تعدها دول كبرى تعمل بصورة تكاد تكون علنية لتقطيع بلادنا وإعادة تركيبها كفيدرالية أقليات وطوائف، بعد حرب أهلية طويلة يجب فعل المستحيل كي لا تنشب في وطننا، لأي سبب كان بما في ذلك سياسات التهديد والوعيد الطائفية، والمذهبية العمياء، التي لا تراعي مواطنة أو شراكة في وطن أو دين أو شراكة تاريخية وإنسانية بين بنات وأبناء الوطن الواحد .
بذل شعبنا قدرا من التضحيات يلزمنا جميعا بالحرص على انتصاره، خاصة بعد أن كاد يصل إلى الحرية : غايته المنشودة التي شرع يضحي في سبيل نيلها عقب قرابة نصف قرن من العبودية والإذلال ، فلا يجوز بأي حال أن يخضع مصيره لهذا القدر المخيف من الاستهتار والاستخفاف، كي لا تتبدل موازين القوى تبدلا حاسما وانقلابيا بينه وبين النظام، ويكون لحكامه فرصة القضاء عليه اليوم مثلما قضوا عليه عام 1982، مع فارق جوهري، هو أنه لن يبقى في حال هزم بعد كل ما بذله من جهود نيفا وعشرين مليون مواطن، وإنما يكاد يكون من المؤكد أن عدده سينقص ملايين كثيرة، وأنه لن تقوم له قائمة بعد ذلك لعقود عديدة، بسبب عمليات الإبادة المنظمة التي سيتعرض لها على يد نظامه المنتصر، الذي سينتقم منه أفظع انتقام.
هل يحق لنا تجاهل ما يجري، لأي سبب كان ، إن كانت هذه مساراته ونتائجه؟. وهل يحق لأي فصيل تهديد انجازات شعب قدم الغالي والنفيس في سبيلها ، وكاد يجني ثمرتها الرئيسة : حريته وكرامته، لمجرد أنه قرر منفردا وبدون حد أدنى من الشعور بالمسؤولية القيام بحملات تطهير مذهبي لا تسوغه ثورة ولا يقره خلق أو دين ولا تجيزه ضرورات الانتصار في معركة الموت والحياة التي يخوضها شعبنا؟. وهل يحق أخيرا،لأي كان، إبقاء هذه الأسئلة دون جواب عملي وحاسم، واتخاذ موقف المتفرج منها ؟ وهل يحق أخيرا لهيئات التمثيل الوطني السوري، كالائتلاف الوطني والقيادة العسكرية العليا المشتركة السكوت عليها أو على من يهددون وحدتنا الوطنية وانتصارنا الوشيك بسبب سياسات فئوية تتبناها لم يترتب عليها على الضرر، الذي بينت بعض جوانبه في هذه المقالة.
ليست الثورة بحاجة إلى مشاكل فرعية تنهمك فيها فتستنزف جزءا مهما من قدراتها، وتودي بحياة عدد كبير من مواطنينا، يضاف إلى أعداد من تقتلهم السلطة يوميا. ولا بد من توجيه جميع جهودنا إلى الهدف الرئيس، الذي يجب أن لا يكون لدينا أي هدف سواه، ألا وهو: إسقاط النظام والقضاء على الاستبداد، وإلا لن يكون انتصار الثورة الوشيك أكيدا. بغير ذلك، سنقتل حلمنا في الحرية بأيدينا، وسنعود إلى عبودية يستشهد الآلاف منا كل أسبوع في سبيل التحرر منها، ويعد قضاؤنا عليها التعبير الرئيس عن إرادتنا الوطنية الجامعة، التي لا يجوز لأي منا أن يشذ عنها، لأي سبب أو حساب جزئي كان، ما دام انتصارنا محالاً بجهد أي تنظيم بمفرده، دون إرادتنا الموحدة!