تصريح من جهاد مقدسي!

بعكس ماقيل عن اجازة

لقد خدمت بلادي في السلك الدبلوماسي لحوالى 15 عاماً و قمت كناطق إعلامي لفترة عام بتبني خطاب عقلاني بعيد عن الشتائم و دون إلغاء لأحد ، و كنت أمل أن يضمد جراحنا الحوار الوطني المنشود الذي للأسف لم ير النور ، لكن العنف و الاستقطاب لم يتركا مكاناً للاعتدال و الدبلوماسية.
و اعتقدت ان مجرد مغادرتي بقرار شخصي و مستقل كانت كفيلة بأن تفهم الناس أنني وددت بذلك مخاطبة “العقلاء فقط” لأن الأطراف على الأرض لم تعد تستطيع بسبب الدماء أن تسمع أي صوت.

و أقول بصراحة أن الحراك الشعبي المتمثل بالمطالب المشروعة قد كسب – بمبادئه و جوهره – معركة القلوب لأن المجتمع ” بجميع أطيافه” يقف دوماً مع الأضعف و مع المطالب المشروعة للناس ، لكنه لم يحسم بعد معركة العقول لدى السوريين لأسباب كثيرة يطول شرحها و يعرفها الجميع.
لقد وصل الاستقطاب بين السوريين لمرحلة قاتلة و مدمرة . و بالطبع كما كتب أحد الأصدقاء : “عندما تتجرأ على مغادرة سورية – بأي طريقة كانت – ستخاطر بأن توصف بأوصاف شنيعة أو تخوين أو شتائم أو بألقاب أخرى فجأة ” كما حصل معي فوراً بعد مغادرتي من قبل البعض الذين لم يلقوا مني سوى الاحترام ، و أنا أعتب على كل من يجد الوقت لتوجيه الشتائم و التخوين فوراً بدون احترام لأرواح أكثر من 65 ألف شهيد سوري . و لم يكن هناك أي لغز وراء مغادرتي بل كان قراراً اتخذته بنفسي و يعلم بتفاصيله منذ أشهر عديدة أغلب من يعرفني بدون أية اجندات مسبقة، و لم تطأ قدمي أبداً لا أوروبا و لا أميركا رغم أن جواز سفري يحمل كل السمات اللازمة، و ليس لدي أسرار يطمع فيها أحد فما أعرفه كناطق إعلامي لا يتجاوز ما يعرفه أي مواطن سوري عادي فأنا لست صانع قرار أو قائد عسكري، و لست ممن يفرط بالأمانة أصلاً ، و الدليل على عدم وجود أجندة مسبقة لي صمتي و عدم استثمار أحد لمغادرتي أبداً ، لأنني خرجت من المشهد مستقلاً لكي لا أزيد ألم بلدي و ليس العكس، ولكي لا أكون خنجراً بيد أحد ضد مصلحة سورية، و كل ذلك لم يفهمه للأسف بعض من هاجمني فوراً . و لهذا السبب أيضاً اكتب لكم اليوم مباشرة من دون منابر إعلامية و ضوضاء احتراماً لمصداقيتي لدى الناس الشرفاء لأن من حقهم سماع رأي صريح دون مزايدة و باحترام و من منطلق الحرص على البلد فقط بدون أجندات مسبقة أو عوامل شخصية قررت عدم الخوض فيها ، لقد وصلت لمرحلة وجدت نفسي كسائر السوريين ممزقاً بداخلي بكل ما للكلمة من معنى فالعنف أجهز على كل منطق و عقل في الوقت الذي تحتاج سورية فيه للعقل و الحكمة أكثر من أي وقت مضى. و بات الاستقطاب و الاصطفاف سيد الموقف و كأن ما يحصل في سورية مجرد وجهة نظر.

لقد غادرت بلدي سورية مؤقتاً لاستقر- منذ مغادرتي – لدى أخوان لنا من الشرفاء ممن يساعدون الشعب السوري على تجاوز محنته الانسانية بدون تمييز . لقد غادرت ساحة حرب و لم أغادر بلداً طبيعياً، و اعتذر من الناس الذين وثقوا بمصداقيتي على المغادرة بدون إعلان مسبق، ، فقد تمنيت لو كان بإمكاني البقاء على تراب الشام لكن لم يعد للوسطية و الاعتدال مكان في هذه الفوضى و خرجت الأمور عن السيطرة، يريدها البعض معركة وجود فيما أنا أرى أنها يجب أن تبقى معركة لإنقاذ الدولة و الكيان السوري عبر الشراكة الوطنية.

كان لدي- كسائر السوريين- أمل كبير بالاصلاح و التغيير الجذري و كانت هناك خطوات ملموسة تم اتخاذها لكن الأحداث الدامية و المؤلمة على الأرض أضاعت آمال السوريين . بأية حال ما هو مهم اليوم ليس قرار مغادرتي،و مغادرة غيري من السوريين من موظفين و مدنيين ، بل معنى و رمزية هذا القرار للسوريين العقلاء ..معنى ان تغادر و تتخلى عن كل شيء بحياتك من دون مقابل لكي توضح أن هناك من يرفض العنف و الاقتتال و ليس بيده حيلة أو قدرة على التأثير….ألم يقل السيد المسيح: “ما نفع الإنسان إذا كسب العالم كله و خسر نفسه؟” . إن كمية الدماء من كل الأطراف أكبر بكثير من قدرتي كإنسان و كأب على الاحتمال.

لقد اخترت المغادرة بهدوء لكي أكون بشكل مستقل و وطني- كسائر السوريين – مع عملية التغيير السلمي المنشودة في سورية المبنية على الشراكة الوطنية و الحوار الوطني بين أبناء الوطن الواحد بعيداً عن الكراهية و التطرف و التدخل العسكري الخارجي فهذا هو المخرج السياسي الأنسب و قد يكون الوحيد للأزمة السورية ، و أيضاً للوقوف بحرية مع الناس المظلومين لأنهم موجودون لدى كل طرف و بكثرة ، فمعركة السوري ليست مع أخيه السوري ، و لا هي معركة بين مسلم و مسيحي ، بل هي معركة تدمر سورية و لا يراد لها للأسف ( كما هو واضح من المواقف الدولية ) لا الانتصار و لا التسوية.

و يأمل السوريون اليوم بعد كل هذه التضحيات الجسيمة و المؤلمة أن تستكمل المعارضة شرعيتها عبر مد اليد للآخر و طمأنة الداخل المتنوع من كل الأطياف بأن المعارضة تعمل لانجاز الشراكة الوطنية ، فهناك الكثير من الوطنيين و العقلاء ممن هم حريصون على الدولة و على عدم انهيار مؤسساتها.

أنا أعلم أن صراحتي قد تكون قاسية على البعض من أخواني السوريين لكني اتكلم باحترام و بدون إساءة لأحد ، و بدون أي دافع سوى محبتي لبلدي الذي أراه ينهار أمام عيوني… فسورية أكبر من أحلامنا الفردية و لن نشفى في سورية إن لم نصارح انفسنا بالحقيقة … فنحن لسنا بخير أبداً … و أطمئن كل من هو مشغول البال أنني غادرت بشكل مستقل لانني غير طامع أبداً بأي منصب أو موقع و لست بمنافسة مع أحد، و أسعى لحياة مستقلة أقف فيها لجانب مبادئي و ضميري فقط ، و حتماً مع وطني الأم و ليس ضده ، بانتظار عودة العقل و الحكمة ، و قد كنت أعلم أن توقيت المغادرة لا يعني الكثير فمسؤولين كبار و مهمين على رأس عملهم غادروا و لم يؤد ذلك لتغيير واقع البلاد، و المعركة الدائرة مستمرة للأسف ، و الاستقرار ليس قريب المنال لأن العلاقات و التوازنات الدولية أهم من عذابات الناس في سورية.

ان سورية تتسع للجميع و نحن لا نتقاسم بلداً غزوناه ….لا يمكن إعادة عقارب الساعة للوراء ..هنا وصل بنا المطاف و نحن كلنا مجروحون و متألمون و غير فخورين بما حل بنا ……لكنني متأكد أن سورية لن تهون على السوريين الشرفاء و العقلاء.

أقبّل جبين أم كل شهيد و كل أب مفجوع أو أخ قُتل برصاص أخيه السوري و أعزيه و استسمحه إن جعلني موقعي الدبلوماسي أعطيه الانطباع بأنني أتجاوز معاناتهم الأليمة فنحن جميعاً أبناء عائلة سورية واحدة .
مع وافر الرحمة لجميع الشهداء السوريين الأبرار .
أكتب لكم هذه الكلمات- و لأول مرة – بالنيابة عن نفسي فقط و من القلب ، و لا أقرأ عليكم موقفاً أو بياناً رسمياً.

دامت سورية حرة و ديمقراطية …….و جامعة لكل أبناءها .
د.جهاد مقدسـي
13 شباط2013

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *