هناك حيث المدرسة كان الأستاذ –كل أستاذ- يقول لنا: «اسمعوا يا طلاب! كل طالب لديه والدان: أبوه العادي الذي خلفه، وأبوه القائد المناضل حافظ الأسد». كان الطلاب –بعضهم– يتساءلون بينهم وبين أنفسهم، لماذا لا نرى والدنا الثاني؟ لماذا لا نرى القائد شخصيا؟ هل القائد يأكل، يشرب، ينام؟ هل يدخل الحمام مثلنا؟!. أما معظم الطلاب، فكانت صورة القائد تترسخ في ذهنهم على أنه ليس كباقي البشر. رجل متجهم دائما، قاسي الملامح، يبستم باقتضاب خلال مهرجانات «تجديد البيعة»، التي كان يطل فيها عبر شرفة منزله غالبا، وهو يلوح بيده لحشود «المبايعين». عبر مراحل أخرى، كانت الصورة تزداد ترسخا في ذهن أولئك الأطفال. من المرحلة الطلائعية إلى الشبيبة. كان كل شيء يقترن بالأسد: طلائع الأسد، شبيبة الأسد، أشبال الأسد، جنود الأسد، بحيرة الأسد، قرى الأسد، سوريا الأسد. هناك حيث المدرسة، وفي الأول الثانوي، كانت تبدأ مرحلة البعث، كانت أوراق الانتساب إلى حزب البعث، توزع على الطلاب، يكتبون أسماءهم، يوقعون، من يقول لا؟ من يتجرأ؟ فيكتسب الحزب آلاف الأعضاء بلمح البصر، يكتسب الحزب أعضاء في الخامسة عشرة من عمرهم. أعضاء بعثيون لا يميزون بين ما هو بعثي وشيوعي وليبرالي!. هكذا يصبح الطلاب بعثيين، يصبحون رفاقا، لتستمر الحالة الرفاقية -مع معظمهم- إلى الأبد، إلى الممات. من هنا. من هذه المراحل، كانت تتجذر صورة القائد، صورة الأب، المعلم، المناضل والمفدى. العامل، الفلاح، المزارع والحرفي. فيما بعد، عندما مات «عظيم الأمة» –عندها لم نصدق أنه مات! تحول القائد المناضل إلى القائد الخالد. هو حي، والأمر سيان في الحياة والممات. أما المصطلحات فقد ظلت نفسها، فيما تغير متلازمتها إلى «الخالد». وبطبيعة الحال انتقلت كل هذه المصطلحات والأوصاف في سابقة غير معهودة في تاريخ الجمهوريات، ودونما عناء إلى الوريث بشار «أبو حافظ». وانتقلت معها لازمة «إلى الأبد». ازداد القنوط ازداد اليأس، هل فعلا إلى الأبد؟ وفق هذا النمط، كان تكوين الإنسان عقائديا وإيديولوجيا، هي عملية مسخ للعقل، للإنسان نفسه. كان، ولا يزال، يراد لهذا الإنسان أن يظل وفيا «لقائد الأمة» طوال حياته، يقول نعم بلا تردد أو تأتأة، يقولها مبتسما مطأطئ الرأس، هكذا يبدأ حزب البعث «نضالاته». هكذا استطاع البعث وأجهزته الأمنية، تشكيل ذاكرة جمعية، اختزنت كل تلك الشعارات وحفظتها قسرا، بفعل الخوف والرعب، جسدتهما حالات القتل والتغييب في المعتقلات. بدورها كانت الحركة التصحيحية، محور إنجازات القائد «أبو سليمان» – أبو سليمان هو الاسم الحركي لحافظ الأسد في الحزب قبل أن تصبح أبو باسل، عند بدء التجهيز للوريث آنذاك – فكل شيء من منجزات الحركة: المقعد، السبورة، الطبشورة، السدود والمدارس، ونحن لا نعلم عن حركة أبي سليمان، سوى أنها صححت مسار سوريا وتاريخها، ونظفته من «العملاء والخونة وأعداء الثورة». كتب التاريخ كلها سخرت لخدمة «والدنا الثاني، باني سوريا الحديثة». كان الآباء والمدرسة والحي، يشاركون السلطة هذه الممارسات، فأحداث الثمانينيات وما تلاها –إلى اليوم– من ممارسات أمنية، راسخة متجذرة في عقول الآباء، الذين كانوا يزيدونها ترسيخا في عقول الأبناء. كانت عبارة «هلق بياخدوك» التي يحذر بها الآباء أبناءهم، صديقة دائمة لعقولنا، أينما تحركنا وأينما نظرنا. لا تذكر القائد إلا بالخير والمديح، لا تتلعثم عند ذكر اسمه، لا تخطئ ولا تحدق في صوره شزرا وإلا «بياخدوك». أمام تلك الذاكرة الجمعية المرتعدة، كان لا بد من انتفاض يمسح كل شعارات الماضي، ويشكل معها قطيعة إلى أبد الآبدين. فكسر حاجز الصمت، حاجز الخوف والقهر على يد أطفال درعا. ثم على يد الشباب هؤلاء الشباب، الذين كان خوفهم أقل حجما من خوف الآباء، وأول ما فعلوه هو أنهم داسوا كل شعارات الماضي. كان حجم الرعب الذي رافق تلك الشعارات، يساوي حجم الغضب الذي تفجر ليطيح بها. تحولت تلك الشعارات المختزنة في اللاوعي الجمعي إلى نقيضها. وليس غريبا أن يكون لكل شعار قديم كتم على أنفاسهم، شعار جديد يمسح ذل الماضي وعبوديته، ويعبر عن طموحات شعب كاد ييئس، فتحولت إلى الأبد إلى «ما في للأبد»، وتحولت «منحبك» إلى «ما منحبك حل عنا أنت وحزبك». اليوم والآن، تتكسر صورة القائد الملهم والمفكر، تتهشم هيبة الأجهزة الأمنية، وتتحطم بفعل الثورة، رغم كل محاولات النظام وأجهزته القمعية الشرسة المحافظة على هيبة «القائد» على الأقل. إنها تجاهد للحفاظ على تلك الهيبة التي كانت موجودة قبل 15 مارس، فأطلقت شعار «أبو حافظ»، أو إن شئتم «أبو حافيظ»، بكسر الفاء وإطالتها، كما يردده الموالون «العفويون» لإغاظة سامعيه. وبات هتافا سياسيا جديدا، راح يتداول في الآونة الأخيرة خلال مسيرات «الولاء»، ليصبح هذا الشعار لازمة مقابلات التلفزيون السوري في جولاته على المحافظات السورية -بصحبة أطول علم في سوريا- لتغطية الدبكات والحفلات التي تقام على شرف «القائد الرمز». الأجهزة الأمنية بهذه الشعارات الجديدة تريد تحييد «القائد الإصلاحي بشار»، عما يجري في سوريا، ليبق هو الضمانة، ضمانة البلد والحرية والإصلاح. لذلك فهي لا تتورع في استخدام أبشع وأقسى أنواع التعذيب لإعادة الهيبة للقائد، من خلال كتابة اسم «القائد بشار» على ظهور المعتقلين، وممارسة أقسى أنواع التعذيب، هل هكذا يريد بشار «الظريف، اللي دارس ببريطانيا» أن يحكم سوريا؟ نعم، هكذا حكمها وهكذا يريد أن يحكمها، فهو لا يملك إلا سلاح الخوف ليحكم به، لكن الخوف انتقل إليه، نقله السوريون إليه، ومما ضاعف هذا الخوف لديه، رؤيته لمبارك، وهو يقول في قفص المحكمة: «أفندم موجود». مع ذلك يبدو قائد الأمة وكأنه غير مكترث بمصير مبارك وبن علي، وربما ما زالت مخيلته تصور له تلك الحشود التي تهتف بحياة «أبو حافيظ». ما زال يحلم بأنه محاط بالآلاف، يحيونه ، لكن هيهات أن يحلم مجددا بتلك اللحظات، وإن كان يحلم، فسيستفيق قريبا ليرى نفسه في قفص صغير، وقد فصله السوريون على مقاسه. هناك حيث المدرسة اليوم والآن، طلاب لا يعرفون الخوف، طلاب تفتحت أعينهم على شعب يصرخ بالحرية..لأنه لا القناصة ولا الدبابات ولا الصواريخ قادرة على استعادة هيبة «الأسد