من يتأمل الخطاب حول مجريات الأحداث في لبنان يجد بأنه خطاب متعدد الأصناف والنماذج، ولكنه يفضح العقليات والدواخل بقدر ما يكشف نمط التفكير ومعايير التقييم، لدى الكثيرين من الدعاة والمثقفين والمعلقين الاستراتيجيين.
النموذج الأول يمثله من يفرحون عند مقتل إسرائيلي واحد، ولو قضى مقابله على عشرة بل عشرات من اللبنانيين أو العرب، إنهم يعتبرون ذلك انجازاً هو عندهم مثار للانتشاء والإحساس بالنصر. ويا لها من عقلية مازوشية تقوم احتقار الذات والإعلاء من شأن الآخر،وذلك حيث العرب ينظرون إليهم كعدد أو كم من الأفراد، فيما الإسرائيليون ينظر إليهم كأفراد مميزين ذوي نوعية أو كأشخاص لهم كرامتهم وحقوقهم.
وهذه العقلية لا تصنع النصر بل النكبات، بقدر ما يحسب أصحابها الهزيمة نصراً والذل عزة، والمثال على ذلك يقدمه لنا من يحدثنا عن النصر في ملجأه الحصين، فيما أهله أو شعبه يواجه القذائف بلحمه الحي، أو يطرد من دياره منكسر الخاطر ذليل النفس. فياله من وعد بالنصر يجر إلى كل هذه المجازر والحرائق.
الصنف الثاني هو الذي يتوجه أصحابه إلى الدول العربية بالنقد وللوم، كأن يخاطبهم الواحد على سبيل التهكم: طمئنونا عنكم نحن في لبنان بخير، كما كتب بعض اللبنانيين، أو يتهمهم بالتخاذل عن نصرة لبنان، قياساً على ما فعلته إيران، في معركة هي معركة العرب جميعاً.
وهذا الموقف يصدر عن عقلية غوغائية يتحمل أصحابها من المسئولية لإلقائها على الغير، أو لتوجيه النقد في غير محله، إذ الأولى أن يكون محل المساءلة والنقد من اتخذ قرار الحرب من غير مشورة أحد، فكيف يلام العرب على قرار مصيري ، كخيار الحرب، هم آخر من يعلم به أو يشارك فيه، كما هي أيضاً حال الدول والحكومة في لبنان. ومع ذلك فإن العرب كانوا أول من هب لنجدة اللبنانيين عبر المبادرات وحملات الدعم على جميع المستويات.
أما إيران التي نمتدح شكل تدخلها المباشر أو غير المباشر، فإنها تملأ فراغاً كان يجدر بالعرب ملؤه كما يحسب الإستراتجيون، وإنما هي ورطت لبنان في حرب أحالته إلى أرض محروقة ، بقدر ما جعلته رهينة أجندتها وحساباتها، هي الباحثة عن ساحة للمواجهة أو موقع للتدخل أو ورقة للمفاوضة مع الولايات المتحدة. وما يفعله العرب الآن هو مساعدة لبنان على الخروج من هذا المأزق الخانق الذي يضعه بين فكي الكماشة، بين جحيم إسرائيل وجنون أحمدي نجاد.
ما تفعله إيران الأصولية، ومن يتحالف معها أو يفكر على شاكلتها، هو الهروب من الاستحقاقات الداخلية بشأن الإصلاح والتنمية والازدهار لكي تخوض صراعات خارجية أو تخترع قضايا غير مجدية، كإمساكها بورقة حزب الله أو الانشغال بالصناعة النووية. ولا أعتقد أن في ذلك مصلحة المجتمع الإيراني الذي تعارض أكثريته النظام القائم، بل مؤدى ذلك استنزاف موارده وشل طاقته الخلاقة على الإنتاج والبناء، أو تهديد أمنه من غير طائل. ولكن الاستراتيجي العربي الذي ينال إعجابه الموقف الإيراني ، إنما يقدم الدليل دوماً على انه يحسب المشكلة حلاُ والدمار تحريراً.
من هنا، فإن ما يطلب من العرب هو صوغ إستراتيجية بديلة ، تكون ثمرة عمل عربي مشترك، بقدر ما تكون ذات طابع إيجابي وبناء، أو مدني وتنموي،بحيث تستخدم أوراق الضغط من أجل فتح الآفاق أمام حلول سلمية، سيما اليوم حيث الحروب تعود بالضرر والدمار على الذات والغير معاً.
من النماذج أيضاً ذلك الذي يحدثك الآن عن بداية التاريخ، في حين أن الأمر يتعلق بمشاريع أصولية وبرامج دينية، متطرفة، تكفيرية، تريد العودة بالبلاد والعباد إلى الوراء وتفرض تعاليم ونماذج لا تترجم إلا بزرع الرعب وسفك الدماء وتخريب العمران واشعال الفتن والحروب الأهلية. فيالها من آخرة أن نتحدث عن بداية التاريخ، فيما لبنان يعود إلى الوراء عقوداً من السنين، أو فيما يراد للعرب أن يرجعوا القهقرى بالعقلية والمفهوم والعدة إلى أزمان غابرة كانت فعلاً بداية حضارية، بقدر ما أتقن أهلها يومئذ لغة التقليد والجمود والعجز والقصور أو العماء، بقدر ما تستبد بنا النماذج القديمة البائدة أو تستعمرنا النماذج الحديثة المستهلكة.
ثمة صنف رابع هو الغالب، ويمثله الشارع العربي بجماهيره الهائجة ونخبه العاجزة أو الفاشلة، ممن يطالبون بدعم المقاومة بصفتها تخوض المعركة الفاصلة نيابة عن العرب. بالطبع لا أقصد الذين يشاطرون اللبنانيين آلامهم . لا أقصد الطبيبة التي انهمرت دموعها من على الشاشة من هول الفاجعة. ولا أقصد الوفود التي حضرت إلى لبنان للتضامن مع المنكوبين ، كما لا اقصد أصحاب الوعي المأزوم والذاكرة الموتورة، المثخنة بالجراح من فرط الهزائم والإخفاقات. إذن أقصد المثقف والداعية أو المنظر الباحث عمن يحقق له النصر ويلأم جراحه الرمزية، ولو بأشلاء الأطفال، ولو لم يبق حجر على حجر في لبنان . هذا المثقف القومي يشكل مع الداعية الأصولي والإستراتيجي الإيراني الوجه الآخر للجنرال الإسرائيلي، من حيث المنزع الفاشي والهمجي. فهذا الأخير يقتل الأطفال بدم بارد، أما هم فإنهم يريدون لأطفال لبنان أن يكونوا وقوداً لنزواتهم الاستبدادية، أو قرباناً يضحي به على مذبح العروبة السادية أو الهدامة، أو على مذبح الإسلام التكفيري.
وبالها من آخرة أيضاً أن يدعم المثقفون مشاريع وعناوين أو حركات مآلها تكفيرهم أو استعبادهم أو استئصالهم، أو تشريدهم حيث هم في منافيهم يطالبون بدعم المقاومة وعدم إضعافها . ومع ذلك فهم يحدثوننا عن العقلانية العوراء فيما هم لا يرون وسط الرؤية من فرط التهويمات الأيديولوجية والتسبيحات النضالية التي تجرهم إلى دعم ما هو نقيض لكل ما يطرحونه أو يدافعون عنه من العناوين والمفردات. مما يدل على انهم عمي لا يفقهون معن ما يحدث.
والأطرف هم أولئك الليبراليون الذين انضموا إلى الجوقة وانخرطوا في الحشد الأعمي، حتى لا تفوتهم الفرصة، في مهرجانات التصديق والتصفيق، بعقلية الرعية والمبايعة، لكي يشهدوا على أن الكل هم أعداء ما يدعون غليه، وإنهم يتقنون لغة النضالات الفاشلة والقضايا الخاسرة والشعارات الخاوية ، بقدر ما يلفقون النظريات المزيفة أو يفبركون الأوهام الخادعة والأحلام المستحيلة لإنتاج المزيد من الهزائم والخسائر.
ولا مراء أن الصنف الأسوأ هم أولئك الذين كانوا يتمنون لو انفجر صاروخ إسرائيلي بالطائرة التي نقلت وزراء الخارجية العرب إلى بيروت . فيالها من أمنية فاضحة تكشف العقلية الدخيلة لدي قسم من المثقفين العرب. فإذا كان الذين يصنعون الرأي العام يفكرون على هذا النحو المرضي والفاشي أو الإرهابي والهمجي، فلا عجب أن تكون الحال على ما هي عليه ، في العالم العربي من الإفلاس والتردي والانهيار.
وبعد، فهذه نماذج لخطاب عربي يمارس أصحابه الوصاية على قضايا الأمة والهوية، فإذا الحصيلة ما يفاجئ ويصدم من الأهوال والمآسي التي تستنسخ النكبات والكوارث. وتلك هي المفارقة الفاضحة، من يدعون امتلاك الحلول هم صناع المشكلات والأزمات”.
عزاؤك أيها الفيلسوف المسلم الكبير، أن المجرم حسن نصر الله أعطاك الحق كل الحق و”ندم” على جريمة في حق رجال ونساء وأطفال لبنان الذين قدمهم لقمة سائغة للجيش الإسرائيلي الوريث لتقاليد الجيوش الاستعمارية المجرمة. “ندم” طاغوت حزب الله ولكن لآت ساعة منّدم.