السودان والحالة السورية: عبثية البدء من الصفر كل مرة
عند بداية الأزمة السورية سألني صديق إيراني عن تقديري لمآلاتها فأجبته أنني لا أرى طريقاً تتجه فيه سوى الصوملة، بعد أن أظهر النظام السوري بوضوح نيته في التمسك بالسلطة مهما كان الثمن، وارتكب من الفظائع ما أغلق كل أبواب التوافق. وبالمقابل فإن الشعب السوري تمرد بصورة حاسمة على النظام، ولم يعد من الممكن إعادته إلى قمقم بيت الطاعة. ومن هنا فإن المعركة بين الطرفين ستتصاعد وتزداد عنفاً، مما سيؤدي بالضرورة إلى تمزيق البلاد وانهيار الدولة.
أجدني اليوم، وبعد مرور أشهر طويلة على هذه النبوءة، مضطراً إلى الاعتذار إلى الإخوة في الصومال، لأن التشبيه يسيء إليهم. (وفي ملاحظة جانبية فإنني أيقنت أن الثورة السورية قد انتصرت يوم رأيت فتيات صوماليات يتظاهرن في العاصمة الصومالية وهن يحملن لافتات كتبت عليها: ‘يا حمص مقديشو معاكي إلى الموت’). فطاغية الصومال السابق سياد بري، وغيره من أمراء الحرب، لم يتهموا بإرسال من يذبح الأطفال أمام آبائهم، ولم يرموا باغتصاب الحرائر أمام أزواجهن وآبائهن. وفي حقيقة الأمر إن شياطين الإنس والجن من لدن هولاكو إلى يومنا هذا لم تقارب الأسد وشيعته في ممارساتهم التي ما سبقهم بها أحد من العالمين. وفي الصومال وفي غيره هناك محرمات وخطوط حمراء يتعفف حتى كبار المجرمين عن تجاوزها، أما نظام الأسد فلا يبدو أنه يتعفف عن كبيرة.
ولكن حتى إذا أمكن غض النظر عن المسألة الأخلاقية في القضية السورية ـ وهي لب المسألة- فإن حجم الدمار الذي تتعرض له سوريا كشعب وبلاد ووطن، ومشاهد المدن المدمرة والخاوية على عروشها، والخراب الذي لحق بكل شيء، يطرح مسألة العقلانية. حتى عسكرياً، نجد أن النظام ألقى بأطنان من القنابل لا حصر لها، وفقد عشرات الدبابات والمركبات، وعرض سلاح الطيران لخطر التدمير الكامل بعد أن بدأ استخدامه ضد المدنيين، وتحولت استراتيجية الثوار إلى احتلال المطارات وتدمير الطائرات.
الشعب السوري قدم تضحيات كبيرة على مدى عقود بعضها طوعي ومعظمها قهري- من أجل بناء جيش قوي يعمل على استرداد الكرامة والأرض. ولا يقلل من حجم هذا الاستثمار كون الجيش تم إخضاعه لأجهزة أمنية غاشمة، وتحويل قطاعات منه إلى ميليشيا طائفية، ولم يستخدم منذ عام 1974 إلى القتال وقتل السوريين والفلسطينيين واللبنانيين، مبشراً إسرائيل بطول سلامة. فمهما يكن، فإن تسليح الجيش، وشراء الطائرات المقاتلة وغيرها من المستلزمات وتدريب الطيارين ليست من الأمور السهلة، لأنها تخضع ـ فوق التكلفة الباهظة- لاعتبارات سياسية، وعوامل معقدة تتعلق بالظروف الدولية إضافات إلى المهارات والقدرات الاستثنائية. فالدول التي تملك هذه التقنيات لا تبيحها لكل طالب، كما أن التمكن منها والتفوق فيها ليس متاحاً للكل.
لكل هذا فإن نهج النظام السوري الذي يؤدي إلى تدمير الوطن وأرصدة البلاد هو مدخل لكارثة كبرى. وحتى بافتراض أن النظام السوري قد نجح لا سمح الله- في إخضاع الشعب السوري مرة أخرى واستعباده، فإن إعادة بناء ما هدمه ستصبح ضرباً من المستحيل. ذلك أن الطاقات والقدرات البشرية قد دمرت أو هجرت، والمجتمع الدولي لن يقدم الدعم المطلوب لإعادة البناء، وستظل سوريا محاصرة إلى أن يسقط النظام، فوق أنها قد تتشرذم كما أسلفنا إلى دويلات قد تظل متحاربة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
لهذا فإن العقل، قبل الدين والأخلاق، كان يتطلب تنكب هذا الطريق، وتجنيب البلاد مثل هذا المصير المظلم، عبر حلول توافقية تجنب البلاد كل هذا الدمار. وإذا كان مثل هذا الخيار قد تجاوزه الزمن في الحالة السورية، فإن الدول الأخرى التي تواجه صراعات وأزمات ينبغي أن تتعظ بغيرها، شأن العقلاء. ولعل أكثر بلد يحتاج إلى الاعتبار من تجربة سوريا هو السودان، خاصة وأنه عاني ويعاني من ويلات الحروب وما تخلفه من دمار. ولا يقلل من حجم الدمار الذي خلفته الحروب كونه لا يظهر للعيان بنفس القدر، لأن أراضي السودان مترامية الأطراف، والصراع فيه دار ويدور بعيداً عن المراكز الحضرية وكاميرات الإعلام، مع كون البنية التحتية في مناطق الصراع في حالة بدائية أساساً. على سبيل المثال فإن معظم المباني الحكومية (المدارس والمستشفيات والمكاتب) في مناطق الصراع في الجنوب تعرضت للتدمير الكامل في كل مناطق الصراع تقريباً. وفي دارفور حرقت ودمرت مئات القرى. ولكن الدمار الأكبر هو الذي طال النسيج الاجتماعي نتيجة التهجير الجماعي، حيث فاضت معسكرات النزوح ومدن الصفيح بمئات الآلاف من المهجرين، ممن حيل بينهم وبين مقومات الحياة، إلا بشق الأنفس وعطاء المحسنين. وحرمت أجيال كاملة من الاستقرار والتعليم، بينما لم تبق مدينة في الجوار الافريقي والعربي، أو مهاجر الشرق والغرب إلا وفيها سودانيون هائمون على وجوههم طلباً للملاذ الآمن.
ولا يقتصر أثر الحرب على من أصابهم الضرر المباشر، بل امتد إلى كل أهل البلاد، بدءاً بتدمير أسس التعايش السياسي والاجتماعي، كما شهدنا من انهيار الديمقراطية الثالثة. وقد امتدت الآثار كذلك إلى الاقتصاد، بحيث تأثر به معاش غالب الناس، والخدمات الضرورية التي يعتمدون عليها من صحة وتعليم وغيرها. وأدى هذا بدوره إلى مصاعب جمة تأثر بها النسيج الاجتماعي وشبكات التضامن التقليدية، حيث نشأت حلقة خبيثة، تزداد فيها معاناة قطاعات واسعة من المواطنين، مما قد يفجر الصراعات والعنف، ويؤدي هذا إما إلى قمع من جانب الدولة أو تراجع عن أداء دورها في احتواء الصراعات، أو الاثنين معاً. وهذا يؤدي إلى مزيد من الحرمان والمعاناة ثم المزيد من العنف والتصدع.
وقد لاحت فرصة مع اتفاقية السلام عام 2005 للخروج من هذه الحلقة الخبيثة، بعد التوافق لأول مرة بين جميع القوى السياسية حول كل القضايا الكبرى المتعلقة بشكل الدولة وأسس الحكم وحقوق المواطنين ومعايير العدالة الاجتماعية وتقاسم الموارد بين الأقاليم. وقد تزامن هذا مع تدفق الموارد من نفط وغيره، وظهور حسن نية دولية وإقليمية تجاه البلاد. ولكن هذه الفرصة أهدرت بسبب سوء إدارة الفترة الانتقالية، وتمسك البعض بنظرة ضيقة ومصالح أضيق. وهكذا عدنا إلى نقطة الصفر، حيث الحرب والتفاوض من جديد على نفس القضايا.
وهذه المعضلة تطرح عدة مسائل، من أولها المسؤولية حول هذه الكارثة، وضرورة تحملها. أما الثانية فهي ضرورة تغيير المنهج الذي أدى إلى الفشل، فالبلاد لا تستطيع أن تتحمل المرور عبر محن الماضي من جديد لمجرد أن من بيدهم الأمر لا يحسنون التصرف ولا يريدون أن يفسحوا المجال لغيرهم. والأهم من ذلك، إن البلاد لا يمكن أن تتحمل السيناريو السوري (أو العراقي) للاستنزاف حتى الموت، بحيث يتحتم بعد ذلك بعثه ثم إعادة بنائه من جديد، هذا بافتراض بقاء من يستطيع القيام بذلك.
ويبدو أن السودان ظل يواجه إشكالية البداية من نقطة الصفر في كل مرة، بحيث كل ما أتت أمة لعنت أختها، ونقضت غزلها من بعد قوة أنكاثاً، فلا يستفيد الجيل اللاحق من إنجازات من سبقه. ورغم وجود تطابق كبير بين برامج القوى المتناحرة، فإن كل طرف يصر على عدم الاعتراف لسابقيه بأي فضل. وربما كان الاستثناء هو عهد الفريق ابراهيم عبود (1958-1964) الذي لم يمارس تخريب الخدمة المدنية ولم يتغول على القضاء أو يعمد إلى العبث بالاقتصاد أو التعليم. ولكن كل العهود اللاحقة مارست قدراً متفاوتاً من محاولة إعادة صياغة المجتمع ومؤسسات الدولة حسب رؤيتها، إضافة إلى نقض جهود سابقيها. ولعل الحكومة الحالية تفوقت على الأنظمة السابقة مجتمعة في محاولتها لإعادة هيكلة مؤسسات الدولة والمجتمع، وبثمن باهظ جداً على اقتصاد البلاد وبنيتها الاجتماعية والسياسية، ناهيك عن الضحايا المباشرين.
هذا لا ينفي أن هذا العهد شهد أيضاً بعض الإنجازات، خاصة في مجال الاقتصاد (استخراج النفط، تطوير البنية التحتية في مجال الاتصالات والطرق، والصحة والتعليم، إلخ.) وإن كانت هذه الانجازات معرضة للخطر بعد الانتكاسات الاقتصادية الأخيرة. ولكن الخطر الأكبر يتمثل في استمرار الصراع والاستقطاب، مع إصرار البعض على التمسك بمواقفهم ومواقعهم حتى إن أدى ذلك إلى دمار لا يبقي ولا يذر. وتتأكد عبثية هذا المنحى من كون كل الأطراف متفقة على المبادئ العامة لإدارة الدولة كما عبر عنها دستور عام 2005 الانتقالي، وإن كانت المعارضة تؤكد وهي في ذلك محقة إلى حد كبير- أن الحكومة لا تحترم الدستور الذي ألزمت نفسها به، وهو ما أدى لانفصال الجنوب ولاستمرار وتفاقم الأزمة السياسية فيما بقي من البلاد.
ولا شك أن نقطة البداية تكون باحترام الحكومة للدستور والقوانين التي سنتها، إذ من العبث أن تطالب الآخرين باحترام الدستور والقانون وتكون هي أول من يخرقها، أو أن تدعو المعارضة للحوار والتفاوض، وهي لا تلتزم بما ألزمت نفسها به، حتى في مجال القوانين التي سنتها منفردة. وإذا لم تكن الحكومة قادرة على ذلك فإن نقطة البداية تكون بتغييرها. ونذكر هنا بأن مطالب المنتفضين من شباب المؤتمر الوطني اشتملت فيما اشتملت على الشفافية واحترام القانون وفتح حوار جدي مع المعارضة والفصل بين الحزب ومؤسسات الدولة. ومن هنا فإن تغلب هذا التيار قد يكون نقطة بداية للتحول المطلوب.
المعارضة بدورها غير مبرأة من المسؤولية في الانسداد القائم، أقله بعجزها عن حشد تيار شعبي يدعم التغيير، ولهم دون ذلك أعمال هم لها عاملون. ويعود جزء من المشكلة إلى لجوء كثير من الحركات إلى حمل السلاح، إضافة إلى ضعف المعارضة الحزبية وغياب الممارسة الديمقراطية داخل هياكلها. ولعل المفارقة هي للأسف أن مستوى الممارسة الديمقراطية في داخل الحزب الحاكم أفضل بكثير منها داخل معظم أحزاب المعارضة. أما الحركات المسلحة فهي لا تعاني فقط من غياب الديمقراطية في ظل سيادة البندقية، بل إنها تشهد ممارسات قمعية ولا إنسانية في حق منتسبيها قبل غيرهم، ناهيك عما يصيب المدنيين من بأسها. ولا يمكن أن يحدث التقدم المطلوب في اتجاه الديمقراطية ما لم يتم إخراج السلاح من العملية السياسية والاحتكام فقط إلى صوت الشعب.
ولكن البداية تكون حتماً بتغيير الحكومة أو منهج عملها، وأن يتم ذلك قبل الوصول إلى حالة بشار الأسد، حيث لم تعد تجدي المبادرات ولا حتى الاستقالة وتسليم السلطة.