طرحت في الآونة الأخيرة مسألة الداخل والخارج، من منظورين: واحد يرى أن انقسام المعارضة إلى داخل وخارج بدل معطيات العلاقات التاريخية بين جزأيها التكوينيين هذين، ونقل مركز ثقلها وعملها إلى الخارج، الذي بدأ يمثل الشعب ويطالب الداخل باتباعه، بعد أن كان فرعا منه يقر بتبعيته له وبمركزية مكانته ودوره. هذا التيار يلقي بظلال قوية من الشك على معارضة الداخل، ويرى في معظم فصائلها ضربا من معارضة شرعية تابعة للسلطة وخادمة لمآربها وأغراضها، فلا مجال للاعتماد عليها في أي مشروع ثوري يريد التخلص من النظام ورموزه. وآخر يرى أن من هم في الخارج ليسوا معارضة حقيقية، بل هم غالبا أتباع دول ومال سياسي وأجهزة، لذلك يجب تقويم جدية أي عمل معارض من خلال معيار رئيسي: انطلاقه من الداخل وتوافقه مع سياسات منظماته وأحزابه.
ومع أن بعض الداخل يعمل حصريا مع الخارج، وبعض الخارج يتوجه في مجمل أنشطته إلى الداخل ويرى دوره بدلالته، فإن هذا التقسيم يحتفظ بكثير من الراهنية، على الرغم من أنه ليس علميا أو موضوعيا، ويستند إلى أحكام تمييزية صارت لكثرة ما تكررت أحكاما مسبقة، زاد من افتقارها إلى الدقة ارتباط المعارضتين بجهات متباينة أو متناقضة المصالح، جعلت بحثهما عن مشتركات إما دون جدوى، أو جعلت ما هو موجود بينهما من المشتركات، وهو كثير، بلا فاعلية، بحيث صار من المألوف أن تسمع كلاما موحدا يخدم أغراضا متضاربة، وتحليلات متشابهة تأخذ إلى مواقف متصارعة، علما بأن للمعارضتين تاريخا طويلا من الوحدة والعمل المشترك، أقله عندما كان الخارج يرى نفسه بدلالة الداخل ويؤمن بأنه فرع منه لا يحق له الاستقلال عنه أو تشكيل معارضة موازية أو مناوئة له كمعارضة أم، بل عليه تركيز عمله على مساعدته والإفادة من أجواء الحرية المتاحة له كي يدافع عن قضاياه ورموزه ويشرح من حين لآخر مواقفه وخططه السياسية، ويكسب له بعض الأنصار هنا أو هناك، ويجد له موقعا فيما صار يسمى اليوم «المهجر».
هذا الوضع انقلب رأسا على عقب مع انتفاضة الحرية في سوريا، التي انفجرت منتصف شهر مارس (آذار) من عام 2011. وزاد من ابتعاد وافتراق المعارضتين مع دخول دول خارجية على خط تأسيس هيئة موحدة تضم المعارضة السورية، بعد فشل تأسيس هيئة تنسيق في الداخل تضم جماعات إعلان دمشق والتجمع الوطني الديمقراطي، وذهاب إعلان دمشق إلى مشروع بديل عبر عن نفسه فيما بعد من خلال ما عرف بـ«المجلس الوطني السوري»، بينما ضم الاتحاد الاشتراكي العربي الديمقراطي بقيادة الأستاذ المناضل حسن عبد العظيم إلى التجمع الوطني الديمقراطي مجموعة حلقات وتنظيمات يسارية شكل بالتعاون معها ما عرف بـ«هيئة التنسيق لقوى التغيير الديمقراطي»، فكان تحالف الإعلان مع إسلاميين هم خصوم الاتحاد الاشتراكي واليساريين، وتحالف الاتحاد مع يساريين هم خصوم حزب الشعب الديمقراطي بقيادة الأستاذ المناضل رياض الترك إيذانا بإعلان انشقاق أبدي لا سبيل إلى تخطيه بين قطبي معارضة الداخل، بينما مثل إعلان المجلس الوطني في الخارج أنه ممثل الشعب السوري والمعبر عن ثورته ضربة أصابت جميع فصائل المعارضة الداخلية، باستثناء إعلان دمشق، الذي اعتبر نفسه شريكا في التمثيل والتعبير، ورأى في المجلس حاضنة سياسية جديدة نجح في أن يخرج منها الاتحاد الاشتراكي، ستتكفل بالحد من وجوده وربما بالقضاء عليه، بعد نقل مركز ثقل المعارضة إلى الخارج، وقلب العلاقة بين الخارج والداخل رأسا على عقب، وتوفر إمكانية جدية للضغط على الداخل وتهميشه وتحويله إلى فرع يتبع مجلسا وطنيا لم يلق فقط قبول من اعتبروه حكومة منفى من جماهير الداخل، بل كذلك اعتراف العالم الخارجي، الذي شرع يتعامل معه على الطريقة التي تعامل من خلالها مع مجلس ليبيا الانتقالي، وصار يستقبل مندوبيه وممثليه كأشخاص رسميين يجسدون سوريا المقبلة: الديمقراطية.
سيطر منطق الانقسام على الساحة السورية المعارضة، واتخذ أشكالا لا عقلانية، جعلت المجلس يصل إلى حد تخوين معارضي الداخل وخاصة منهم «هيئة التنسيق»، واعتبار أي معارض داخلي شخصا مشكوكا في ولائه للثورة إلى أن يثبت العكس، في حين رد بعض معارضي الداخل بلغة شككت بدورها في وطنية وأداء معارضي الخارج، بمن فيهم أولئك الذين تركوا سوريا بالأمس القريب، واتهمتهم بالتخلي عن الداخل بوصفه ساحة النضال الرئيسة، وبالابتعاد عن عذابات شعبهم ومعاناته والعيش في سمن وعسل خارج هو في أفضل أحواله ساحة ثانوية من ساحات العمل العام المعارض. الغريب أن هؤلاء نسوا أن المعارضة دور وليست موقعا، وأن هناك في الداخل من لا يفعل شيئا لصالح الشعب، بينما يعيش في الخارج أناس وضعوا حياتهم كلها في خدمة مواطنيهم، ولم يتوقفوا يوما عن العمل من أجل حرية هؤلاء، وتناسوا أن العمل المعارض لا يجوز أن يقوم على التنافي، وأنه عمل تكاملي ليس المكان هو الذي يقرر طابعه وأهميته، وأن بقاء الإنسان في وطنه لا يعتبر عقوبة وخروجه منه ليس امتيازا، وأن مناضلين تاريخيين كبارا قادوا ثورات بلدانهم من خارجها، في حين أخفق مناضلون آخرون في فعل أي شيء من داخل أوطانهم، لأسباب كثيرة ليس بينها بالتأكيد مكان إقامتهم!
ينشأ سوء التفاهم في أحيان كثيرة من سوء الفهم، وبالعكس. وللأسف، فإن المعارضة السورية السورية غارقة في حالتي سوء تفاهم وفهم متقابلتين ومتراكبتين، مع أنها تشترك منذ عقود في منطلقات واحدة وأهداف موحدة ولا تختلف إلا على أساليب العمل، التي تتباين بتباين فصائلها. والآن: هل يحق لنا اعتبار المعارضة ضحية سوء تفاهم وفهم فقط، أم أن أزمتها أعقد وأعمق من ذلك، تتصل بغربة جميع فصائلها عن الحراك الشعبي والمجتمعي العظيم، الذي انطلق من خارجها، ووصل إلى حيث لم تكن تتخيل، واستمر على الرغم من وقوفها في أحيان كثيرة خارجه وفي أحيان معينة ضده، مما جعل معاركها برانية تماما بالنسبة إليه، وجعلها تنقل خلافاتها إليه بدل أن توحده، وتربطه بقوى خارجية لم يكن في حسبانه الارتباط بها، فكان من المنطقي أن يهمشها، ومن الطبيعي أن تستنزف بعضها بصورة متقابلة، وأن لا تتعامل مع الثورة وقضاياها بصورة جدية، ولا تقوم بوظائفها في إطارها، بل تسارع إلى ركوب موجة الثورة بحجة كاذبة هي أنها من إنتاجها وتحتاج إلى قيادتها، وكان من الحتمي أن تجد نفسها خارجها أكثر فأكثر، وأن ترهق نفسها بمشكلات زائفة كمشكلة الخارج والداخل وما حملته من تخوين واتهامات، بدل أن تلتفت ولو مرة إلى الوراء وتصحح مواقفها وتراجع أخطاءها، وتساعد الشعب على مواصلة طريقه وبلوغ ما تصبو إليه نفوس بناته وأبنائه من حرية وعدالة ومساواة!
هل ستتخلص المعارضة من مشكلاتها السطحية لتتعامل بجدية مع مشكلات الثورة العميقة؟ هذا هو السؤال الذي ترفض المعارضة التوقف عنده، مع أن جميع ما ستواجهه من تطورات وتتخذه من مواقف يتوقف على نمط الإجابة عنه، إن امتلكت يوما الوعي بضرورة أن يكون لديها مقاربة له أو جواب عليه