خطايا امبريالية

عمدت الأنظمة العربية في مراحل ما بعد الاستقلال إلى ابتذال مفهوم الإمبريالية إلى أقصى الحدود. فكونها جاءت إلى السلطة بعد معارك ضد الاستعمار، تمسّكت بمفهوم العداء للإمبريالية لتبرّر بقاءها في الحكم، وإلغاءها آليات العمل الديموقراطي، وصولاً إلى ممارسة أبشع أساليب القمع. كان على المرء انتظار الهيمنة النيوليبرالية شبه التامّة على العالم، وحروب ما بعد ١١ أيلول، حتى يعود مصطلح الإمبريالية إلى الواجهة، سواء في التظاهرات التي جابت عواصم العالم، أو في الدوائر الأكاديمية التي راحت تبحث عن صياغة متجدّدة لذاك المفهوم، بعدما أعادت دور النشر المتخصصة طباعة كراس لينين حول آخر مراحل الرأسمالية وكتاب روزا لوكسمبورغ حول التراكم الرأسمالي، وأُخرجت هنة أرندت من قوقعة عملها حول التوتاليتارية ليجري التذكير بنظريتها بشأن الإمبريالية كخيار واعٍ تتّخذه البورجوازية حين يواجه النظام الرأسمالي إحدى أزماته. والجدير بالملاحظة أن المناهضين للحروب والسياسات الاقتصادية الجائرة داخل العالم العربي وخارجه لم يكونوا وحدهم من استعاد الاهتمام بالإمبريالية، بل أيضاً المتحمّسون للحروب الأميركية الذين استخدموا صراحة مصطلح الإمبريالية للتدليل على ما كانت تحتاجه الولايات المتحدة آنذاك لتأكيد تفوّقها.

مع الانتفاضات العربية، ووصولها إلى سوريا المحكومة من نظام التصقت به صفة الممانعة، عاد الابتذال ليلاحق مفهوم الامبريالية. وقد ازدهر هذا المصطلح في هذه اللحظة السياسية، تماماً كما ازدهر بعد مرحلة التحرر الوطني، كون الاستعمار المباشر ليس مطروحاً على الطاولة. لكن هذا الابتذال لم يأتِ على أيدي الأنظمة هذه المرّة، بل على أيدي يسارٍ عربي وغير عربي ممّن باتوا يرون في تلك الانتفاضات خدمة للمشروع الإمبريالي. ومن هؤلاء مَن يصدح بأنّ ما يجري في سوريا ليس إلا مؤامرة إمبريالية تقودها الدول الغربية الكبرى، بالتحالف مع إسرائيل، من أجل إسقاط قلعة الممانعة. هؤلاء يردّدون عن قصد أو غير قصد بروباغاندا النظام السوري بشكل شبه حرفي. وإلى جانبهم، يقف­ مَن يصوغ حججه بطريقة أقلّ التصاقاً بخطاب النظام، فيعذر نفسه عن تأييد الانتفاضة السورية، وسائر الانتفاضات بمفعول رجعي، كونها غير مضمونة النتائج بالنسبة إلى القضية الفلسطينية. بمعنى آخر، لا يضع هؤلاء المنتفضين السوريين في مصاف المتآمرين، لكنّهم يعكفون عن تأييدهم كون انتفاضتهم ستصبّ في النهاية في مصلحة المشروع الإمبريالي المتحالف مع الصهيونية. ويرفع هؤلاء شعار “فلسطين بوصلتنا”، رغم معرفتهم المسبقة أنّ ما من نظارات واحدة يمكن رؤية العالم عبرها. لكنّهم، على الأرجح، يجرفون من نصرة القضية الفلسطينية مخزوناً أخلاقياً يعوّضون به الفضيحة الأخلاقية المتمثّلة بعدم الوقوف إلى جانب شعب يتعرّض للمجازر.

يلتقي معارضو الإمبريالية على اعتبارها نوعاً من المسارات السلطوية والاقتصادية والثقافية التي تلحق الأذى بالكرامة الوطنية وأنماط الحياة والمستوى المعيشي لغالبية الشعوب الخاضعة للسيطرة الإمبريالية. وإذا كان اهتمام لينين بالإمبريالية نابعاً من محاولات تفسيره للحروب التي تشنّها الدول الكبرى دفاعاً عن مصالح شركاتها الضخمة، فإنّ الإمبريالية الجديدة تترافق مع نشر السياسات النيوليبرالية التي تعيد هيكلة الاقتصادات الوطنية بما يخدم مصالح الدول الإمبريالية ومصالح فئة صغيرة مرتبطة بها.

لكنّ الشعب السوري لم يكن يحتاج أيّ هجمة إمبريالية جديدة ليشعر بالمهانة أو بالنهب الاقتصادي أو بدفعه إلى تبديل أنماط عيشه وسبل تحصيل قوته.ولعلّ التظاهرة الصغيرة الأولى التي سارت في أحد شوارع دمشق القديمة كمقدّمة لاشتعال الثورة، كانت بالغة الدلالة في إطلاقها هتاف “الشعب السوري ما بينذلّ” احتجاجاً على تعرّض رجال الأمن السوري لأحد المواطنين. فامتهان الكرامة الفردية والجماعية كان يتزايد، فيما الدفاع عن الكرامة الوطنية لم يكن يتمّ إلا بالواسطة، أي عبر حزب الله. وهي واسطة كان يتآكل دورها في الشارع السوري كلما ازداد انخراطها السياسي والعسكري في الشارع اللبناني.

وإلى جانب رفض الذلّ، لم تكن الهتافات اللاحقة ضدّ رامي مخلوف لتقلّ دلالة، وهو الحوت المالي وابن خال بشار الأسد. فالنظام السوري لم ينتظر تدخّلاً عسكرياً أميركياً كي يطبّق “نيوليبرالية” على طريقته، تماماً كما سبق أن طبّق اشتراكية على طريقته أيضاً. فإذا كانت الإمبريالية هي قاطرة النيوليبرالية القائمة على تفعيل التراكم الأولي، أي نهب الثروات الوطنية لمصلحة فئة صغيرة من المواطنين وحفنة من الشركات الكبرى، فإنّ النظام السوري ارتكب كل تلك الخطايا، وإن لمصلحة حفنة من أهل البلاط.

غالباً ما يدّعي اليساريون تفوقاً أخلاقياً. ولعلّ ذلك نابع من تبنّيهم لسرديّة ينصرون فيها الفقير على الثري، والمهمَّش على المهيمِِن. لكنّ أولئك اليساريين أنفسهم، وباسم نصرة تلك السردية سواء كان اسمها الأممية أو فلسطين، يسقطون سقوطاً أخلاقياً مريعاً، سقوط يقبلون عليه بثقة وادعاءات لا يِحسدون عليها.

“ماذا أتيتم تفعلون، يا رفيق، ماذا أتيتم تفعلون هنا؟

في شهر آب، الساعة الخامسة، تسود العتمة في مدينة براغ…”

بهذه الكلمات، عبّر المغنّي اليساري الفرنسي جان فيرّا عن خيبته من الاجتياح السوفياتي لمدينة براغ عام ١٩٦٨، وهي خيبة تركت أثرها البالغ على العديد من اليساريين الأوروبيين. آنذاك، قام ريتشارد سيفيتش بإحراق نفسه خلال مهرجان الحصاد في وارسو. وكان ذلك قبل ٤٣ عاماً من قيام محمد بوعزيزي بالعمل الاحتجاجي نفسه في تونس. وفي كلتا الحالتين، ثمّة من وضع على قبّعته نجمة حمراء، ووقف يصفّق على الضفة الأخرى.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *