لم يتبلَّد الإحساس بعد. التعوُّد على القتل لم يحصل بعد. التدجين المنهجي للعنف لم ينجح بعد… لا تزال الدماء توقظ فينا حالات شاهقة من الحزن والخوف والهلع والإحباط والغضب، ولا تزال تلزمنا بأن نكرِّم الشهداء، بدمع ثري ولوعة عميقة.
لا طاقة على احتمال المجازر. لا قدرة على استيعاب القتل. لا ذنب إن كنا لا نزال بشراً، نصرخ ونبكي ونشمئز ونولول ونقول: كفى بربرية. كفى همجية. كفى مقابر جماعية.
لا نزال، على الرغم من تكديس المخيلة لصورة البشاعات في سوريا، ومن قبلها في ليبيا، وإبانها في اليمن، قادرين على أن نقول: «أيها المجرمون، المعروفون والمجهولون، إنكم تستحقون محاكمة تنالون فيها عقابكم». ما زلنا نستطيع أن نقول كل ذلك، مع فقداننا الأمل، لأن للمجازر متعهدين وتجاراً ومستثمرين ومروجين سيحولون دون تحويل المجرمين، قتلة الأطفال والنساء والرجال، خاطفي الأرواح على الطرقات وعلى المعابر، وخاطفي «زوار العتبات»، إلى محاكمة عادلة، تقتص منهم.
لم يتبلَّد الإحساس العربي بعد. وهو في هذا المشهد، ليس مستعداً لسماع حجج السلطة وتبريراتها واتهاماتها، وليس مستعداً لسماع شكاوى المعارضة ومطالبها بالتدخل الدولي، لحماية ما أصبح خارج كل حماية ممكنة… لم يتبلَّد الإحساس المتيقّظ ليصير أداة انحياز مع وضد، ليدين مجزرة تناسبه ويتجاوز مجزرة لا تناسبه. ليدين سلطة توغلت في ممارسة العنف الأقصى، ولو أدى إلى الأفدح من الأرواح، ويبرئ معارضة ترتكب باسمها عمليات تفجير انتحارية قاتلة، تطحن الناس الجديرين بالحياة والحرية والفرح.
إن نتيجة خمسة عشر شهراً من العنف والثورة والقمع والقتل، هو دخول سوريا حلبة الدماء، بلا أفق. السلطة ماضية إلى ممارسة القبضة العسكرية والأمنية، بحجج لم تعد مجدية ولا تستولد إلا العنف المضاد المدعوم دولياً. المعارضة ماضية في «جيوشها» المنتشرة في ممارسة سياسة الزناد والتفجير، باندفاعة لم تعد مقنعة بنتائجها. السلطة والمعارضة يرقصان على حافة القبر. لا سياسة أبداً بعد: الانحيازات الاقليمية منعت ولادة حلول. الانحيازات الدولية وأدت حلولاً ناجعة. عبقرية العجز العالمي أنجبت مبادرة كوفي أنان، وهذه، تحتاج كي تنجح إلى إقناع الغرب، كل الغرب، ودول الجوار الاقليمي، ودول الخليج العظمى، بقيادة قطر، بأن العنف لن ينجب غير المجازر المتبادلة… (نحن في لبنان عرفنا ذلك. هل تريدون أسماء؟ فقط لإنعاش الذاكرة: الكرنتينا تقابلها الدامور، تل الزعتر تقابلها قرى وبلدات ساحلية، «السبت الأسود» يقابله المنطقة الرابعة والهوليداي إن، وهلم جراً…).
تحتاج مبادرة كوفي أنان، كي تنجح، إلى إقناع دول الممانعة الإقليمية وقواها، وقوى الممانعة الدولية (موسكو وبكين) بضرورة الضغط على السلطة ووضع حد للعنف المتمادي… يحتاج كوفي أنان إلى من يقنع دول «الاعتدال الحربية» العربية والدولية، بضرورة الضغط على المعارضة، كي تكف عن رد الكيل بكيلين، فترد السلطة بكل المكاييل وكل الأعيرة… فتصل سوريا إلى حيث «الدموع وصرير الأسنان».
لا يبدو أن أنان سيجد من يمهد له الطريق لتسوية سياسية. بل لعل دول الأمر والنهي، المنخرطة في الصراع على سوريا وفي سوريا، بحاجة إلى المزيد من المجازر، لتوظيفها ضد النظام، والمزيد من العمليات الانتحارية لتوظيفها ضد المعارضة أو ضد الإثنين… ليستقر الوضع السوري في المأساة تمهيداً لترشيحها لدخولها حقبة «الفتنة الكبرى»، بمدلولاتها التاريخية ومغازيها الحديثة، والحروب الأهلية المتكافئة في ممارسة الإجرام، عبر اصطياد الأبرياء. عالم السياسات في المنطقة العربية، كان يتعكز دائماً على الحروب والعنف والمجازر. ولا مرة كانت السياسات بيضاء. ولا مرة كان الناس فيها ينتقلون من حال إلى حال، لأنهم، كانوا ينقلون من هذه الدنيا إلى الآخرة، بأبشع الحرائق والمجازر.
لا براءة لأحد في ما يحصل في سوريا. والتعميم لا يعفي من تخصيص المرتكبين الفعليين بالإدانة. يلزم أن لا يعفينا التعميم من الإشارة بالإصبع إلى المرتكبين… والجميع يعرف أسماءهم «القبحى»، هنا وهناك وهنالك.
حرام أن تصبح سوريا.. من الوريد إلى الوريد!.