من يريد سوريا مدنية راقية وتقدمية علمانية , يجب عليه تحجيم المد والقوى الأصولية الاخونجية بطرق فعالة قانونية وديموقراطية , وهنا لا أقصد اطلاقا استخدام العنف أو الأساليب الديكتاتورية أو الاستبداد أو القمع ضد أي جهة ..ان كانت أصولية أو غير أصولية, وانما تحجيم عن طريق تقديم بديل مقنع لدى معظم أفراد الشعب السوري , فمعظم الشعب السوري لم يكن أصلا طائفي ولا أصولي , وانما يعجز الآن عن ممارسة التداول السياسي الحضاري في ظل احتكار العنف السلطوي والعنف الأصولي المعارض لكل الممارسات على المسرح السياسي , فدوي المدافع والقنابيل وأنين المجاريح وصراخ الأطفال قبل ذبحم من الوريد الى الوريد , ثم الخطف والقتل والسحل والتدمير والقنص والشبيحة والذبيحة , لم يتركوا أي امكانية لنطق الكلمة وتبادل الأفكار واعطاء الأجوبة الحضارية على اسئلة تطرح نفسها اليوم, يائسة من الحصول على جواب لها .
لقد احتلت الأصولية الثورة السورية واستعبدتها , وذلك كما احتلت السلطة ارادة الشعب السوري واستعبدته ,وليس من الغريب أن تجد الأصولية الدينية مرتعا جيدا لنموها في ظل سلطة لاتقل عنها عنفا واجراما ,بل ان فساد هذه السلطة أمر تمت البرهنة عليه ,’ في حين ان فساد الأصولية الدينية أمر افتراضي , الأصولية لم تحكم لحد الآن , الا أن فسادها أمر شبه مفروغ منه .
للفساد أوجه عديدة , وفساد السلطة يتوطن بشكل رئيسي في السرقات والاستغلال وممارسة الفردية والاستئثار بمقومات المجتمع المادية والمعنوية ,’ في حين ان الفساد المنتظر من الأصولية الدينية , قد لايمت الى السرقات بصلة , وانما يتعلق بشكل رئيسي بأمور مبدئية عند هذه الأصولية , منها عنصريتها ورجعيتها وديكتاتوريتها وعدم امكانيتها من مواكبة التطورات الحضارية , انها قمعبية ودموية , وافرازاتها ستكون كارثية , وهذه الافرازات لاتختلف من حيث الكارثية عن افرازات السلطة , التي لمسناها باليد ونلمسها الآن .
هناك تناسب طردي بين وجود الحكم الأسدي بكامل علاته وأمراضه , وبين النمو المتزايد للأصولية , بحيث يمكن القول بوجود علاقة مباشرة بين وجود الأصولية ووجود الأسدية , وهذا الأمر ليس عصيا على الفهم , ففشل الأسدية مدنيا حولها الى أصولية , أصولية أقلية , استفزت ولادة أصولية أخرى هي أصولية الأكثرية , وذلك بعد أن حولت الأسدية بنية المجتمع من بنية سياسية الى بنية طائفية دينية , وفي الصراع بين اصولية الاقلية وأصولية الأكثرية (حسب القاموس السوري الحديث) احتلت كل أصولية المكان الذي يناسب حجمها على المسرح السياسي , وكل من الأصوليات تحاول تقوية نفسها ..البعض بكتائب الأسد , والبعض الآخر بفيالق المجاهدين المكبرين , وماذا يمكننا أن ننتظر من فاقدي العقل الا العنف والحرب , وهاهم رواد البربرية يحاربون ويقتلون ويذبحون ويشردون , وكأننا في أيام القعقاع أو بالأصح في أيام جمال باشا .
مهمة النظام الأسدي كانت مهمة سهلة جدا , ولم يكن لها الا أن تتفوق على الأصولية بطرق جيدة ومفيدة لها , منها طريق التوثيق الشرعي لوجودها , ومنها أيضا تحقيق قدر أدنى من العدالة الاجتماعية والشفافية والمساواة ثم حد أدنى من صيانة الحريات وتحقيق ادنى حد من الممارسة الديموقراطية , ولكن النظام الأسدي لم ينجح الا في الاثراء الذاتي , وفشل فكريا وأخلاقيا حتى أمام همجية الأصولية , التي مكنتها بدائية وطائفية النظام الأسدي من الطفو فوق هذا النظام , وتهديد النظام الى حد صرعه قتيلا , لم يبق أمام الأسدية المفلسة للدفاع عن نفسها الا الرصاص ونوع غريب من الطائفية , لا بالفكر ولا بحاكمية الحكم ولا بالعدالة الاجتماعية او المساواة أو الحرية أو الديموقراطية , لقد انهزمت الأسدية بالسلاح الذي تسلحت به وهو الطائفية, وكيف يمكن لطائفية الأقلية أن تنتصر على طائفية الأكثرية ؟.
حدثت كارثة لامثيل لها , فالنظام الأسدي خرب البلاد على مدى نصف قرن في سبيل القروش , وفي سبيل القروش خرب النظام السياسة , وخرب حزب , كان له أن يلعب دورا رائدا في المجتمع , خرب كان له أن يتطور مدنيا وعلمانيا , لقد الغى الفكر والكلام والنقاش , مبررا ذلك بحماية النظام الذي تحول الى منظومة العائلة , التي طوبت البلاد على اسمها , وبذلك مكنت الأصولية الأخرى من التحول الى حركة جماهرية تشارك في ثورة شعبية وتلقى من الكثير من فئات الشعب تقبلا ودعما ومناصرة , وذلك ليس لأن الأصولية الأخرى ناضجة فكريا , وليس لأنها تقدمية وليس لانها ديموقراطية , انها هزيلة وضعيفة في كافة المجالات , الا أنها , ويا للكارثة !!!, أقوى من النظام الأسدي, ومن يعاضد النظام الأسدي الآن هو المعارض للأصولية الأخرى , وليس لشدة اعجابه بأصولية السلطة الأسدية , السلطة الأسدية تقتات من رفض البعض للتيار الغيبي الآخر , ليس من نجاحات هذه السلطة , التي تتحكم بالبلاد على مزاجها ومذاقها وغريزيتها ونزواتها بشكل مطلق منذ أكثر من أربعين عاما .
من يريد التقدم لسوريا , عليه محاولة انقاذها من الأصوليات , وانقاذ البلاد من بلاء الأصولية لايتم الا بهدم اركانها والقضاء على مسببات نموها المعاكسة أصلا لمنطقية التاريخ , ومن أهم مسببات النمو المتزايد للأصولية هو النظام , الذي خرج من التاريخ , تاريخ الدول تكتبه وتصنعه الشعوب , وليس العائلات , التي حولت سوريا الى شبه دولة أو بالأحرى ألى دكانة أو بقالية, تسمى بقالية سوريا الأسد