شهدت بعض دول العالم العربي مع بداية عام 2011 احتجاجات أطلق عليها بعد وقت قريب مصطلح «الربيع العربي»، في إشارة إلى أن الشعوب العربية تدخل مرحلة جديدة أساسها تغيير الحكام والأنظمة، وبنيانها الحرية والعدالة والمساواة، وفي هذه الدوامة دخلت سورية على خط الاضطرابات التي تشهدها بعض المدن العربية، لتصبح على مدى ستة عشر شهراً محط أنظار العالم، وذلك بسبب الدور والموقع الإستراتيجي والقومي الذي تتمتع به سورية على الساحة العربية والدولية.
لا شك أن تطور هذه الاحتجاجات وما خلفته من أحداث أدت إلى تعاطي الأنظمة معها كل بحسب رؤيته للخروج من الأزمة، فمنها من سارعت- من أجل امتصاص غضب الشارع- إلى إجراء «رتوش تجميلية» في بنية الدولة كما جرى في تونس ومصر، ولكنها لم تنفع وأدت في النهاية إلى إسقاط النظامين وحاولت أنظمة أخرى اعتماد سياسة قمع التحركات وإخماد وهج الاحتجاجات وأيضاً باءت بالفشل، مثل ليبيا، وأدى العنف المسلح الذي استخدم من الطرفين إلى مصرع العقيد معمر القذافي وسقوط نظام حكمه، ومنها من وجد صيغة سياسية تحل الأزمة بأقل الخسائر الممكنة وتقضي بانتقال السلطة وهو ما حدث في اليمن، وفي ظل هذا المشهد تبقى الأنظار مشدودة نحو سورية ليطرح السؤال الآتي: ماذا يجري هناك؟
وهل ما يجري في سورية هو «ثورة» أم أنه فعلاً محاولة للانقلاب على الدولة؟
إن إنجازات ما سمي «الربيع العربي» لا ترقى إلى مستوى الثورة، لكنها انطوت، في بعض الحالات، على انقلاب، والاختلاف الجوهري بين الثورة والانقلاب، وفقاً لعلم السياسة، يكمن في نوع الهدف الذي يرمي إليه كل منهما، والثورة الحقيقية يكون الفعل الثقافي فيها هو الأساس، والمقصود بـ«الثقافي» هنا المعنى الثقافي الواسع الذي يتضمن التربية، والاجتماع والسياسة، والاقتصاد، والعلاقة مع الآخر، إضافة إلى الآداب والفنون والعلوم والقوانين. أي لا ثورة من دون توجهات فكرية وثقافية جذرية تشكل بداية جديدة للمجتمعات التي وقعت فيها الثورات.
أما الانقلاب فهو كما يعرفه أستاذ القانون الدولي العام الدكتور محمد المجذوب، بأنه «لا يتعدى إسقاط الحكام وتغييرهم، أي استبدال حاكم بحاكم، والاستئثار بالسلطة من دون التعرض لنظام الحكم من حيث شكله وطبيعته، وقد يقوم به فرد أو جماعة سياسية أو عسكرية يسعى لتحقيق مأرب هذا الفرد أو هذه الجماعة، على حين إن الثورة تنطلق من إرادة شعبية تهدف إلى تحقيق المصلحة العامة، وهذا ما لم يحدث في سورية، حيث كانت ولا تزال الاحتجاجات محدودة ولم تشمل المناطق الكبرى، ولم يشارك فيها كل الشعب السوري، فالثورة أوسع وأشمل من الانقلاب، وأثرها أقوى، ومحتواها أعمق، ومدلولها ونتائجها أكبر.
استناداً إلى الفارق الكبير بين الثورة والانقلاب يمكن القول إن ما يجري في سورية هو «انقلاب على الدولة» يعتمد العنف المسلح لإسقاط الدولة السورية ومؤسساتها، ويتجلى ذلك من خلال الأحداث والوقائع اليومية التي تشهدها مدن سورية ولاسيما المناطق الساخنة منها، من استهداف إمكاناتها وأهم الكوادر السياسية والعسكرية والعلمية، وكذلك إغلاق مؤسسات الدولة الرسمية في بعض المناطق قبل دخول الجيش إليها مثل إدلب وحمص، ومنع المواطنين من ممارسة أعمالهم وشؤونهم اليومية، أضف إلى ذلك التطور الملحوظ الذي طرأ على شكل العمليات العسكرية وهو التفجيرات الكبيرة التي طالت في الآونة الأخيرة مدناً كبرى مثل دمشق وحلب وإدلب، مخلفة وراءها الدم والدمار وحياة المئات من الأبرياء، إضافة إلى التحريض الإعلامي والطائفي والمذهبي الممنهج الذي يجري العمل عليه يومياً ويتم من خلاله تعبئة الشباب حقداً وكرهاً تجاه طوائف ومذاهب أخرى.
وما يؤكد الانقلاب هو إعلان العصيان المسلح واستخدام العنف بحق الدولة ومؤسساتها ومرافقها وفتحها على الدول الطامعة بها التي لا تريد سوى النيل من موقفها والسيطرة على موقعها.
وخلاص سورية والسوريين من المشاكل التي كانوا يعانونها لا يكون عبر جلب مقاتلين من خارج الحدود ومن جنسيات مختلفة ليعيثوا في الأرض قتلاً وتدميراً، وبناء دولة حديثة لا يكون عبر محاولات استقدام قوات حلف شمال الأطلسي الذي ما دخل دولة إلا وحقق أهداف أميركا الإستراتيجية التي هي ضمان أمن كيان العدو «الإسرائيلي»، ونهب مقدرات الدول وثرواتها.
وما زاد الطين بلة، تنامي الحالة السلفية والتكفيرية في البلاد وإعلان رغبتها في الوصول إلى الحكم وتشكيل إمارات «إسلامية» تعيد السوريين إلى عصور الظلام. وبذلك يقضى على المشروع الذي لطالما اشتغلت عليه النخبة المثقفة من الشباب السوري الواعي ببناء دولة مدنية ديمقراطية تقوم على حكم القانون والمؤسسات الدستورية.
والذي عزز القناعة لدى السوريين بأن هذه الاحتجاجات لا تخدم إلا عدوهم الأوحد «إسرائيل» هو تغييب كلي ومدروس للمسألة القومية فلسطين من كل الشعارات التي تخرج في الشارع ومن البرامج السياسية والتصريحات والبيانات والمواقف التي صدرت عن الجماعات أو الأحزاب المناصرة للحراك الشعبي، بل على العكس راحت عضو «المجلس الوطني السوري» بسمة قضماني خلال حلقة تلفزيونية فرنسية احتفالاً بعيد «إسرائيل» الـ60، تؤكد وجود «إسرائيل» في الشرق الأوسط، وأن وجود هذا الكيان المصطنع أمر ضروري. وبذلك لم يجد السوريون لفلسطين أي مكان واضح في هذه الاحتجاجات وهذا ما وجدناه أيضاً في الدول العربية الأخرى التي شهدت احتجاجات مشابهة، حيث تتجنب الجماعات الإسلامية تحديد موقف واضح وصريح من اتفاقية «كامب ديفيد» ومسألة الاعتراف بـ«إسرائيل». ولم تجد السلطة السياسية الجديدة في تونس، في كل ما يتعلق بالمسألة الفلسطينية، سوى عبارة خجولة بإدانة «إسرائيل»، لا لأنها ترتكب المجازر اليومية بحق الشعب الفلسطيني ولا تتورع في كل مناسبة عن شن الاعتداءات على الدول العربية، بل لأنها لا تحترم مبادئ حقوق الإنسان، كأن تلك السلطة الجديدة تكتشف، لأول مرة، البارود.
ما تقدم يؤكد أن الدولة السورية تتعرض لانقلاب يستهدف كل مقوماتها وإمكاناتها وموقعها وقرارها، والبلاد لا تشهد ثورة، فالثورة كما أسلفنا عمل جذري شامل ما زلنا بعيدين عنها كل البعد، وبتحقيقها نحافظ على مكتسباتنا وما أنجز لنا أباؤنا وأجدادنا ولا نضحي بما حققناه من أجل شعارات براقة. وهذا الأمر يتطلب من السوريين تحمل مسؤولياتهم والاعتماد على أنفسهم لأن المعركة ما زالت في بداياتها.