لولا اعتقال ميشيل كيلو بسبب مقاله “نعوات سورية”, لما كانت لهذه المقالة البريئة تلك الأهمية , فالأمن هو الذي صنف المقالة ووضعها في مصنف المخاطر والخواطر الخطيرة , وبناء على هذا التصنيف , ولسبب آخر رديف هو اعلان بيروت , صغائر تكاتفت لتصنع كبائر , آل كيلو الى الأسر في القاووش .
من يقرأ المقالة , يجد بها الكثير من البراءة الحكواتية , مسن يجول الشوارع ويرى النعوات , مكتشفا طريقة لفهم تركيبة المجتمع , وذلك عن طريق تحليل تركيبة النعوات , وهذا هو اكتشاف كيلو الرهيب , الأموات كانوا حتى لحظة موتهم أحياء , وبعد موتهم بقوا حسب العرف الشرقي أحياء عند ربهم يرزقون , حي بعد الموت , هو وضع اعتباري , والكلمة مجازية , وكيلو استطاع فهم وضع الأحياء , عن طريق فهمه لنعوات الأموات ,هذا هو مجمل القضية .
بناء على تقييم المخابرات للمقالة , أخذ كيلو الى القاووش , وبذلك انتهت مهمة المخابرات ,وبأت مهمة المخبرين , الذين يمثلهم في كل مناسبة الناطق الغير رسمي باسم السلطة ومذهبيتها الكاتب نضال نعيسة , لقد كان عليه أسر ميشيل كيلو في قاووش الرزيلة , كتب ردا على ميشيل كيلو تحت عنوان “طريق المحرمات” , وفي بداية المقال تنبأ نعيسة بسوء فهم وتأويل مقاله , وكأنه يفترض سوء النية عند الآخرين , أو عدم التمكن من الفهم عند هؤلاء , يتوقع الشر قبل حدوثه , وكأنه يفترض لاشعوريا , على أن ماقام به هو من المنكرات , التي بها يتمثل اتهامه لكيلو بأنه متهور فكريا وخارج عن أبسط المعايير الأخلاقية , التي تحكم العلاقات الاجتماعية , ونعيسة يتابع بالقول ,على أن كيلو وصم مجموعة بشرية بالصفراوية والخشونة في مجتمع فسيفسائي , تتعايش كل مجموعاته البشرية بكل أمان وتفاهم وسلام , ثم يقول الكاتب بعد أسطر , بالمقال الكارثة تجاوز كيلو كل المحرمات والخطوط الحمراء ,وانغمس في ما لا تحمد عقباه >تهديد مخابراتي <, حيث نفخ كيلو في نار تلطو تحت الرماد , في فصل سياسي حار بحاجة الى كل المبردات والمهدئات , ولا جدوى من اثارتها على الاطلاق .
هنا وقع الكاتب نعيسة في المطب , فكيف يتحدث نعيسة عن السلام والوئام في الفسيفساء من ناحية , ومن ناحية أخرى عن الجمرة اللاطية تحت الرماد , والنار التي تتوهج تحت أطياز مكونات هذه الفسيفساء الآمنة السلمية المتفاهمة .
انها الطائفية , التي نراها في سحنة الأحياء وفي نعوات الأموات , فاختراع نعيسة لما هو طائفي في المقال وما يمثل اعداما حضاريا لمجموعة بشرية , هو اغتصاب طائفي لما قاله كيلو , الذي يفهم عصاب الطائفية ليس بالشكل الذي يفهمه نعيسة , الذي يرتع على مرج السلطة , التي تؤمن له الامتيازات , على الأقل ماهو معنوي منها , ,من يتابع ماقاله نعيسة بخصوص مقالة كيلو لايجد الا مايرقى الى مرتبة السفاف والمماحقات واللطمات التشبيحية , لذا فان التنقيب عن خصائص الطائفية عند نعيسة وغيره من المسلقين على سلمها أفضل بكثير من التعامل مع شطحاته الشبيحية .
أظن على أن نعيسة وغيره يفهم موضوع الطائفية بشكل مبسط , طائفة عانت من الظلم مئات السنين , يمكنها أن تظلم لعشرات السنين , ولا أظن على أن نعيسة يعرف على أن الطائفية هي مرض من أمراض السياسة أولا ,قبل أن يكون مرض من أمراض الطوائف, والمجتمع يقع في هذه الحالة المرضية عن طريق اكساب اكساب الطوائف قيما سياسية , في سياق الصراع على السلطة والنفوذ , ففي كل المجتمعات طوائف وتعددات دينية , هذه الطوائف والتعددات الدينية فقدت في أوروبا منذ مئات السنين قيمتهاا السياسية , في حين اكتسب هذه الطوائف قيمة سياسية في الكثير من بلدان المشرق العربي المبتلي ببلاء النظم الديكتاتورية.
المهم بالنسبة للنظام , هو استمراره ,وليس ترفيه الطائفة العلوية , والنظام طائفي , الا أنه ليس علوي ,واستنتاج نعيسة على أن كيلو ينتقص من الطائفة ويحاول اعدامها حضاريا هو استنتاج مبسط جدا , لم يتهم كيلو الطائفة بأنها منبع الشر , ولا توجد طائفة تمثل منبع الخير ,وتحليل الحال السوري بتجرد قد يقود الى التعرف على أكثر الطوائف تضررا من النظام , وهذه الطائفة هي الطائفة العلوية , التي لاتستغل النظام ,وانما يستغلها النظام , ويستغل غيرها أيضا , وذلك حسب الطلب وحسب التيسير , واعتقاد نعيسة على أن النظام أنصف الطائفة التي ينتمي اليها , انما هو اعتقاد ضال , فالنظام قسم وفرق ,والتقسيم الذي وجد انعاكاسا له في النعوات , هو التقسيم الطائفي الذي يلتزم به النظام , فرق تسد, والذي قاد الى صنع واقع ظاهره تحكم طائفة , وباطنه تحكم ديكتاتوري , يجند من يستطيع تجنيده في خدمة ديكتاتوريته , ومن أي طائفة كانت .
لايستطيع نعيسة تقييم حجم الأضرار التاريخية الحضارية , التي لصقها النظام بالطائفة العلوية ’ التي استغلها أكثر من استغلاله للطوائف الأخرى , واستغلال طائفة أكثر من الأخرى هو أحد شروط خلق التباين , وبالتالي التهافت على ممارسة مهنة الأجير , ولا يستطيع نعيسة تصنيف مايسمى “الانصاف الطائفي” , فهو يعتقد على أن ان عدم الطائفية يتجلى بالانصاف الطائفي , فعدد الوزراء من الطائفة العلوية يجب أن يتناسب مع نسبتهم المئوية بين 23 مليون سوري ..وهناك وزير مسيحي والباقي سنة , بذلك تتحقق” العدالة” الطائفية الغير مدسترة في سوريا , بعكس لبنان , الجيش والأمن فهذا موضوع آخر حيث يمكن المقايضة , جنرال مقابل تاجر , الجنرال يتشارك مع التاجر بالتجارة , والتاجر يتشارك مع الجنرال في الامتياز السلطوي , ولا يعرف نعيسة على أنه لايمكن لهذه المعادلة أن تعمر طويلا , وذلك لأن هدف هذه الشراكة هو امتصاص رحيق الشعب وأكثريته >ليست الأكثرية الدينية< معنويا وماديا , والأساس الممكن لهذا الامتصاص , هو اعاقة الديموقراطية وقتل الحريات , لأن وجود الديموقراطية والحرية لايسمح بتلك الشراكات الاستغلالية , ولا يعرف نعيسة على أن الشركاء في هذه الشراكة سيقعون على المدى المتوسط والبعيد في شرك الانتقام منهم , والانتقام سيصيب أكبرهم , وليس من مصلحة أي طائفة أن تكون هدفا للانتقام والاظلام مرة أخرى , كما أنه ليس من مصلحة طائفة أقلية دينية , أن تتحول الى أقلية سياسية , وذلك عن طريق تنامي الوعي الذاتي الطائفي , وتناقص الوعي الوطني , وكيفما تطورت الأمور على المدى القريب , فسيكون النصر على المدى المتوسط والبعيد للوعي الوطني ..هكذا سارت الأمور في معظم المجتمعات , وهكذا ستسير في المجتمع السوري , لسنا شواذا ولسنا نشاذا , و كغيرنا نخضع الى حتمية التاريخ