تجاوزت جامعة الدول العربية بقفزة واحدة عقبتين رئيستين كانتا تبدوان عصيتين على التجاوز هما موقف النظام من المبادرة العربية، والموقف الروسي في مجلس الأمن من الأزمة السورية.
وكانت سوريا الرسمية تراهن على إقناع المراقبين بـ«أن هناك عصابات مسلحة تقتل المواطنين الأبرياء»، كما قال الوزير المعلم في آخر مؤتمر صحفي عقده، وإلا فإنها ستفشل مبادرتها. ومع أن مراقبي الجامعة تحدثوا عن مسلحين وأحياء ومدن خارجة عن سيطرة الدولة، فإن السلطة السورية لم تنفذ فعليا أي بند من بنود مبادرتها، بل أنها ضيقت عليها وحصرتها في مسألة المراقبين والأماكن السيادية التي يحق أو لا يحق لهم دخولها، وغرضها تفادي إطلاق سراح المعتقلين الذين يقدرون بعشرات الآلاف، والامتناع عن وقف إطلاق النار وسحب الجيش من المدن إلى ثكناته، والسماح بالتظاهر السلمي وبحرية عمل الإعلام الدولي في سوريا. هكذا، بدل أن تقف الجامعة عند قيام النظام السوري بإفشال الجزء الأول من مبادرتها، الخاص بوقف إطلاق النار وسحب الجيش وإطلاق سراح المعتقلين… الخ، وعوض دخولها في خلافات بلا نهاية مع النظام، نجد أنها نقلت عملها إلى القسم الثاني من مبادرتها، المتعلق بإيجاد حل سياسي تفاوضي للأزمة بين السلطة والمعارضة، يبدأ بمرحلة انتقالية تنتهي إلى نظام ديموقراطي تعددي / تمثيلي.
يلفت النظر هنا أن الجامعة تبنت ضربا من «حل يمــني» يحـدد مسبقا ما يجب أن يترتب على التفاوض من نتائج، ويقـوم على تخــلي الرئيس عن منصبه وتسليمه إلى نائبه خلال شـهرين، على أن يشـكل النائب حكومة وحدة وطنية خلال أسبوعين، تعمل في ظل ضمانــات داخلية وعربية ودولية تكفل تطبيقه، في زمن متوافق عليه بين أطراف الحل المختلفة.
فضلا عن هذا، قرر مجلس وزراء الجامعة الحصول على تأييد مجلس الأمن لمبادرته وللحل الذي حدده، كي لا يعطي روسيا أو الصين فرصة الاعتراض على خطوته، التي قال إنه سيحصل على موافقة المجلس عليها ودعمها بما لديه من خبرات وإداريين. وهذا إن نجح، سيكون حلا لمشكلة روسيا وموقفها في المجلس، الذي يعطل كل شيء، ويؤيد النظام في موقفه من الأزمة، رغم تطور الأمور السلبي، الذي يأخذ سوريا إلى حرب أهلية ستكون أسوأ ما يمكن أن تواجهه من كوارث. وللعلم، فإنه كان معلوما أن روسيا ستجد صعوبة كبيرة في استخدام حق النقض في حال كان هناك طلب عربي جماعي بتدخل مجلس الأمن، فماذا يمكن أن يكون موقفها بينما يتقدم العرب جماعيا بطلب يناشد مجلس الأمن دعم مبادرتهم، وهو أمر سيكون من الصعوبة بمكان أن ترفضه روسيا، لأن نتائجه قد تكون جد سلبية على مصالحها في منطقة عربية قررت بالإجماع التخلص من الرئيس السوري، لديها من القدرات والإمكانات ما يتيح لها حشرها في وضع يلحق بها اشد الضرر، ستكون فيه على خلاف مع دول عربية لها فيها مصالح أكبر بكثير من مصالحها السورية.
ثمة هنا أمران يلفتان النظر: حسم الموقف العــربي ضد النــظام دون ربطه بما تتوافق المعارضة والنظام عليه، وتحـديد نتيجــة الحـل السياسي قبل الشروع فيه، علما بأن العرب وافــقوا على ذلك بالإجـماع، أي أنهم أيدوا جميعهم بلا استثناء تغيير النظام السوري الراهن، ووضعوا الآلية الضرورية لذلك، من خلال مــا صار يسـمى «الحل اليمــني»، الذي ألمح وزير خارجية روســيا إلى أن بلاده ستـؤيد تطبيـقه على سوريا، وها هي الجامعة تقطع نصف الطـريق إليه، فهل ستغـير روسيـا قــرارها وتؤيد بدورها التغيير على الطريقة اليمنية في سوريا، ليــتم بذلك القفز فوق العقبة الروسية الكأداء، والخلاف الروسي/ الأمــيركي، الذي كان يعطل التدخل الدولي لحل الأزمة، لكنه دخل في مرحلة إيجابية خلال الأسبوعين الأخـيرين، ينتـظر أن تشجـع موسكو على إحــداث تعــديلات في موقفها، بعد أن دخلت الأزمة السورية في حقبتها الأكثر خطورة، وبدأت تأخذ صورة حرب منظمة للقضاء على «المسلحين» ـ انظـر المتظاهرين – أعلن عنها وزير الخارجية وليد المعلم في مؤتمره الصحفي يوم الثلاثاء الماضي (24/1)؟ إذا كان هذا صحيحا أو ممكن الحــدوث، فإنه يعــني فعليا نهاية النظام السوري القائم، كما قال متابعون كثيرون بحق، في تعليقهم على قرارات مجلس وزراء خارجية الجامعة، ودور مجلس الأمن المرتقب.
ثمة أمر ثان يلفت النــظر، هو الإجــماع العــربي على القـرار الخطير، وهو إجماع مباغت تماما، بالنظر إلى أن العرب لم يجمــعوا قبل أشـهر قليلة على المبادرة، وها هم يتـخذون قرار إنهاء رئاسـة بشـار الأسـد بالإجماع، فما الذي جعلهم يجمـعون اليوم على قبـول حل نهـائي غير تفـاوضي لقسم مبادرتهم السياسي، الذي قال نص المبادرة إن نتائجـه ستـترتب على التفاوض بين النظام والمعارضة، علما بأنه القسم الأكـثر أهمية وخطورة بكثير من قسمها الأول، التمهيدي والتقني. ومع أن الأمين العام للجامعة برر القرار بعدم قيام النظام بوقف القتل، فإن هذا بـحد ذاته لم يكن كافيا لإقناع جميع الدول العربية بالتخلي عن الرئيس السوري. ما الذي حدث؟ لا أعتقد أنه يوجد اليوم جواب نهائي على هذا السؤال المحير، الذي قد تقدم مداولات مجلس الأمن تفسيرا حول بعض أسراره ومعلومات عنها.
هناك أمر أخير يلفت النظر هو قصر الفترة الانتـقالية، التي وضــعت للحل، وهي شهران. السؤال الآن هو التـالي: ما الـذي سيفــعله العالم خلال هذه الفترة، التي ستشهد تصعيدا هائلا للعنف الرســمي في سوريا، لأن الأمل الوحيد المتبقي للأسد يكمن في تحـسين موقــفه عــلى الأرض، بعد تدهوره السريع في أعقــاب قبوله المبادرة العربـية، وتصاعـد المظاهرات والاحتجاجات ضد نظامــه، وخــروج مــناطق كثيرة عن سيطرته، وانتقال الموقف العربي منه إلى مرحلة التـدويل بمـا سيترتب حتما عليه من تعاظم في الضغوط الداخلية والعـربية والإقلــيمية والدولية. ما الذي ستفعله الجماعة الدولــية إن رفــض الأســد التخلي عن الرئاسة، ووســع الحــل الأمـني خـلال وبعد انتهاء المرحلـة الانتـقالية؟ لا شك أن هناك شيئا ما سيحدث، يتفق والحل العربي / الدولي المطروح الآن، فما هو؟ هذا أيضا سؤال مهم سيبــقى الجــواب علــيه بانتظار الفترة القصيرة القادمة، التي لن تتجاوز بالتأكيد شهري فترة الانتقال!
دخلت الأزمة السورية في مرحلة انتقالية زال غموضها وتحدد هدفها، تشهد تصعيدا داخليا حاسما حققه المتظاهرون خلال الشهر الماضي، يشير إلى بداية كسر التوازن الداخلي بين السلطة والمحتجين، وعربيا أنجزته جامعة الدول العربية بانتقالها إلى تقرير هوية الحل السياسي ومدته، ودوليا بطلب عون مجلس الأمن الدولي للعمل العربي، في تجاوز ذكي لأقلمة الصراع، ولردود فعل النظام الداخلية، وللمــوقف الروسي، الذي صار وحيدا ويقال إنه على مشارف تبدل قد يكون نتاج تفاهم مع أميركا على حل وسط يحفظ دور ومصالح روسيا في سوريا، يلي خروج الرئيس الأسد من السلطة.
بذلك، سيؤدي تغير البيئة الداخلية والعــربية والدولية إلى قصم ظهر نظام لم يجد حلا لأزمة سياسية / اجتماعية / اقتصادية / ثقافية / أخلاقية شاملة غير قصم ظهر شعبه، الذي أثبتت فئاته المخــتلفة في كل مكان وموقع من وطنه، أنها عازمة على الموت من أجل حريــتها، وأكدت بأدلة قاطعة أنــها لــن تتراجــع عما عزمت عليه، مهــما كانت التضحيات والمــصاعب، وهي اليوم أشد عزما وتصميما على بلوغ هدفها، بعد أن وقعت نقلة نوعية لصالحها في الموقفين العربي والدولي، فلم يبق عليها غير تجاوز الفترة القصيرة القادمة، التي يرجح أن لا تمتد لشهرين آتيين!
تقف سوريا اليوم على مشارف مرحلة جــديدة من تاريخها، أوصل شعبها خلالها الدور النضالي للشعب إلى ذروة غير مسبوقة في تاريخ العرب، لا شك في أن اقتراب تحققها سيعطيه المزيد من الإصرار على طي صفحة مؤلمة ومكلفة فرضت نفسها عليه خلال نصف قرن مضى، صنعت خلاله بيدها عناصر انهيارها، الذي بات وشيكا، يقاس بأشهر، وربما بأسابيع قليلة!
ميشيل كيلو