يمكننا كتاب طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد للكواكبي من فهم الكثير من الظواهر التي تميز الاستبداد والاستعباد في الوطن السوري , والذي قاد الى تأخر الوطن , الذي يشارف الآن على التدمير الكلي , بعد أن تدمر جزئيا وأساسيا .
لايقتصر اعتبار الاستبداد ,على أنه مصدر كل شر, على الكواكبي , وانما يشاركه في هذه النظرة عموم البشر , مع العلم على أنه هناك الكثير من الاختلاف في تعريف الاستبداد والاستعباد , ولست هنا مبدئيا في سياق التعريف بنظرة الآخر حول هذا الموضوع ,وانما في مجال طرح رؤية شخصية حو ل بعض اشكاليات هذا الأمر .
هناك تداخل وتشابك بينن الاستبداد السياسي والاستعباد الديني , حيث يغذي كل منهم الآخر , وحيث يجد كل منهم التربة الصالحة لنموه في مزرعة االآخر, , لذا يمكن التحدث في هذه المرحلة التي يمر بها الوطن , والمرحلة التي يمكن للوطن أن يمر بها , على أنهما حالات يمكن للثانية أن تتبع الأولى , أي قد يتحول الأمر (نظريا) من الاستبداد السياسيي-الديني , الى الاستبداد الديني- السياسي .
الأمر نظري بحت وذلك لعدة أسباب , فالسلطة الحالية , التي هي سياسية- دينية , هي سلطىة جزئية , أي أنها لاتسيطر على كامل الوطن , وليس لها من الشرعية مايكفي , والسلطة التي يراها البعض المتشائم قادمة لا تستطيع السيطرة على الوطن بشكل شرعي وكامل , السلطة تعاني من افتقارها للشرعية, والسلطة المرشحة للقدوم (السلطة الدينية -السياسية ) لاتستطيع أن تكون شرعية , ولا توجد الآن من شرعية أكبر من شرعية الأكثرية الصامتة ..الخائفة القانطة ..المتألمة من ممارسات الغدر والقتل والفتك والتخوين والتكفير , شرعية الأكثرية المذكورة ليست عددية فقط , وانما أخلاقية ..فلا السلطة السياسية -الدينية تستطيع البرهنة على أنها ساهمت ايجابيا في بناء الوطن وتطوير القيم الاجتماعية الى ماهو أفضل ..فالفساد الأسطوري ليس من أفضل القيم الاجتماعية !!!, , ولا السلطة الدينية -السياسية التي يرتقبها البعض, تستطيع البرهنة عن مقدرتها في بناء الوطن ايجابيا وفي تطوير القيم الى ماهو أفضل , , كلاهما يستطيع البرهنة فقط عن مقدرتهم في اسقاط الوطن في بحور الدماء , فلا السلطة الدينية -السياسية سوف تأتي , ولا السلطة السياسية -الدينية سوف تبقى, ما سيبقى بكل تأكيد هو الشعب والوطن , حتى وان تحول مرحليا الى أشلاء .
سبب عدم تمكن السلطة الحالية على البقاء , وسبب عدم تمكن السلطة الدينية -السياسية من القدوم , هو اعتماد كل منهما على الآخر حصرا , وليس على أكثرية الشعب , الذي وقع في براثن السلطتين , حيث تستخم كل سلطة منهما الآخرى للترهيب والارهاب , كل منهما يمثل “فزيعة” ويستمد قوته من ضعف الآخر , وليس من قوة أكثرية الشعب …الفزيعة هي من أهم مقومات السلطتين , التخويف من الحرية هو من أهم دعائم السلطتين , الارهاب هومن أهم ركائز السلطة الأولى” المفروضة “, والارهاب هو من أهم ركائز السلطة الثانية “الافتراضية” , والتاريخ لم يبرهن اطلاقا عن امكانية “تأبيد” المفروض , أو “تأبيد” المفترض .
قلائل هم من يريدون السلطة الحالية بشكل مطلق , أكثرية مؤيدي السلطة الحالية هم من فئة الخائفينن من كوارث افتراضية لسلطة افتراضية , التي يقولون على أنها قادمة !! , والسلطة الحالية التي تخيف البشر من سلطة افتراضية قادمة , تعترف بشكل غير مباشر بعدم شرعيتها , وبشرعية السلطة القادمة , لأنها تعترف بقوة تلك السلطة الافتراضية شعبويا ,السلطة الحالية تقدم طوعا هدية الى السلطة الافتراضية , وهذه الهدية تتمثل باعطاء السلطة الافتراضية شرعية لاتملكها حقيقة , فكيف وعلى أي أساس يمكن للسلطة الافتراضية الدينية -السياسية أن تأتي ؟؟؟؟ ديموقراطيا من غير الممكن اطلاقا , أي قسرا ! , وهذا القسر المفترض , هو التبرير السلطوي للقسر الحالي , وبهذا يمكن القول , على أن مشروع السلطة السياسية-الدينية مرتبط وجوديا بمشروع السلطة الدينية-السياسية ..وجهان لعملة واحدة …! مفلس يبرر افلاسه بلافلاس الآخر ! وسبب افلاس الأول والثاني هو البنية الهرمية في كلاهما , واعتماد كل منهما على منطق الاستبداد , الذي يحتاج الى المستبد الكبير والمستبد الصغير , فالصغير ضروري للكبير وبالعكس , وبينهما توجد علاقة تسمى علاقة الاستبداد , التي ترتكز في معظمها على ولاء الصغير للكبير , وعلى ولاية الكبير على الصغير .
لكي يتمكن الكبير والصغير من ممارسة مهماتهم ومهنهم , لابد من اختراع اطار معين للتعامل مع الآخر أي الضحية , وهذا الاطار يتضمن منهجية احتكار بعض القيم ..الوطنية مثلا ! المستبد الكبير يرى على انه الوطن , وتباعا لذلك فان كل خروج عن طاعته أو أي انتقاد له , هو بمثابة خيانة له , أي خيانة للوطن .. ولما كان التطبيل والتمجيد والتزمير له هو المضمون الأساسي للولاء له , وهو المضمون الرئيسي لنشاط المستبد الصغير , لذا فان كل من لايطبل ويزمر ويمجد فهو خائن وخارج عن مقاس ومعيار المستبد الصغير , ومن هنا نجد كثرة استخدام كلمة “خائن ” في الديكتاتوريات , وعدم استخدامها مطلقا في الديموقراطيات , واذا أخذنا الأدبيات السياسية السورية مأخذ الجد , يجب القول على ان كامل الشعب السوري خائن , وذلك لأن نصفه يتهم النصف الآخر بالخيانة والعكس صحيح .. ومن في رأسه بعض العقل لايأخذ صكوك الوطنية , التي يدعي البعض امتلاكها وامتلاك الوكالة الحصرية بتوزيعها مأخذ الجد ..انها الطفولة السياسية التي نعاني منها , ومن يمارسها هو نوع من الطفيليات السياسية .
لايقتصر احتكار القيم من قبل المستبد الصغير ومن قبل المستبد الكبير على احتكار “الوطنية” , وانما للاحتكار طابع شمولي كطبيعة الحكم , المستبد الكبير والصغير لايناقش ولا يحاور ولايبدي رأيه حول شيئ ما , لأن المواد التي يتعامل معها هي مواد قطعية …ولأنه محاط حتى درجة الاختناق بالخطوط الحمراء والسوداء … يترفع عن الدخول في الموضوع , ويبقى خارجه , الا أنه يحتفظ بالحق المطلق في تقيم مدى توافق طرح الموضوع مع اناشيد ونغمات الولاء والطاعة ..كالقول ان هذا الطرح لايتضمن أي حس وطني .وبالواقع فان بعض الطروحات لاتتضمن أي حس سلطوي , ولما كانت السلطة اللاشرعية هي الوطن , لذا لفان الخروج عن ارادة السلطة هو خروج عن ارادة الوطن ..هو خيانة له !!!!
الأمر يتعدى كل ماذكر , ويتطرف الى حد اعتبار كل تهديد للسلطة من أي جهة كانت , هو بمثابة تهديد للوطن , وكل محاولة لاسقاط سلطة ما , حتى وان لم تكن شرعية , هو بمثابة محاولة لاسقاط الوطن , الذي يجب على كل شريف أن يدافع عنه , ومن ضرورات ممارسة الشرف الدفاع عن الوطن , لذا فان العداء للسلطة هو عمل ليس شريف ..أي أن التطبيل والتزمير ليس أمرا سياسيا فقط , وانما هو موضوع أخلاقي …فيا أيها الوغد ! انك ترى كيف تهدد الأحلاف العثمانية والعربية والأطلسية السلطة (الوطن) , فكيف لك أن تصطف في صف آخر ؟؟؟ دعوة الى حماية السلطة بدافع اخلاقي ..ألا يخطر على بال المبتلي بهذه العقلية سؤال حول اخلاقية السلطة تجاه المواطن ؟؟هل حمت السلطة المواطن ؟؟؟واذا كان الجواب بالنفي , فما الذي يدفع المواطن لممارسة حماية السلطة ؟؟؟ والمبتلي بهذه العقلية يتجاهل الدور الأساسي للسلطة في تهديد الوطن وكياناته , هل في تحويل الفاساد الى عرف أو عادة أو شبه قانون هو تهديد للوطن وتهديم له , أو أنه بناء له ؟؟؟ بهذا السؤال أريد انهاء الجزء ا الأول من عدة مقالات حول الاستبداد والاستعباد ..لهذا البحث تتمة , والى اللقاء !