الإبادة الكيماوية التي يحضّر لها بشار الأسد

*
ترجمة: ياسر الزيات:

استطعت خلال سنوات مقابلة بشار الأسد مرات عديدة. قبله، كان لدي تواصل في مناسبات عدة مع أبيه حافظ، الذي نقل السلطة إلى ابنه بعد موته عام 2000، بعد ثلاثين عاماً من السلطة المطلقة.

أنا مقتنع أن كل شيء، حرفياً كل شيء، يمكن أن يفعله طغاة كهؤلاء. لأنهم، مع إدراكهم لهشاشة نظامهم أكثر من أي مراقب خارجي، يرون استخدام الإرهاب حتى في حدوده القصوى أداة من أدوات السياسة، أداة عادية أو طبيعية.

«الدولة البربرية»، كما وصفها ببساطة ميشيل سورا، تعتمد على أشد أنواع العنف حقداً ضد السكان، الذين عليهم الاختيار بين الخضوع أو الموت.

كذب الدولة

لإحقاق هذين الخيارين القاسيين، الأسد الأب والابن يعلمان أنه يجب تحقيق شرطين:

1) يجب منع أي نوع من المعلومات المستقلة من الوصول إلى الأراضي السورية؛

2) المعارضة المحلية يجب التعامل معها منهجياً كأدوات تلاعب خارجي، يفضّل الموساد الإسرائيلي أو المخابرات الأميركية، وإلا فالعراقية، التركية، السعودية، القطرية… حسب المرحلة.

هذا هو المنغلق الذي سمح لحافظ الأسد في آذار 1982 بإبادة عدد كبير من سكان حماه وتدمير ثلث مركز المدينة التاريخي. وهو المنغلق الذي استعاده بشار في أيامنا، أيام «الشفافية» المزعومة، عبر تصفية الصحفييين الأجانب والسوريين. حرية الوصول إلى الصحافة، على الرغم مما نصّت عليه خطط الجامعة العربية في كانون الأول 2011 والأمم المتحدة في نيسان 2012، ذهبت أدراج الرياح.

بمجرد ضمان هذا المنغلق، فإن على أبواق النظام زرع الشك في أي بيان للمعارضة يُنسب إلى «مصادر موثوقة». هذه الأخيرة محظورة في سوريا.

تلك الحلقة المفرغة دُفعت إلى أقصى حدودها في الأيام الأخيرة: مفتشو الأمم المتحدة مُنعوا في دمشق من الوصول إلى مواقع الضربات الكيماوية، على الرغم من قربها الشديد من فنادقهم. هذا لا يمنع من أن يَتهم تلفزيون النظام الرسمي الانتفاضة بالقيام بالجرائم التي ارتكبها جيشه هو، حتى دون أن يراه مفيداً أن ينقل مفتشي الأمم المتحدة إياهم لدعم أكاذيب الدولة.

بشار يختبر العطالة الدولية

هاجس بشار الأسد الذي ورثه عن أبيه هو نجاة النظام مهما كلف الثمن. الشعب السوري يختفي مع هذه الرؤية المتعالية لطاغية كان، ككل طغاة التاريخ، ملتزماً جزئياً بدعايته الخاصة.

المهم إذن ليس المراعاة، ولو النسبية، لمجموعة من السكان هم كتلة مهملة بالنسبة للطاغية، بل اختبار مدى العطالة الدولية مع كل درجة تصعيد جديدة ضد هؤلاء السكان، المتهمين طبعاً بكونهم حفنة «إرهابيين» و«جهاديين»، و«عملاء» للموساد أو للمخابرات الأميركية أو لدول الخليج.

منذ بدايات المظاهرات السلمية، في آذار 2011، أطلق بشار الأسد قناصيه لقتل المعارضين العزّل. بعد شهر تحركت مدرعاته نحو المناطق الثائرة. نفس هذه المدرّعات زُوّدت بعد ذلك بالأسلحة الثقيلة وراحت تزرع الإرهاب في المدن التي انضمت إلى المعارضة. ثم خلال الشتاء التالي اندفعت المدفعية تسحق المناطق الثائرة.

كل مرة يختبر الديكتاتور التصعيد الجديد في حقل محدد، يقيس عبث «الإدانات» الدولية، اللفظية تماماً، ثم يعمّم الممارسة على طول وعرض البلاد في سوريا.

هذا التصعيد الرهيب استمر في صيف 2012، مع التقليل من شأن الضربات الجوية على المناطق السكنية.

لم يجر أي تحرك ذي مصداقية ضد جرائم الحرب هذه، باستثناء بعض البيانات الساخطة والتقارير المنذهلة. بعد ذلك سيستطيع الأسد القصف بصواريخ سكود البالستية، بمدى 300 كم. لا شيء أبداً من هذه الأسلحة الإستراتيجية استخدمها نظام من قبل في مواجهة شعبه! مرة أخرى، العطالة تدوم، وبالطبع تشجع السفاح على تكرار الفعل ومأسسة سلاح إرهابه الجديد.

استخدام السلاح الكيماوي كان قد ثبت منذ عشية عيد الميلاد 2012 في أحد أحياء حمص. فقط قلقاً من التحدي المباشر لـ«الخط الأحمر» الذي رسمته إدارة أوباما، استخدم الأسد الكيماوي موسمياً، مازجاً بين الغاز المشلّ للأعصاب والمتفجرات التقليدية. نتيجة كل هذه الهجمات على مدى ستة أشهر كانت حوالي 150 قتيلاً، وهو رقم يبدو باهتاً بالمقارنة مع 100,000 قتلوا خلال المأساة السورية (لا شك أن هذه الحصيلة أقل بكثير من الحصيلة الحقيقية لأعداد القتلى).

قلب المحيط الأمني المهدّد

سكان المناطق «المحررة»، الذين دفعوا ثمناً هائلاً عرفوا من خلاله عدوّهم جيداً، مقتنعون تماماً أن الأسد، إن لم يتم إيقافه، سيشنّ هجوماً هائلاً باستخدام الأسلحة الكيماوية. المشافي الثورية في حلب، حيث كنت في تموز الماضي، مزوّدة الآن بمرافق أُقيمت على عجل من أجل الإسعافات الأولية والحد من العدوى والانتشار في حال حصل هجوم كيماوي.

مليون من قاطني هذا الجزء من حلب «المحرّرة» لديهم فقط 16 قناع غاز و10,000 جرعة أتروبين (الترياق الوحيد في حالة التعرض لغاز السارين).

حسب مصادر في المعارضة، قرار الحملة الكيمائية على الأحياء الثائرة في دمشق اتُخذ منذ 8 آب. في ذلك اليوم هرب بشار الأسد من هجوم استهدف محيط مسجد أنس بن مالك، حيث كان يصلي صلاة العيد.

كوني عشت لسنوات قرب ذلك المسجد، يمكنني القول إن تلك المنطقة هي قلب المربع الأمني للنظام. وهكذا فإن الدكتاتور، الذي كان عليه الاعتماد على وكالة حزب الله اللبناني لاستعادة موطئ قدم في حمص والقصير، مهدّد في وسط عاصمته نفسها.

بشار في حصانة تامة

بعد نجاته من هجوم في تموز 1980، أمر حافظ الأسد بمجزرة انتقامية ضد مئات السجناء السياسيين في سجن تدمر الرهيب. عقوبة استهداف الطاغية، الجريمة المطلقة في نظام الأسد، يجب أن تكون عمياء وشديدة الردع.

ربما منذ ذلك الوقت بدأ التخطيط والإعداد لضربة هائلة بأسلحة كيماوية، لمعاقبة سكان الأحياء الثائرة في دمشق وطردهم من أحيائهم، ومن ثم سحق الوحدات المتسللة إلى دمشق منذ عدة أشهر.

حصانة المجلس العسكري في مصر ربما شجعت الأسد على القيام بذلك. فبعد كل شيء، حوالي ألف مصري راح ضحية مجزرة بين 14 و16 آب من دون أي رد فعل دولي يتجاوز الإدانة اللفظية. إذا كانت مذبحة كتلك يمكن أن تحدث في بلاد ما زالت مفتوحة للصحافة الأجنبية، فإذن كل شيء ممكن في سوريا.

وصول مفتشي الأمم المتحدة إلى دمشق لا يمكن إلا أن يشجّع هذه الخطة: تفويضهم، الذي فاوض عليه بشراسة دبلوماسيون موالوون، متعلق بثلاثة مواقع فقط خارج دمشق، وهم ممنوعون من تحديد المسؤول عن الهجوم الكيماوي علناً. بالتالي فإن وجودهم، على عكس المطلوب، عاجز تماماً عن منع المجزرة بل ويشجع النظام على الإقدام عليها.

في 21 آب، بين 2:30 صباحاً و5:30 صباحاً، تم إطلاق عشرات الصواريخ من القواعد العسكرية الحكومية باتجاه الغوطة، أي الضواحي الشرقية والغربية للعاصمة. أغرقت المشافي الميدانية بالضحايا المتدفقين بسرعة. نسبة الأطفال مرعبة، بسبب قابليتهم الأعلى للتعرض للغازات. عائلات كاملة قُتلت أثناء نومها، فعادةً حرارة الصيف تجعل الناس يفتحون النوافذ ليلاً. الحصيلة تجاوزت الألف قتيل، بما في ذلك 355 ضحية أعصاب حسب تقارير لـ«أطباء بلا حدود».

مرت أربعة أيام منذ ارتكاب تلك المجزرة غير المسبوقة في سوريا، وكما راهن بشار الأسد، مرة أخرى لا شيء يشكّك بحصانته. وهكذا، وكما في كل تصعيد في درجة الرعب، سيمكنه التقليل من كارثية هذا السلاح الجديد ضد شعبه.

ثلاثة سيناريوهات ممكنة

بعد ضواحي دمشق، هناك حمص أو دير الزور. كذلك لا يمكننا الآن استبعاد صواريخ سكود برؤوس كيماوية تطلق على حلب، هذا إذا أردنا تجاهل ثاني مدينة في البلاد تقع تحت القبضة الكاملة للثورة.

ثلاثة سيناريوهات رئيسية تلوح في الأفق القريب جداً، على الأقل هي الأكثر معقوليةً:

• إدارة أوباما، بعد تقديرها أخيراً فشل سياسات ساهمت بتقوية كل من بشار الأسد والجهاديين، تقرر مع حلفائها القيام بضربات دقيقة ضد مراكز القيادة في النظام، مع تركيز على قواعد انطلاق الهجمات الكيماوية. ويبدو أن انتشار الأسطول الحربي في شرق البحر المتوسط يرجح هذه الفرضية.

لكن منطق «الحرب الباردة» هذا يناسب تماماً مخطط الدعاية التي يتبناها الأسد وحليفه الروسي. كما أن تردد الرئيس الأميركي في التورّط العسكري في الشرق الأوسط معروف جيداً.

وأخيراً، إسرائيل مرتاحة دوماً لهذا الحياد المشترك للميليشيات الشيعية والمتطرفين السنة تجاهها. بخصوص تركيا فهي أكثر انهماكاً في أزمة نظام إردوغان من أن تدخل معركة كهذه.

•• المقاومة السورية تحصل أخيراً على المضادات الجوية والأسلحة المضادة للدبابات التي وُعدت بها منذ سنة دون أن يصل منها شيء. ومن هذا الموقع تتوفر أفضلية تمكنها من تقوية الموقف الوطني للثورة السورية وتسمح لها بتحييد المزايدة الجهادية عليها.

ليس مؤكداً أن هذا الخيار، وقد كان مضمون الجدوى في خريف 2012، يمكنه التفوق في معركة لا بأس فيها بالاستخدام التكتيكي لأسلحة كيماوية! على كل حال، المخابرات الأميركية تريد دعم وكلاء لها، كأولئك الذين دعمتهم في كوسوفو عام 1999، وهي ترفض التعاون مع فرق عسكرية سورية شديدة النزوع نحو الاستقلال.

••• لذا من المحتمل جداً ألا يحدث شيء ذو أهمية، باستثناء هيجان دبلوماسي-عسكري بعيد جداً عن التطورات على الأرض.

سترشح بعض التسريبات بطريقة ذكية لتجعلنا نصدق حكاية العمل السري للمخابرات الغربية، مبررة بذلك السلبية العلنية للقادة الغربيين. كما أن منع التحقيق المستقل من دخول الأراضي السورية سيفتح المجال لكل نظريات المؤامرة. بعض من سينصّب نفسه «فولتير»سيتذرع بـ«حريته في التفكير» ليُدين حق السوريين في عدّ موتاهم.

ما قبل وما بعد 21 آب 2013

والعالم سيستمرّ في الدوران. أو هكذا سيظن على الأقل. لأن 21 آب 2013 سيكون فاصلاً، وسيكون هناك «ما قبل 21 آب» و«ما بعد 21 آب». بشار الأسد يحضّر حالياً لحملة الإبادة الكيماوية القادمة، وستكون ذات درجة مختلفة تماماً. على عدة مستويات، هو يقرأنا (نحن الغربيين) ككتاب مفتوح، ولا يملك تجاه مجتمعاتنا إلا أقل الاحترام.

كنت قد سمعت حافظ الأسد يدعي أنه كان يجب قتل غورباتشوف كخائن للوطن السوفييتي. بشار وشركاؤه لهم أن ينظروا بشماتة إلى تشوّهات «المجتمع الدولي».

لذا فإن هذه العطالة الدولية اشتراك في تلك الجريمة-الإبادة القادمة، التي لن تلبث أن تحدث. حاكم دمشق سيزرع الإرهاب طالما أنه لا يُردع. وأمامه مروحة من الخيارات لتصدير الفوضى إلى البلدان المجاورة.

كان صدام حسين يسكر بحصانته بعد سنتين من هولوكوست حلبجة الكيماوي ضد الأكراد العراقيين، قبل أن يقرر غزو الكويت عام 1990. أراهن أن بشار الأسد لن ينتظر طويلاً قبل أن يدفع المنطقة كلها في دوامة من الرعب. في سوريا، المسألة لا تتعلق فقط بالأخلاق الأساسية، بل كذلك بالأمن الجماعي.

*أستاذ جامعي فرنسي

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *