نشـأة داعش و ارهاب “الدولة الاسلامية”

بقلم:الياس خوري

القيم الانسانية في مواجهة البربرية الداعشية…كيف نقاوم مملكة التوحش التي تحاصر حضارتنا؟

المواجهة مع أهوال الفكر الداعشي ستكون رهيبة ودموية، لأنها معركة القيم الإنسانية في مواجهة التوحش، وهي معركة طويلة، وعلينا أن نخوضها كأفراد وجماعات، بوعي من يصنع من يأسه نافذة للأمل. ولا خيار لنا سوى التمسك بقيم الحرية والعدالة، وإعطاء هذه القيم دلالات ملموسة، والتوقف عن انتظار فرج لن يأتي، فلا “نظام الاستبداد العربي سينقذنا ولا أمريكا معنية بآلامنا”.

لولا الحياء لقلنا إنها مؤامرة. لكنها مؤامرة، ولن يوقفنا الحياء، والموضة الدارجة برفض التحليل التآمري، عن تسميتها باسمها.

والمؤامرة ليست أمريكية فقط، كما يظن السُذّج، ولا إسرائيلية، كما نشتهي أن نقول، إنها مؤامرة صنعها العرب ضد أنفسهم. انها من صنع أيدينا أولاً، وعلينا أن نبدأ بالاعتراف بهذه الحقيقة، كي يحق لنا بعدها التحدث عن مسؤوليات الآخرين.

ممالك الصمت العربية التي شملت الجمهوريات الوراثية كلها، من سوريا إلى مصر إلى العراق إلى ليبيا إلى تونس إلى اليمن إلى آخره… صنعتها أحزاب وجيوش ونخب قومية، صعدت على أشلاء الحرية في مرحلة الحرب الباردة، واستنفعت في مناخات الهزيمة أمام إسرائيل، وحوّلت الفساد والطائفية من أمراض إلى أوبئة. وبدلاً من العدالة الاجتماعية التي بشّرت بها، قامت بتدمير الطبقات الوسطى، وإفقار الفقراء، وحطمت القيم الأخلاقية، واستباحت المجتمع.

دعارة الريع النفطي

أما ممالك صمت الأنظمة الملكية فحولت الريع النفطي إلى دعارة شملت كل مناحي الحياة، من دعارة الأجساد إلى دعارة السياسة والصحافة والإعلام والثقافة والرياضة. صار الغاز بديلاً عن الأوكسجين، فتسممت العقول، وانحنى الجميع أمام خطاب قاطعي الأيدي والرؤوس.

وحين التقى الصمتان في زمن المحور السعودي- المصري- السوري، انتشر الفكر الظلامي كالنار في الكاز، وصار الالتحاق بـ المجاهدين» الأفغان، واللباس «الشرعي» والشوارب المحفوّة، سمة عامة امتدت من الجزائر إلى مصر، قبل أن تنفجر فينا، وينفجر النظام العربي بعد نهاية الحرب الباردة.

حزب البعث العراقي غيّر علم بلاده وأضاف إليه الشعار الإسلامي، والبعث السوري جعل من سوريا مركز تجميع مقاتلي القاعدة الذاهبين الى العراق، أما السعوديون والقطريون فاختبأوا خلف شعار الدفاع عن أهل السنة، ولكن بدل البديل الذي حاولت أن تكونه ممالك الصمت والقمع والنفط جاء الأصيل، الذي يحمل الفكر الوهابي التكفيري الواضح، ويأتي الناس بالذبح والصلب وقطع الرؤوس.

فشل قوى التغيير الديمقراطي في قيادة التحوّل

لا أريد تبسيط المسألة، فالانقلاب الشامل حصل عندما فشلت قوى التغيير الديمقراطي في قيادة التحوّل الذي صنعته الثورات العربية. والفشل له أسباب متعددة، ولا يمكن اختزاله فقط في وحشية آلة القمع التي مارستها الأنظمة. فإلى جانب هذه الوحشية التي لا سابق لها، والتي اختزلها النظام السوري في قمعه الفاشي للانتفاضة الشعبية المطالبة برحيله، برز القصور السياسي والثقافي الذي جعل من النخب التي تصدت لقيادة التحرك الشعبي عاجزة عن مواكبته، فاستسلمت لوهمين:

  • وهم الدعم العربي الذي وفرته ممالك الصمت، عبر إعلامها و»مساعداتها» المالية والعسكرية بهدف تسليط الاسلاميين على الثورة المسلحة، ما قاد الى اندثار الجيش الحر، وتلاشي المعارضة السورية.

  • ووهم الخطاب النيوليبرالي المعولم، الذي أوحى بأن الدعم الأوروبي والأمريكي سوف يجعل من ربيع الثورات العربية امتدادا لربيع أوروبا الشرقية، واستكمالاً للتدخل العسكري الأطلسي الذي بدأ في ليبيا!

وهما أوقعا المشرق العربي في فخ الصراع السني- الشيعي او الإيراني- السعودي، و/او قادا الى تحويل المؤسسة العسكرية خشبة الخلاص الوحيدة من أشباح الحرب الأهلية ودولة الخلافة، مثلما حصل في مصر، بحيث استعاد الجيش قبضته على البلاد محمولا على اليأس من التغيير.

كل الأوهام كانت تهيء الأرض لاستقبال مخلوق عجيب اسمه “الدولة الإسلامية”، التي أعلنت أنها طوت صفحة التغيير واستبدلتها بكابوس الوحشية.

“داعش” هي ابنة الحرب الباردة في مرحلتها الأخيرة، لكنها أيضاً بداية الحرب الشاملة على المشرق العربي. شيء يشبه الكابوس، مسلحون يخرجون من عتمة الحاضر بصرخة هي مزيج من الهوس الإجرامي والتطهر بالدم من جهة، وحلم استعادة خلافة إسلامية قرشية انهي العثمانيون قرشيتها منذ خمسة قرون، قبل أن تندثر كل إشكالها في نهاية الحرب العالمية الأولى، من جهة ثانية.

انها انتقام الصحراء المؤجّل، وصرخة الثأر من إنهيار القيم السياسية والأخلاقية والإجتماعية الذي حوّل بلادنا الى رهينة في أيدي الضباط والمافيات، ونساءنا الى سبايا جنون الديكتاتور وحاشيته. إسألوا نساء العراق وسوريا وليبيا كيف كانوا يُخطفون ويُغتصبون على ايدي العصابات الحاكمة، وذلك قبل عقود من ارتفاع صيحة البغدادي وجيشه بالذبح والإبادة وسبي النساء.

جيش البغدادي هو فصل جديد من هذا الإنهيار، وهو يستكمل ما عجزت الديكتاتوريات عن صنعه، محولا بلادنا الى ساحة للطائرات والموت.

هزيمة «داعش» عسكرياً مستحيلة، ومهما قيل عن ذكاء الطائرات المغيرة، وعن الحلم التركي باستعادة الهيمنة على المنطقة، فإن المسألة لا يمكن حسمها عسكرياً. قد تضعف «داعش»، وقد تنسحب من بعض المدن، لكن هذا لا يغيّر من حقيقة أن «داعش» نجحت في أن تعبّر عن اليأس الشامل الذي يلفّ هذه البلاد.

يأس بدأت ملامحه في التشكّل بعد الهزيمة الحزيرانية وموت عبد الناصر وتحول أشباه الزعيم المصري الى مجموعة من القتلة واللصوص. يأس تجلّى حين استطاع النظام العربي أن يتناسى الجرح الفلسطيني، فقادته الأصولية التي اعتقدت انها بديل الناصرية الى التحول الى مرتزقة عند الامريكيين في أفغانستان.

الطائرات لا تنتصر على اليأس بل تعمّقه وتجدده، والحرب على «داعش» لن تقود الى مكان، بل ستزيد من تفتت المنطقة، وتدمير اقلياتها، وتحوّل ملايين اللاجئين العرب والكرد والأزيديين إلى علامة هذا الزمن الأسود.

كيف نقاوم مملكة التوحش التي تحاصرنا؟

تبدأ المقاومة حين نعي بأننا نواجه فصلا جديدا من الاستبداد، لا يختلف عن الفصل الذي سبقه سوى بالشعار الديني الذي يتغطى به.

وفي هذه المواجهة الرهيبة والدموية، لا خيار لنا سوى التمسك بقيم الحرية والعدالة، وإعطاء هذه القيم دلالات ملموسة، والتوقف عن انتظار فرج لن يأتي، فلا نظام الاستبداد العربي سينقذنا ولا أمريكا معنية بآلامنا.

إنها معركة القيم الإنسانية في مواجهة التوحش، وهي معركة طويلة، وعلينا أن نخوضها كأفراد وجماعات، بوعي من يصنع من يأسه نافذة للأمل

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *