المحظورات المتجددة

بقلم:سلام الكواكبي

عاش السوريون خصوصاً، وساكنو البلاد العربية عموماً، عقوداً في ظلّ المحظورات السياسية والدينية والاجتماعية والاقتصادية. فسياسياً، أطبقت النظم المستبدة بأنيابها المشذّبة، أو الملونة، أو المتّسخة، على رقابهم، ومنعت عنهم التفكير والتعبير والتوصيل. فقد عاشت شعوب هذه المنطقة، الموبوءة بحكامها وأنظمتها الفاسدة، تتحاشى الخوض في الأمر السياسي والفعل السياسي، تجنباً للأمن السياسي. ونشأت أجيال مُساسة وغير مُسيّسة. وغلب التندّم على من عاش حقبات ديمقراطية سابقة ولو قصرت. وانتشرت ظاهرة الحزب القائد أو الأب القائد أو الزعيم أو الفاتح من جهة، وطوابير الخضوع المدرسية والتموينية والعسكرية لدى الرعية من جهة أخرى.

أما الأمر الديني، فقد استعمله السياسيون، منذ قرون، أداة إخضاع وتخويف وتجهيل وتحفيز على إغفال المنطق، وإجهاض الإبداع، وغلق باب الاجتهاد، والتنكّر لكل حمولة إنسانية في الرسائل الدينية، سعياً إلى التمترس وراء الكلام الديني في ظاهره، ومن كل الأديان، بعيداً عن محتواه، وعن تحليله، وعن إرفاقه بمجريات وتطورات الحياة والإنسان. وكما أنه قد استطاب للسياسيين استغلال الدين، فقد استطاب لرجال الدين الخضوع لمتطلبات السياسة والسياسيين، وتقديم خدماتهم في تطويع وترهيب وتأطير وتقنين وترويض مجتمعات بأكملها. وفي طور الخضوع والإخضاع، استطاع بعض المتعممين الرسميين تجاوز أهداف صاحب الأمر والنهي، لكي يبنوا ممالكهم التجهيلية والظلامية.

واجتماعياً، تضافرت عادات وتقاليد وموروثات متشابكة مع العامل الديني، لكي تنشئ جداراً من المحظورات والممنوعات، تساهم، بدورها، في خنق التفكير والعمل الإبداعي، والخروج من شرنقة الممنوع إلى أجنحة المسموح الذي يساعد على بناء حاضر أية مجموعة بشرية ومستقبلها. واستناداً إلى عقلية ذكورية متلاقحة مع ثقافة استبدادية وإقصائية، استطاعت المؤسسة الاجتماعية، بتمثيلها المشوّه، أن تساعد في التضييق على أبناءها وبناتها.

وأخيراً وليس آخراً، فللاقتصاد وإدارته كلمة في تدعيم حصن المحظورات، بتطوير شبكات اقتصادية هامشية التموضع، مركزية الفعل، والتأثير في مختلف أنواع النظم الاقتصادية، المعلن منها والمخفي. فكما جرى التلاقح بين السياسي والديني والاجتماعي، فقد انضم إليهم الاقتصادي من دون تجاوز العدد المسموح من تعدد الزيجات. وصار الاقتصادي، كما الاجتماعي، أداة في يد الرسميين والمتعممين الرسميين في تطويع المجتمعات، بإفقارها ونشر ثقافة الفساد والإفساد ضمنها. وظهرت المحظورات الاقتصادية جزءاً من منظومة أمنية/ سياسية، تعتمد المحظور الديني والاجتماعي، لتبني جداراً في وجه التنمية والتوزيع العادل للثروات والتعامل الإنساني مع مطالب الفئات العاملة. وجرى ذلك طوراً تحت مسمّى الاشتراكية، وأطواراً بمسميات ليبرالية بامتياز.

خرجت المجموعات الشبابية في احتجاجاتها المتعددة في البلدان العربية لتحاول كسر مجمل هذه المحظورات. واشتبكت مع أصحاب المصالح من سياسيين ودينيين واقتصاديين. ودفعت أثماناً باهظة، ظهرت جليّة في جداول الموت والإصابة والاعتقال واللجوء والتهجير. وتنوّعت شعاراتها بين أعمدة هيكل القهر الأربعة المذكورة أعلاه. فتجاوزت الخوف من السياسي، وخرجت عن طوع الديني الرسمي، واعترضت على الأبوية البطريركية الاجتماعية، وطالبت بحقوقها الاقتصادية المغتصبة يساراً ويميناً.

ما غاب عن هذه الجموع التي أتت من الحلم بغد أفصل، أن الإنسان قادر على إعادة استنباط المحظورات والممنوعات. وهو قادر، أيضاً، على تعزيزها أو تشديدها. وغاب عنهم أن وسائل التواصل الاجتماعية الحديثة، على الرغم من تطوّرها، فهي، أيضاً، وسيلة فعّالة في نشر المحظورات، والتشديد عليها والترويع بها. فأصبح التعبير عن الرأي من خلالها خاضعاً لقمع لم يكن متخيلاً في مراحل سابقة. فإضافة إلى القمع السياسي والديني والاجتماعي والاقتصادي، انبثق القمع الافتراضي.

ولهذا النوع الجديد من القمع، ظواهر عدة وتأثيرات مختلفة، فهو منتشر بكثرة في “فيسبوك” والمدونات، من خلال التعرّض لأفكار لا “تعجب” أو لا “تليق” هذا الطرف، أو ذاك من أصحاب العقول الحامية والثقافة الضحلة والحلم الضيّق. ومهما تعددت المواضيع، فالنفسية القامعة متشابهة. فلا يحق لك، مثلاً، إن كنت غير مسلم، أن تتناول ممارسات يقوم بها من يتقنع بالدين. وإن كنت مصرّحاً بعلمانيتك، جهاراً نهاراً، من غير خوف من لومة لائم، فستنهمر عليك شتائم تكفيرية، لا تُظهر فقط عنف التعامل الذهني لشاتمك، بل جهلهم المعرفي وخلطهم بين المفردات. وإن تطرّقت إلى التجربة الاشتراكية بحلوها أو بمرّها، وهو الأغلب، فأنت “عميلٌ إمبريالي”. وإن استعرضت التقارب المعرفي والمفرداتي بين السياسات القومية المختلفة في التاريخ الحديث من إيطاليا موسوليني إلى ألمانيا هتلر إلى عراق صدام حسين، فأنت ما في قاموس الشتائم من أوصاف، وسيأتيك ذلك من ذات اليمين الديني “المتقومج” إلى ذات اليسار البافلوفي المتحجّر. وإن تطرّقت إلى الحالة المصرية بنظرة ناقدةٍ مجريات الثورة المضادة، فأنت سوري لا يحق لك التعرّض لما لا يعنيك، وعليك الاكتفاء بهمومك وما أكثرها.

الشعوب قادرة على اجتراح المعجزات، فمهما سعت إلى حريتها فهي قادرة على أن تعيد إنتاج أدوات الحدّ منها أو إلغائها. وإن كان بعضهم يحصر هذه الظواهر في العامة، فهو يرتكب خطأً مبيناً. لأن المحظورات الافتراضية أكثر ما تكون سلاحاً في يد النخبة.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *