أن تغدو تمثالاً أسدياً

 بقلم:رغيد الآغا

رمزية التمثال قديمة قدم الزمن، منطلقها ديني غيبي، حيث تجسيد الآلهة في جسم مادي ملموس يتيح التواصل معها والتضرع إليها في طقوس تعبدية تجنبا لغضبها وسعياً لرضاها، لكن لم يكن في حينه للآلهة مشيئة في ذلك لانتفاء وجودها الفعلي ، إنما اتفق عليه جمع بشري، أما الطاغية فهو من يوعز للفنانين ليستنسخوه في تمثال تأله ذاته وتفرض هيبته، مما ويوحي لعقول رعاياه بمدى قدسية تماهيهم مع تماثيله.

فالطاغية لا يكتفي بفرض سطوة وجوده الفردي، بل ويعمد إلى نسخ ذاته الفردية عبر ميئات التماثيل. هو يدرك جيداً أن الغاية من نصب التمثال في ساحة أو شارع وسيلة لاستنساخ حضور المنسوخ عنه في أوسع حيز جغرافي واستدامته لأزمنة مفتوحة وهذا ما يطمح إليه.

وإذا ما توافق نصب التماثيل لشخصيات بعينها عبر مراحل التاريخ بعيداً عن البعد الديني، يكون تعبيرا عن التقدير والاحتفاء بإنجازها الفكري أو العلمي أو السياسي أو العسكري، كتمثال أرسطو وفيثاغورس و هوميروس والاسكندر المقدوني وتمثال الحرية على سبيل المثال، و تصبح هنا مداليل التماثيل مفهومة وواضحة لنا، وربما للطاغية، لكن أن يقيم الطاغية تماثيل لذاته بوصفه أداة تصدت لروح الفكر والعلم، بشتى أنواع العنف والتعسف، معنى ذلك أنه يسعى إلى حرف مداليل التماثيل انحرافاً كبيراً، ويعمد إلى نشر روح الخضوع لمشيئته بوصفه (إله أرضي). والانحراف لا يقتصر على المدلول وحسب، إنما يطال الأسلوب أيضاً، ففي الحالة الأولى تبادر روح جمعية، سواء كانت علمية أو فكري أو سياسية أو دينية، إلى اقامة تمثال كرد عرفان لتلك الشخصية وتخليد آثرها، بينما في الحالة الثانية، الطاغية هو من يوعز أو يشرف على استنساخ ذاته في تماثيل لفرض حضوره الذاتي في ذوات متعددة حتى وأن كانت حجارة .

وإذا ما قارنا هنا بين قيمة المعنى الاثري لتماثيل شيدت في مرحلة تاريخية سابقة، وبين تماثيل تشيد في ساحات وشوارع لرجل قائم في ذات الزمان والمكان ، لفهمنا البون الشاسع بين الحالتين، فالأولى ترمز إلى ملمح حضاري، وإبداع بشري يروي حكاية تاريخية اتفق عليها ضمير جمعي، والثانية تعبر عن غطرسة وهيمنة تملى قصراً على العقل الجمعي، يراد منها تجميد اللحظة الزمنية وعدم السماح لها بعبور المستقبل لكونها لحظة أبدية لدى الطاغية، وفوق ذلك يحتاج الطاغية إلى متماهين معه، ليكونوا ظلال وذوات له، وفي هذه الحالة تنتفي شخصيتهم، ولا يعود ثمة فراق جوهري يميزهم عن التماثيل، سوى من كونهم يتحركون في الحيز المكاني والزماني المحددين، أما عقولهم جامدة كجمود التمثال، يلمحون ذواتهم انعكاساً لذات الطاغية الكلية الحضور، مما يسلب فاعلية إنسانيتهم ويحيلها إلى حالة ثبات وجمود شبيه بجمود الطاغية في تمثال.

ومن هنا يمكن أن نفهم اندفع رعايا النظام البعثي في سوريا، المستنسخين عن تماثيل سيدهم، لممارسة السلوك الوحشي تجاه المتظاهرين السلميين في بداية الثورة، دفاعا منهم عن الثبات في بنية الزمن والمكان، وتلك عقيدة أرضعتهم إياها سياسة النظام السوري عبر عبادة التماثيل، ولهذا ما أن شاهدوا تماثيل سيدهم وهي تحطم على يد المتظاهرين، ما عاد من شيء مقدس بالنسبة لهم، لا الإلهة، ولا دور العبادة، ولا المعالم الاثرية، فسارعوا يهدمون المدن ويحرقون كل معالم الحضارة السورية، ثأراً لتماثيله التي راحت تتهاوى أرضاً، وبغرض الدفاع عما بقي قائماً منها تم استدعاء قوات من الأمن والجيش ليستشهدوا في محرابها.

ومن هنا كان يمكن لتماثيل حافظ الأسد التي راحت تزرع على مساحات الجغرافية لسورية في بداية تثبيت حكمه، أن تنبئ عن المشروع الأبدي والتأليهي الذي كان يخطط له، لكن لعل أذهان الناس لم تفطن إلى هذا الأمر في حينه، حيث كانت مأخوذة بزحمة المهرجانات والخطابات العقائدية، وربما هذه المؤشرات الناتجة عن التماثيل المنتشرة في الجغرافية السورية كانت السبب الذي دفع بالثوار إلى تحطيمها، ليحطموا من خلالها هيبة وغطرسة الأسد، ويكنسوا فكرة التأليه من عقولهم، معلنين عن تحرر ساحاتهم وشوارعهم من سطوة الخرافة الأبدية.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *